الكورد هم من ابتكروا السلم الموسيقي السباعي والنوطة الموسيقية وليس اليونان..
لِنستمتع معاً بالإستماع لموسيقى خورية عمرها 3400 سنة!
د. مهدي كاكه يي
تم العثور في (أوگاريت Ugarit) على أقدم نوطة موسيقية
في العالم، مكتوبة باللغة الخورية وبالكتابة المسمارية ومؤرخة في حوالي عام 1400 قبل الميلاد. لقد تم أيضاً إكتشاف نص يحتوي على أسماء أربعة مُلحنين خوريين. في هذا المقال سنتحدث عن تفاصيل هذه النوطة الموسيقية وكيفية تفسير رموزها، وتقديم الأنشودة المذكورة للإستماع إليها من خلال الرابط الموضوع في نهاية المقال لإستمتاع القارئات العزيزات والقراء الأعزاء بالإستماع لهذه القطعة الموسيقية التي عمرها أكثر من 3400 سنة.
الأنشودة الخورية هي عبارة عن إبتهال ديني باللغة الخورية ومحتواها تدور حول حكاية زواج لم ينتج أطفالاً، فنتج عنها أنشودة لرثاء حال الإلهة (نيگال) زوجة إله القمر، التي كانت عاقرة لا تنجب أطفالاً. في الأنشودة كأن الإلهة (نيگال) تسأل زوجها عن سبب عقمها وتلومه على ذلك، حيث أنه الإله الذي يمنح الأطفال للأزواج، بينما ترك زوجته عاقرة، لا تنجب.
في عام 1948، قامت بعثة فرنسية مختصة بالآثار بالتنقيب في موقع (أوگاريت Ugarit) الواقع شمال مدينة اللاذقية بحوالي تسعة كيلومترات. خلال الحملة التنقيبية الخامسة عشرة التي جرت في عام 1951، تم العثور بين أنقاض القصر الملكي في موقع (أوگاريت) على رقيمات عديدة، من بينها رقيمان مكسوران. في عام 1953، تم العثور في القصر الملكي أيضاً على قطعة من رقيم مهشّم. بعد بضعة أعوام تعرّف (إيمانويل لاروش) الأستاذ في جامعة (ستراتسبورغ) الفرنسية على هذه القطع الثلاثة وأدرك أنها كانت أجزاء لرقيم واحد مكسور. إستطاع هذا الباحث جمع الأجزاء الثلاثة مع بعضها في توافق كامل. بعد ضم أجزاء هذا الرقيم الى بعضها، كان شكله مستطيلاً، يبلغ طوله حوالي 19 سنتيمتر وعرضه 7,5 سنتيمتر. في عام 1967، قام هذا العالم المختص بالآثار بدراسة الكتابات الموجودة على الرقيم الطيني وترجمتها ونشرها في المجلد الخامس من النشرة الرسمية الخاصة بالبعثة التنقيبية الفرنسية المسماة (أوگارتيكا) التي تصدر بالفرنسية. أشارت هذه الدراسة الى أنّ الرقيم هو عبارة عن أنشودة مؤلفة للإلهة الخورية (نیگال Niggal) زوجة إله القمر (كوشوخ Kushukh). بعد جمع أجزاء الرقيم الى بعضها، وإستنساخه ونشره، أصبح الرقيم في حالة تسمح بدراسة محتوياته من قِبل الباحثين.
الرقيم الطيني الخوري مكتوبٌ بالخط المسماري و يحتوي على أول تدوين موسيقي معروف في تأريخ الثقافة الانسانية، والذي هو أقدم مقطوعة موسيقية في التاريخ، حيث يرجع تأريخها الى عام 1400 قبل الميلاد. كما تم إكتشاف صورة نادرة لعازفة طبل خورية.
في القسم العلوي على الوجه الأول من الرقيم الخوري المُكتشَف، هناك كتابة مؤلفة من اربعة سطور، التي تلتف لتحيط بالرقيم من الوجه الثاني. يليها على الوجه الأول خطان أفقيان فاصلان. توجد تحت هذين الخطّين في القسم الأسفل، ستة سطور مؤلفة من رموز وإشارات التي هي عبارة عن أسماء أبعاد موسيقية ويأتي عدد بعد كل بُعد موسيقي. في السطرالأول كان العدد هو (10)، بينما في الأسطر الخمسة الباقية تتراوح قيمة كل عدد بين 1 و 5. بعد دراسة هذا الرقيم من قِبل باحثين، تبيّن أن السطور الاربعة العلوية تحتوي على أنشودة دينية قديمة مدونة باللغة الخورية. السطور الستة الواقعة تحت الخطين هي عبارة عن إشارات موسيقية. يُظهر هذا اللوح لأول مرة في التأريخ تفصيلاً موسيقياً دقيقاً لأنشودة دينية تدعى (نيد قبلي). كما أن إسم ملحّن الأنشودة هو (أورهيا) وإسم مدوّن الأنشودة هو (آمورابي) المذكوران في اللوحة الخورية.
التنويط الموسيقي
محاولات عديدة قام بها علماء ومختصون لفك رموز الرقيم. كان عالم الحثيات الباحث الأميركي (هانز گوتربوك) أول من ميّز النوطة الموسيقية وإكتشف بأن الرموز في القسم السفلي هي عبارة عن أسماء لأبعاد موسيقية وأنه يلي كل بُعد من هذه الأبعاد رقم، إلا أنه لم يتمكن من ترجمة هذه الموسيقى المكتوبة بشكل بُعد موسيقي يليه رقم.
بعد ذلك في عام 1971، قام العالم الانكليزي (دافيد وولستان) بأول محاولة لفك هذه الرموز وهو من الذين درسوا لوحات بلاد ما بين النهرين. قال (وولستان) بأن التدوين (دو- صول) يعني نغمة متدرجة من خمس درجات: (دو – ري – مي – فا – صول)، وليس مسافة، إلا أنه في هذه الحالة لا يكون للعدد الذي يلي البُعد أي معنى، حيث أنه طالما أن الموسيقى مدوّنة يكون لا لزوم لوجود عدد فيها.
المحاولة الثانية قامت بها العالمة الأمريكية الدكتورة (آن كيلمر)، التي هي باحثة في الأكاديات، بمشاركة الموسيقار (ريتشارد كروكر) والفيزيائي (روبرت براون)، حيث قالت الدكتورة (آن كيلمر) بأن (دو – صول) تعني (دو) و (صول)، وهي مسافة ويليها العدد (3) الذي يعني تكرار (دو – صول) ثلاث مرات (دو – صول، دو – صول، دو – صول)، وقالت أيضاً بأن هناك موسيقى متعددة الأصوات في (أوگاريت). قامت (كيلمر) ومساعدَيها بتسجيل تفسيرهم للإنشودة الخورية على اسطوانة وتم توزيعها في الاسواق في عام 1975، تحت عنوان “أصوات من الصمت”، الا أن الإسطوانة كانت غير مُقنعة.
المحاولة الثالثة قامت بها السيدة البلجيكية (دوشان گيومان) التي كانت تكتب في مجلة علوم الموسيقى الصادرة في فرنسا. أبدت (دوشان گيومان) تأييدها لتفسير (وولستان) بأن (دو – صول) هو لحن: (دو – ري – مي – فا – صول) وأن العدد الذي يلي (دو- صول)، يدل على درجات قصيرة (Petites notes) مضافة للزخرف، حيث قالت بأن اليونانيين يستعملونها إلى الآن في الموسيقى البيزنطية، الا أنه عندما يكون (دو – صول) هو تدوين موسيقي، ليس هناك أي معنى لوجود الدرجات القصيرة.
المحاولة الرابعة والناجحة قام بها الباحث السوري الفيزيائي (راوول فيتالي)، حيث أنه إكتشف بأن العدد الموجود في الرقيم يدل على عدد قياسات زمنية موسيقية (Mesures). تطابقت كل الخطوط تماماً، ما عدا الخطَين الأول والأخير، فلم يجد لهما ما يقابلهما من الأبيات الشعرية المكتوبة فوقهما. إستنتج (فيتالي) من ذلك بأن ثمة في البداية مقدمة موسيقية غير مغنّاة، وختاماً موسيقياً غير مغنّى، بينما إنطبقت كل الخطوط الباقية تماماً. كانت الكلمة الخورية (أوستما آري) موجودة في الخط الأول و التي يليها العدد (10). حسب ترجمة العالم الألماني (تيل) فأن الكلمة الخورية (أوستما آري) تعني (لا أعطي الكلام، أعطي). هذه العبارة توضح بأن نصف المقطوعة بلا كلام ونصفها الآخر بِكلام. هكذا فأن السطر الاول من التدوين هو عبارة عن مقدمة موسيقية دون كلام والسطر الثاني من التدوين يطابق البيت الاول من الأنشودة و السطر الثالث من التدوين يطابق البيت الثاني من الأنشودة و السطر الرابع من التدوين يطابق البيت الثالث من الأنشودة والسطر الخامس من التدوين يطابق البيت الرابع من الأنشودة والسطر السادس (الأخير) من التدوين هو عبارة عن خاتمة موسيقية دون كلام. قام (فيتالي) بكتابة الدرجات الموسيقية، البيضاء والسوداء وغيرها وعلى أساس أن الأعداد هي الأزمان. ثم كتب النص الموسيقي الذي عزفه له أحد أصدقائه الموسيقيين على (مقام كورد) المماثل لمقام ( نيد قبلي) السومري والخوري، وقام بتسجيله. بعد ذلك قام بتعديل ثلاث أو أربع نوطات موسيقية لهذه الأنشودة الخورية لتصليح بعض الأخطاء التي كانت موجودة فيها.
إكتشاف هذه الأنشودة الخورية يثبت بأن السلم الموسيقي السباعي والنوطة الموسيقية ليست إبتكاراً يونانياً، بل هي من الإبتكارات الرائدة لحضارة أسلاف الكورد الخوريين، حيث أنه قبل هذا الإكتشاف التاريخي، كان العالم يعتقد بأن أول قطعة موسيقية مدونة على السلم السباعي كانت مقطوعة تم عزفها في إحدى مسرحيات الكاتب اليوناني التراجيدي (يوربيديس) التي تم عرضها في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد. هذه الأنشودة الخورية سبقت هذه المقطوعة اليونانية بألف عام. هكذا فأن هذه القطعة الموسيقية الخورية هي أقدم بِألف عام عن أقدم قطعة موسيقية عرفها الغرب على أساس السلم الموسيقي الذي إكتشفه اليوناني (فيثاغورث) في حوالي عام 450 قبل الميلاد.
من هنا يتبين بأن كوردستان هي منبع السلالم الموسيقية في العالم، وأن السلالم اليونانية السبعة التي تشكّل بدورها السلم الموسيقي الغربي قد إستندت على السلّم الموسيقي لأسلاف الكورد السومريين والخوريين.
بهذا الإكتشاف تم تحديد عمر وتاريخ الموسيقى والتدوين الموسيقي في منطقة الشرق الأوسط. كما أن هذه الأنشودة الخورية تُثبت عراقة وأصالة الموسيقى الكوردية من جهة، ومن جهة ثانية أنها دليل مادي لِكون الخوريين أسلافاً للكورد وأن الكورد وأسلافهم يتواصلون معاً من خلال الموسيقى، حيث يستند اللحن الخوري على مقام الكورد كمقام موسيقي. عند الإستماع الى هذه القطعة الموسيقية الخورية، يكتشف المُستمع بسهولة الطابع الكوردي المتميز لهذا اللحن الخوري الذي يختلف عن الأنغام العربية والفارسية وغيرها.
يستلهم الكورد وأسلافهم من الطبيعة الجبلية الجميلة لكوردستان، الإبداع والعبقرية في مختلف نواحي الحياة، من موسيقى وفن وشعر وأدب وعلوم. إن التاريخ والتراث الكوردي بحاجة الى إهتمام كبير من قِبل حكومة إقليم جنوب كوردستان و التنظيمات السياسية الكوردستانية والإعلام الكوردستاني لإبراز معالم الحضارة الكوردستانية لشعوب العالم.
المصادر
الدكتور علي القيم: الموسيقا تاريخ وأثر. الطبعة الأولى، مطبعة الكندي، دمشق، 1988.
راؤول فيتالي: أقدم موسيقا معروفة في العالم. مجلة الحياة الموسيقية العدد 2 سنة 1993 والعدد 6 سنة 1994″
West, M. L. The Babylonian Musical Nation and the Hurrian Melodic Texts. Music & Letters Vol: 56, No. 2 (May 1994), pp. 161-179, Oxford University Press.
Gurney, O. R. Babylonian Music Again. Iraq Vol. 56 (1994), pp. 101-106. British Institute for the Study of Iraq.
منقول عن صفحة الدكتور Mahdi Kakei
[1]