علي عبد الامير
مع نهاية شهر آب وحين يفتح للشتا باب تكون بغداد استعادت شيئا من حيويتها التي تلظت بلهيب حقيقي على امتداد ثلاثة شهور، ومع ايلول تطرق نسمات رقيقة على وجه المدينة الساخن، غير ان تلك الطرقات تتحول هواء عذبا ينعش الارواح في تشرين الاول حين يتقدم الخريف تاركا لبغداد ان تبتكر اجمل ايامها في العام.
و تشرين الاول العام 1973 جاء محمولا على اجنحة من الامل ، فثمة انفتاح ثقافي وسياسي واجتماعي ميز صيف ذاك العام عبر اعلان الجبهة الوطنية والقومية التقدمية ودخول النخب العراقية الاكاديمية والثقافية في منافسة حقيقية مؤثرة عنوانها مشاركة واسعة في بناء عراق عصري قائم على سلام سياسي واجتماعي بعد عقد الستينات الدموي، وثمة مسار شخصي رحيب ابتدأته مع دخولي الجامعة واحساسي بملامح اولى للحرية الشخصية.
ما بين الانفتاحين الاجتماعي والشخصي، كان هناك حدث شكل مفترقا لا في مساري الفكري وحسب بل في مسار جيل من المثقفين العراقيين وقطاع ليس بالضيق من شباب العراق في اوائل سبعينيات القرن الماضي ، انه اسبوع التضامن مع الشعب الشيلي الذي شهدته جمعية التشكيليين العراقيين في المنصور اعتمادا على جهود لافتة لعدد من الفنانين والادباء والصحافيين الشيوعيين واصدقائهم من العاملين في الحقل الثقافي .
الحدث وان جاء بعنوان عريض قائم على التضامن الاممي مع النظام اليساري في شيلي الذي اسقطه انقلاب الجنرال بينوشيه في 11 -07- 1973، الا انه فعليا كان تظاهرة علنية قد تكون الاولى للثقافة الشيوعية في العراق بعد هزيمة تلك الثقافة سياسيا واجتماعيا مع انقلاب شباط 1963 الدموي ، ومع ان الشاعر فوزي كريم صدمني برأي بدا صريحا اكثر مما ينبغي في اليوم الثالث للاسبوع التضامني بان مثل هذه التظاهرات لا معنى جديا لها فالثورات الناجحة لا قيمة لها فكيف بتلك المهزومة الا انني شخصيا ومنذ اليوم الاول للتظاهرة الثقافية والاجتماعية النادرة ،احسست ان الحدث عراقي الفكرة والمضمون وان جاء ضمن اطار اممي، فثمة المئات بل الالاف ممن كانوا جمهورا متذوقا لاشكال الفنون الراقية في الرسم والنحت والبوستر السياسي والموسيقى والشعر فضلا عن التجمع حول عناوين من الكتب في شتى مجالات المعرفة الانسانية.. هواء رقيق كان يهب على امسيات بغداد وتحديدا على امتداد العشب الاخضر في حديقة جمعية التشكيليين العراقيين ، وثمة هواء رقيق من الصداقة والفنون الرفيعة ، من فرح نادر وحقيقي ،من لقاءات مفتوحة على اتساع الحياة .
وفي حين كرست الصحافة العراقية الشيوعية اسم الشاعر بابلو نيرودا والموسيقي فيكتور جارا أيقونتين لتجربة شيلي الثورية ، فان صورهما كانتا تتوزعان اكثر من ركن في غاليري الجمعية او حديقتها لتتطابقا بعد حين مع ملامح الشاعر سعدي يوسف والمغني والملحن جعفر حسن الذي تجمعه آلة الغيتار مع جارا.
المشهد الاكثر اثارة، فضلا عن التجمعات الانسانية الفياضة بالمشاعر والآمال والتي كانت تعقب انتهاء الفعاليات الثقافية، هو حفل غنائي تجمع من اجله جمهور تجاوز العشرة آلاف شخص ضاقت بهم حدائق التشكيليين فتوزعوا صعودا على الاسيجة وكل ما يوفر اطلالة على مركز الحدث حيث الفرقة الموسيقية وامامها تناوب الملحن الذي كان حفر اسمه بقوة في الاغنية العراقية المعاصرة كوكب حمزة ومنذ لحنه الاول يانجمة الذي غناه حسين نعمة العام 1969، والملحن والمطرب #جعفر حسن# ، والملحن كمال السيد (رحل العام 2000 في منفاه بالدانمارك) فضلا عن فرقة غنائية قدمت نماذج غنية الدلالات في شكل كان استهلك كثيرا من قبل ووقع في نمطية مديح الانظمة الحاكمة وقادتها الافذاذ ، الا وهو شكل الاغنية الوطنية.
وضمن بناء لحني اقرب الى مداعبة الوجدان الشخصي حتى وان كان جسرا نحو هم اجتماعي جاءت اغنية كوكب حمزة يا اطفال كل العالم يا حلوين المقامة على نص الشاعر عريان السيد خلف ،كي تثير حيوية الجمهور المحتشد المتشوق لانغام وكلمات تتطابق مع فيض الاشواق والآمال الذي كان هادرا يهز النفوس والارواح ، كذلك جاء نشيده القصير الغني بالحماسة ولكن دون الوقوع في فجاجة الاناشيد الحماسية التي كانت رسختها اذاعات الانظمة العربية ، نشيد كان وضعه (على عجل) القاص (حينها) والصحافي سعد البزاز وحمل عنوان يطلعون وجاء مناسبا لاجواء الحرب العربية – الاسرائيلية في تشرين الاول (اكتوبر) 1973 ،غير ان موهبة كوكب حمزة اللحنية ابعدت عن النشيد ملمحه المناسباتي وظل مشحونا بطاقات قادرة على التعبير(عن طاقة الانسان وقدرته على التغيير) الى يومنا هذا.
ومع الجملة الاولى لاغنية لا تسألني عن عنواني .. انا لي كل العالم عنوان التي غناها بنشوة وحماسة المطرب والملحن جعفر حسن، حتى راح الجمهور يردد اللازمة بصوت هادر وكأنه تحول كورسا من آلاف الحناجر، وهو ما فاجأ المطرب الذي راح يوقع لحنه على الغيتار بنشوة بالغة. اغنية قام لحنها السهل الممتنع على تدفق تعبيري، لحن مصاغ كي يرسخ في ذهن المستمع وروحه عبر كلمات وضعها الشاعر كاظم السعدي ، حد ان انسجام الجمهور وتداخله في اللحن بلغ مستوى ان ردد الاغنية شبه كاملة مع انتهاء حسن من ادائها اول مرة . التدفق هذا انكسر ترانيم حزينة مع اغنية جعفر حسن سانتياغو التي جاءت مرثية للتجربة اليسارية المؤودة في شيلي عبر استحضار اسم عاصمة البلاد التي قدمت واحدا من اجمل شعراء الاسبانية بعد لوركا: نيرودا.
واستدعى الملحن الراحل كمال السيد قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش ، بينما ترك الشاعر فوزي كريم اثرا حميما حين غنى اعتمادا على صياغة لحنية وادائية شخصية قصيدة عبد الوهاب البياتي ومنها:
ونحن من منفى الى منفى
ومن باب لباب
نذوي كما تذوي الزنابق في التراب
كأنه باختياره ذاك حلق نذيرا بالمنافي التي سيتوزعها ابرز نجوم تلك التظاهرة النادرة ورموزها الفاعلة!
صحيح ان الامسية قدمت ما سيعرف لاحقا بالاغنية الشيوعية كما في اغنيات شيلي تمر بالليل و عمي يابو جاكوج و يا ابو علي و يابو مركب، لكن صورة جعفر حسن هادرا بصوته وضاربا برشاقة على غيتاره ظلت ايقونة الحدث وعلامته التي استدعت من السلطة مجموعة من الاجراءات بحق الفنانين المشاركين كي لا تتكرر التجربة ونتائجها عميقة التأثير وجدانيا وفكريا. وقيمة الحدث التضامني ليست في عناوينه الاممية بل في مسار تأثيراتها بين قطاع عريض من الجمهور الذي بات واسع الدائرة ،وهو ما دق جرس الخطر بين اركان السلطة وجهازها الحزبي والامني بقوة.
الشيوعيون العراقيون في فترات عملهم العلني مبتكرو تظاهرات ثقافية واجتماعية اقرب الى الاحلام اذا ما قورنت بحالهم وحال بلادهم اليوم ، فالحدث اسبوع التضامن مع الشعب الشيلي بايامه الثقافية لم يكن يتوقف عند الفعالية المعلنة لذلك اليوم ، بل هو يمتد الى آخر الليل مع نقاشات واحاديث بين اركان غاليري التشكيليين وممراتها وحدائقها ، مثلما يتنوع في مجموعات تتحلق حول موائد عامرة بالمعرفة والثقافة والمسرة في آن ، وكم اسرتنا مشاهد آل شوقي الرائعين :خليل ومي وروناك حين يوسعون مائدتهم لعدد غير قليل من المثقفين والمحبين والاصدقاء ، وثمة ايضا مائدة يوسف العاني ، ومائدة العاملين في صحيفتي طريق الشعب والفكر الجديد الذين كانوا الى جانب الفنان التشكيلي يحيى الشيخ داينمو الحدث ومنظمه ، وثمة مائدة كوكب حمزة النجم الذي كان تتحلق حوله اجمل النساء واحلاهن ولهن كان يغني على العود مالم يمنحه حينها بعد لمطربين كالحانه: هوى الناس ،صار العمر محطات والكنطرة بعيدة.
لم يكن الحدث مجرد تضامن اممي بل كان اعلانا مدويا عن قدرة الثقافة التقدمية والوطنية العراقية في اوائل سبعينيات القرن الماضي في تشكيل نسق لا يسقط في فجاجة الثقافةالملتزمة بل في احتفاظه بالعناصر الجمالية حاضرة ومشعة ، وعبر ذلك النسق انتظم كم هائل من التظاهرات والاسابيع الثقافية الذي توفر على نبض من الصدق والاحلام قارب الوهم ، ومن هنا يبدوالمآل الذي انتهت اليه مصائر اهل ذلك الحدث وتجلياته الثقافية والانسانية متطابقا مع مآل بلادهم ، فكوكب حمزة آثر العودة الى منفاه في الدانمارك بعد عودة حزينة وتجربة مريرة في المكان الذي احب ( عاد الى العراق في العام 2004 ، لكن جوا من التشدد والعنف كان بدأ يسيطر على ايقاع الحياة في البلاد فضلا عن استهداف المتطرفين الاسلاميين للموسيقى والفنون الرفيعة بشكل خاص) . وصاحب اغنية انا كل العالم عنواني ارتضى بضيق التوصيف والمكان فالمطرب جعفر حسن بات سعيدا بكرديته هوية ثقافية وانسانية ويشغل اليوم منصب مستشار وزارة الثقافة الكردية، بعد خاب رهانه على الرفاق في مقدرتهم على بناء الغد السعيد ودفع في رهانه هذا اثمانا باهظة من الهجرات وكوابيس المطاردة والخوف. كما ان اغلب من كان فاعلا ومؤثرا في الحدث اما مات في منفاه داخل البلاد بعد انكفاء تجربة التحالف مع البعث او مات في صقيع المنافي الاوروبية ، وثمة ايضا من ينتظر ضربة الالام والاشواق والحسرات الاخيرة كي تنقض عليه بعد ان انتهى رعب صدام لينفتح الف مسار من الرعب في البلاد التي ضاقت.
وليس بعيدا عن هذا الهشيم الذي صارت اليه احلام التغيير الثقافي والاجتماعي، يبدو مآل الآلاف الذين حضروا امسية الانغام المدهشة، فمن منفى الى منفى كما غنى فوزي كريم قصيدة البياتي الى عودة اغلب الحالمين الى واقعهم ، غير ان الفكرة ما انفكت تعتمل في قلوب قديمة واخرى دخلت الى غوايتها مجددا ..اليوم تبدو جمعية التشكيليين العراقيين شاهد قبر على احلام الذين جمعتهم ذات خريف جميل في بغداد 1973 .[1]