#جعفر حسن#
عندما نحاول التفكير في ما يطرح من مصادرة لشكل من أشكال الحرية، ومنها حرية الإبداع، تقفز في الذهن ضرورات تعود بالموضوع إلى أصله، بمعنى أن الحرية كل لا يتجزأ، وهي بالضرورة مسألة غير منجزه، إن السعي الإنساني الدءوب نحوها، يمكن تصوره على انه نزوع أصلي في الكائن البشري نابع من وعي الضرورة الذي يفضي إلى الحرية، حاوله الإنسان في صراعه مع أخيه الإنسان،
وحاوله في صراعه مع قوى الطبيعة، التي يحس بعدم اكتراثها لما يشعر به، ووظف كل ما استطاع العقل البشري أن ينجزه في سبيل تلك المعارك، فمهما حققنا من حريات، هناك شوق دائب نحو تلك الحدود التي لم نزرع أشجار الحرية فيها بعد، تلك الحدود التي تمثل صحراء الجهل وقواه التي تعمل بأيد خفية لكنها راصده، تكمن في تلك الأماكن المكشوفة تراقب وتعاقب.
لا إبداع بدون حرية، تبدو العبارة في التأمل الأول بسيطة، لكن البساطة تلك خادعة عندما نحاول الانسجام والتماسك المنطقي من الداخل، فالحرية لست معطى أولي للوجود، الحرية هي إرادة إنسانية فاعلة، بمعنى إنه لا توجد نقطه خارج الذات البشرية تسيطر على فعلها الخلاق، وبالتالي يمكننا إدراك ضيق مساحة الحرية واتساعها، فالإبداع هو الذهاب نحو فخ الضوء، لكن الظلمة في ذاتها هي غياب الضوء، وبالتالي لا يمكن أن نرصد لحظة واحدة في الوجود البشري لا توجد به مساحة ما من الحرية، ولسنا نقول هنا قولة سارتر التي تشير إلى إن الإنسان محكوم بالحرية، وهو أمر ليس صحيحا على إطلاقه، إذ إن نسبية الحرية هي التي تشير إلى مدى تحققها وانتشارها الفاعل.
لا يختفي الإبداع بضيق هامش الحرية، انه المسئول الأول عن وجودها، وبالتالي الإرادة الإنسانية دائما ما تجد الطرق والسبل نحو تحقيق هامش من الحرية اكبر، ويبدو في توهمي أن الحرية تسير نحو الاتساع، إلا في لحظات الانكسار التاريخي، إذ إنها فاعلية لا تسير دائما في اتجاه واحد، وهي بطبيعتها تكتسب ولا توهب، ومن يتخلى عن الحرية في صالح الأمن لا يستحق أيا منهما كما أشار احد الديمقراطيين القدامى. وتبدأ فاعلية الحرية بالحركة منذ تلك اللحظة التي نترك فيها اليقين المطلق، النابع من الإجابات الجاهزة التي ترد على كل سؤال مهما كان عصيا، لتوسع دائرة الجهل، عبر إبعاد العقل الفاعل المفكر في اليومي الحي، نحو الانطلاق إلى فضاء السؤال الذي يدفع للبحث وإيجاد إجابات متعددة على ذات السؤال، حتى وإن سبقت الإجابة عليه.
التأمل في وجه القمع
لسنا نقول ذلك لنهرب من فضاء الصراع الاجتماعي إلى فضاء التفكير النظري، وإن كان في الاعتقاد ذلك، فهو من أفق الوهم، يبدو أن المسألة تفوق إلى حد كبير مجرد تغييب المثقف إلى محاولة تغييب المبدع، ولعل المسألة تتعلق بالسلطة، ولا تتمثل السلطة في الحكومة على ما نعتقد في مجتمعاتنا العربية، إذ نحس أن الحكومة مجموعة من الأفراد، لكن حجر الدولة لا يكمن فيهم، فمن سلسلة العلاقات المتشابكة تبرز السلطة، وهي حجر النار للدولة التي تقدح به نيران توهجها، وهي تسير بآلية إبقاء الوضع على ما هو عليه في المجتمع مع إعطاء هامش للحركة يمكنه امتصاص التغيير الخارجي مع بقاء السلطة على ما هي عليه.
ولعل معطيات الحياة اليومية تشير إلى تضاؤل مساحة الحرية، وبالتالي التضييق على المبدعين بعامة، على الرغم من تلك التوجهات التي أنتجها الوضع القهري بالنسبة للدول العربية، والذي دفعها نحو الانفتاح على متطلبات العولمة، ومنها التوجه نحو صيغ للديمقراطية، هي في طبيعتها تعبير عن خلط غريب للمفاهيم، ويبدو أن دولنا العتيدة اعتبرت الديمقراطية جزء من الغنيمة، وهي توزعها على أحزاب المولاة للوصول إلى قبة البرلمان، ومن هناك تمرر لها قوانين متشددة تصادر منجز الحرية، وتعطيها الشرعية اللازمة، فهي التي تتحكم في توزيع الدوائر، وتحديد من يحق له الانتخاب والترشح..الخ، علاوة على التزوير الفاضح الذي تمارسه معظمها.
ارتباك المستباح
في هذا الوقت الذي باتت الدول العربية محط أطماع الاستعمار العسكري الجديد، ترتبك الدولة المهددة باجتياح الجيوش في حالة عصيانها أو ممانعتها، فتظل تضغط على عناصرها وأحلافها المتمددين داخل اطر المجتمع، الماسكين لمفاصل الحياة اليومية للفرد، من اجل تشديد قبضتهم على المجتمع لتمرير اتفاقات بيع كل شيء.
أولئك الأحلاف الذين يمثل معظمهم رجال أحزابها المتحالفين مع رجال الدين الموالين لها، وأتباعهم وأتباع أتباعهم، وهم الذين يحصلون على مستو متدن من التعليم البنكي سواء في المعاهد الدينية أو الحوزات، ولكنهم يعيشون حياة رفاه، يفوق كثيرا ما يتوافرون عليه من تحصيل علمي، ويسمون أنفسهم بالعلماء خلطا وتشويشا، ويتحكمون في معتقدات الناس، وصيرورة الحياة اليومية، ويمتنعون عن نقد السلطة، وإلا فقدوا امتيازاتهم لديها، وبالتالي تحصل السلطة على رصد جاهز متمدد في اطر المجتمع بالكامل، وهذا الجهاز يحصل على ترضيته الخاصة من الأموال التي تسمح له بجمعها على شكل تبرعات وهبات وصدقات..الخ، وبالتالي جهاز يكافئ نفسه بنفسه، فكلما تعمق في المجتمع كلما توافر على خيرات مادية قادر بها للوصول إلى شراء النفوس، وهو يعمل بذات الطريقة مع السلطة أو كمعارضة لها.
هؤلاء هم الذين يشكلون جهاز المراقبة العامة للأخلاق، وهم الذين يحددون ما يجوز وما لا يجوز، وهم أيضا من يحدد الذوق العام، وما يخدش الحياء.. الخ من العبارات المطاطة التي ترتكز عليها بعض قوانين الدولة في محاكمة المبدعين، ومنهم من يفتي بتحليل دم المبدع وتطليقه من زوجته، ومنهم من يرفع قضايا الحسبة على المبدعين، ويظل التعدي على جهلهم، هو تعد على الدين والدولة، الحياة الدنيا والآخرة، وتعديا على المراكز التي وصلوا إليها، وتهديدا لثرواتهم التي يتمتعون بها دون الخلق، ومساسا بمراكزهم الاجتماعية المتقدمة، وبالتالي تستفزهم بقع الضوء الكاشفة، ويخافون منها، ويستبسلون في سبيل طمسها.
وهم الذين يشكلون جماعات الأمر بالمعروف المراقب للأخلاق، كما يحاولون تطبيق القانون بأنفسهم بطرق مباشرة وغير مباشرة، بمجرد خسرانهم لتلك المصالح أو تهديدها، ذلك إنهم غير قادرين على التوجه نحو الإنتاج أو التحول إلى مهن أخرى، وهو ما يفتح أفق التوجه نحو استخدم متطرف للعنف بشتى أشكاله، والناس في الدنيا لا يتصارعون على الآخرة، ذلك لان الجنة وجهنم يمكنهما أن تسعا الجميع، ولكنهم يقتلون بعضهم بعضا على أتفه أمور الدنيا.
لعب الحواة
إن هذا التحالف الصامت هو ما يدفع الدولة نحو تقنين عمل مؤسسات المجتمع المدني، وضربها وتفتيتها، وإيجاد بدائل صورية عنها، وخلق مؤسسات موازية تقوم بالأدوار الفاعلة، بينما تحاول إبقاء مؤسسات المجتمع المدني هياكل خالية من المعنى، ولا توجد دولة عربية واحدة ديمقراطية يطبق فيها أهم مبادئ الديمقراطية، وهو التداول السلمي للسلطة في كافة المستويات، وتعمل الدولة على خلق أحزاب موالية خارج الحزب الحاكم ذاته كفعل احتياطي، ولإبراز وجود معارضة مفبركة أيضا.
في كل ذلك تحاول السلطة التي طغى جبروتها وتضخمت، في الوقت الذي بدأ فيه إحساسها بالخطر الداهم، نتيجة لمعطيات معقدة، تحاول جاهدة التحكم في الإعلام، وأول ما تحتاجه في ذلك هو المثقف الموالي، وهو اعرفهم بالمثقفين في بلاده، وبالتالي تبوئه مراكز متقدمة في مراكز القرار، وعادة ما تختار الدولة عناصر قابلة للشراء من المثقفين المتوسطي الثقافة أو المؤمنين باتجاهها، وبالتالي تدور معركة الإقصاء بيد أولئك النفر، وهم الذين يؤججون المعارك التي تقوم ضد المبدعين، ومع الانفتاح الديمقراطي صارت صحف المعارضة تتعرض لحملة شعواء من قبل جهاز المراقبة في الدولة، وهو أمر تدعي كل الدول خلوها منه، وتستعين الدولة بالقوانين البائسة للأعلام التي مررتها عبر البرلمانات، والتي تقضي بحبس الصحفيين والتحجير على الحريات الصحفية، وحرية النشر، وحرية الإبداع بالمنع والمصادرة، والتهديد والوعيد.
تعجيل الأضحية
تعرض العديد من المبدعين في كافة البلاد العربية لمسائل المصادرة والمحاكمة والملاحقة، ولم تنجو من ذلك حتى أقلام الموالاة، فمن محاكمات (موسى حوامدة، ليلى العثمان) إلى منع رواية عبد الله خليفة (عمر شهيدا)، ومنع كتاب نادر كاظم (استعمالات الذاكرة)، وكتاب محمد السواد(أخطر وأطرف قضايا محاكم البحرين 2006)، إلى المنع المؤقت سابقا لرواية (البرزخ) لفريد رمضان، إلى قتل ومحاولة قتل (ناجي العلي، فرج فودة، نجيب محفوظ)، ومحاكمة وتهجير (خليل عبد الكريم، نصر حامد أبو زيد، نوال السعداوي) إلى إصدار أحكام بالسجن على رؤساء الصحف في مصر، ومسائلة عمل (قاسم حداد، مرسيل خليفة) المشترك في ربيع الثقافة البحريني من قبل لجان البرلمان.. الخ، كل ذلك على يد أصابع الدولة وأحلافها الصامتين، الذين يحاولون إسكات صوت العقل، بادعائهم كذبا امتلاكهم لمعرفة مكتملة أصيلة لا يأتيها الباطل من خلفها ولا من بين يديها.
والأدهى والأمر هو التغييب المتعمد والمشترك مع رؤساء الصحف للإبداع، فأول مساحة تتخلى عنها الجريدة في صالح الإعلام هي مساحة الثقافة، وتشترك الأحزاب المعارضة في تغييب الإبداع مع السلطة، فنلاحظ مثلا غياب الإبداع عن بعض صحف المعارضة التي تتفنن في تخصصها السياسي، وكأن الإبداع ليس موقفا من الحياة ذاتها والمجتمع الذي نعيش فيه، وإذا كانت وزارات بكاملها مختطفة من قبل جهات دينية ما، فإن المسألة قد وصلت إلى حدود الفضائيات المتخصصة في اختطاف الإنسان من شؤون الحياة المعاصرة للتفكير في الموت، وهو موضوع غير ذي تجربة للإنسان، أو إصدار الفتاوى بإرضاع زملاء العمل، أو بأي يد نبدأ الوضوء، بينما تقف حاملات الطائرات إلى جوار بيوتنا، الصواريخ مشرعة، وبلادنا مهددة بمزيد من التفتيت.
ويبدو للمتأمل أن هناك خللا في قوانين النشر والإعلام في الدول العربية قاطبة، فما يسمح بتداوله من المطبوعات في دولة عربية لا يسمح بتداوله في دولة جارة ليس بينها حدود طبيعية فاصلة، ونتساءل بشكل مشروع عن وظيفة جامعة الدول العربية؟ وجدوى وجودها، بسبب الفشل السياسي العربي، وتشرذم قوانين النشر، فيفتخر بعض الموظفين بإعدام مواد إعلامية هائلة على الحدود البرية، ويتشدد موظف الجمارك تجاه الكتاب المطبوع في بعض الدول يمكن تمرير المواد الممنوعة ولا يمكن تمرير كتاب ممنوع، وقوائم المنع التي تعطى لدور النشر في المعارض التي تقام تبكي من جفت دموعه. ولازالت هناك قوانين تمنع تداول بعض الكتب الإبداعية مثل الشعر والرواية والقصص القصيرة وغيرها، علاوة على أن ذلك يتم ربما بسبب صورة على الغلاف وليس بسبب المحتوى .
مقال نشره الراحل
في موقع الحوار المتمدن عام 2009.[1]