المشكلة الكردية بين رؤيتين ….
يوسف سلامة*
لو حاولنا أن نتبين الكيفية التي نُظر بها إلى المشكلة الكردية في سورية، عبر الخمسين سنة الفائتة، لتبيّنا، بوضوح، أن الرؤية التي سيطرت على أسلوب النظام السوري في تناول هذه المشكلة، هي الانطلاق من (الرؤية الأيديولوجية) التي وضعت العرب، وفهم النظام الخاص للمصلحة العربية، فوق كل حسبان؛ وهذا ما جعل النظام يُبيح لنفسه اتخاذ سلسلة من الإجراءات غير المنسجمة مع حقوق الإنسان، ولا مع احترام مبدأ الشراكة الذي يجب أن تنطلق العلاقة منه بين أبناء الوطن الواحد؛ حتى وإن تباينت انتماءاتهم الاثنية والثقافية والسياسية. لقد فعل النظام كل ذلك، متخفيًا وراء المخاوف من رغبة بعض الأكراد في الانفصال التي ظللت عناصر المشهد كله.
وفي المقابل، كان كثير من الأكراد ينتهجون النهج نفسه، أو ما يشبهه، في تصورهم للمشكلة الكردية وللحقوق الكردية في سورية.
وهكذا ورّط الطرف الكردي نفسه باللجوء إلى الأداة نفسها، أعني مواجهة الأيديولوجيا بأيديولوجيا مماثلة، والتعصب القومي بتعصب قومي مقابل. وهكذا بالغ بعض الأكراد في الحديث عن وحدة أراضي كردستان مدفوعين بدافع أيديولوجي محض في مقابل مبالغة العرب -التي لا تستند إلا إلى أسس أيديولوجية– بالحديث عن وحدة الأمة العربية. وهكذا غاب الفهم الصحيح للمشكلات، واتسعت شقة الخلاف. ولجأ النظام في إطار هذه المواجهة، في كثير من الأحيان، إلى إجراءات هي أقرب إلى الانتقام والتنكيل بالخصم، بدلًا من إحقاق الحق ورفع الظلم الذي كان بيّنًا في كثير من الإجراءات المتخذة في المحافظات السورية، الواقعة في الشمال الشرقي من البلاد، والتي تعايش فيها العرب والأكراد -تاريخيًا- بسلام ووئام.
والنظرة الموضوعية اليوم إلى المشكلة الكردية –أو شبه الموضوعية– تحتم على الجميع دمج المشكلة الكردية في صميم المشكلات الوطنية السورية، تجنبًا للوهم الذي قد يوحي بأن الأكراد لا يُفكّرون في بناء (الوطن السوري الموحد)، بوصفه أولوية راهنة، بل هم يمضون، على العكس من ذلك، إلى إنزال المشكلة الكردية منزلة المشكلة الوحيدة، أو على الأقل مشكلة المنزلة الرئيسة بين المشكلات السورية.
وعلى أي حال، فإن النظر إلى جميع المشكلات السورية، على أنها تتمتع كلها بالأولوية وبالأهمية المتساوية، شرط ضروري يسمح ببناء جسور من الثقة المتبادلة، تمكننا من وضع أطر عادلة ومنطقية لصوغ التفاهمات والتوافقات، التي تيسر على الجميع الشروع في بناء تصور جديد لسورية، يرتقي بها إلى أن تكون دولة للمواطنة، بما تقتضيه المواطنة اليوم من الالتزام بأحدث الأساليب العصرية في الحياة التي يأتي في مقدمتها الاعتراف بالمساواة التامة بين جميع أبناء الوطن السوري الواحد حتى قبل الدخول في التفاصيل والتنوع الثقافي والقومي.
إن الانعطاف في الرؤية إلى سورية من كونها جزءًا من الأمة العربية، التي تبحث عن وحدتها من الخليج إلى المحيط، ومن كون بعض الأراضي السورية جزءًا من “أرض كردستان”، إلى النظر إلى سورية على أنها وطن للسوريين –كردًا وعربًا– يُشكّل مرحلة حاسمة في التحول من (الرؤية الأيديولوجية)، التي يتصور العرب والأكراد بمقتضاها أنفسهم أمّتين متصارعتين ومتنازعتين على السيادة على كل الأرض أو بعضها، إلى رؤية جديدة تتخذ من (الوطن السوري) مركزًا لها.
ومن شأن هذا الأسلوب تمكين السوريين من تخطي عيوب التفكير الأيديولوجي القومي بما يشتمل عليه من أوهام ومبالغات، وفي النهاية تجنب كثير من صور (الوعي الزائف) الذي لا انفكاك له عن الأيديولوجيا أينما وجدت، فهذه هي خصائصه الجوهرية.
ولقائل أن يقول: وهل فكرة (الوطن السوري) فكرة مبرأة من كل ما هو أيديولوجي؟ والجواب بالنفي طبعًا. ذلك لأن الفارق كبير بين المواجهة الصراعية والعنيفة بين أيديولوجيتين قوميتين، لكل منهما أوهامها التاريخية وأمراضها المزمنة، وبين الانطلاق من فكرة جامعة، تسمح بإعادة طرح المشكلات، وفقًا لمنطق سلمي جديد، وفي المقابل ليس من شأن بقاء الأكراد والعرب حبيسي الأيديولوجيا القومية، إلا جعل الحوار بينهما مستحيلًا، وبقاء النقاش حول جميع القضايا نقاشًا خارجيًا؛ لأنه يدور بين خصمين وذاتين قوميتين، تستهدف كل منهما إخضاع الطرف الآخر، بصورة أو بأخرى، تحت مسمى وهمي أو قناع أيديولوجي اسمه الحوار. أما إذا اقتنع الجميع بالتحول إلى مفهوم (الوطن السوري الواحد)، فسيصبح كل خلاف أو اختلاف أمرًا داخليًا وواقعًا ضمن نطاق الذات الواحدة أو الشعب الواحد، الذي بوسعه حل مشكلاته باللجوء إلى الأساليب المتمدنة الكفيلة بالوصول إلى التوافقات البنّائة.
إن الارتقاء في التفكير من المستوى الأيديولوجي الخارجي إلى المستوى الوطني الداخلي، من شأنه أن يُنتج فكرًا بناءً ومستنيرًا قادرًا على تخطي ضروب كثيرة من صور الوعي الزائف التي شاع بعضها في سورية، مثل: المظلومية الكردية والمظلومية العلوية والمظلومية السنّية، وما إلى ذلك من مظلوميات.
وتكمن أهمية تخطي هذه المظلوميات في كون من يشعر بها يتحول إلى شخص يتعذر إرضاءه بأي حل.
ذلك أن المظلومية غالبًا ما تكون صورة من صور الوهم الذي يتحول إلى قلق نفسي يتخطى مضمونه المطالبة بالحق إلى الرغبة في إشباع نزعات أخرى قد لا يمكن إشباعها إلا بتخيل صور من الانتقام الرمزي الذي لا يمكن تحقيقه إلا بصياغة جديدة للتاريخ متوافقة مع المزاج الكئيب والحزين لأصحاب المظلوميات. ولما لم يكن ثمة وسيلة إلى تعديل التاريخ وفقًا لهذا المزاج أو ذاك، فالنتيجة المترتبة على ذلك هي استحالة تقديم أي علاج للمظلوميات، بينما يظل من الممكن رفع الظلم واستعادة الحق ضمن الأطر القانونية والحقوقية للدولة التي تتخذ من مبدأ المواطنة قاعدة حقوقية وأخلاقية لوجودها.
إن تخطي النزاع الأيديولوجي بين الهويات المختلفة، التي تعيش فوق الأرض السورية –بما ينطوي عليه هذا النزاع من مظلوميات كثيرة لا تخص الأكراد وحدهم– في اتجاه (الوطنية السورية)، من شأنه أن يخلق فرصة ثمينة تتمثل في (الاستيلاد الإرادي) لهوية سورية جامعة كفيلة بأن تكون بيتًا ومستقرًا لكل سوري. وهنا سنلتقي، بكل تأكيد بما سيطرحه المتشككون من أسئلة جديرة بكل انتباه، حول ما إن كان هناك هوية سورية حقًا؟ وقد يعجب المتسائلون هنا؛ لأننا سنجيبهم على هذا السؤال بالإيجاب.
وهنا سننطلق مرة أخرى من فكرة (الاستيلاد الإرادي) لهذه الهوية، ذلك أن فكرة الاستيلاد الإرادي للهوية لا تعني أكثر أو أقل من (إرادة العيش المشترك). ستسمح لنا هذه الفكرة أول ما تسمح بتخطي العقبات التاريخية والأوهام القومية بما تنتجه من فصل وعزل وتنافس سلبي من ناحية، وتسمح لنا، من ناحية أخرى، بتنمية العناصر الإيجابية المتوفرة في الطريق المؤدي إلى الإثراء اللامتناهي للهوية التي لن تكف خلال السير فيه، حسب تصورنا، عن تخطي كثير من أوهامها وضلالاتها، وتعويضها بما هو أرقى وأحدث وأكثر إنسانية وانفتاحاً على العصر وعلى ما فيه من ثقافات وعلم وقيم جديدة.
وعلى ذلك فإن الهوية التي تنتجها إرادة العيش المشترك ليست كيانًا ثابتًا ونهائيًا، يصل إلى الاكتمال في لحظة ما.
إن الأمر على العكس من ذلك تمامًا. إنها كيان قلق لا يكف عن النمو والتطور والتغير.
ذلك أن الهويات المكتملة، أو التي في سبيلها إلى الاكتمال والتوقف عند حد معلوم، هي من جنس الهويات القومية المتعصبة التي تنتمي إلى الحقبة الأيديولوجية التي في إطارها فحسب، يمكن الحديث عن (الذات القومية المتفوقة) على سائر القوميات، والتي ترى أن من حقها قهر الآخرين، لأنها لا تعي ذاتها إلا قاهرة أو مقهورة.
وفي الحالتين نحن إزاء وضع غير سوي، وبالأحرى مرضي.
هذا التصور الجديد للهوية السورية، القائم على قلب الأولويات الوجودية ذاتها، بالاستناد إلى القوة التي سنستمدها من (إرادة العيش المشترك)، سيسمح للسوري بأن يعرف نفسه بأنه (سوري – عربي) أو بأنه (سوري – كردي) أو بأنه (سوري – تركماني) أو بأنه (سوري – آشوري). وهكذا يصبح الحد الجامع متقدمًا على الحد المنتج للصراع والنزاع من ناحية، ومن ناحية أخرى، سيتحول الحد الذي كان مصدرًا للشقاق والصراع إلى عناصر تغني وتنمي الهوية السورية، بعد أن كانت تلعب دور الأضداد المدمرة لأي مشروع وطني.[1]