د. محمود عباس
يتطلب منا نحن الكرد أن نكون حكماء العصر، في جغرافيتنا الضيقة المتكالبة عليها كل زبانية العالم، ونعرف موازين التوافق بين جميع الأطراف المتصارعة عليها وعلى سوريا، وننتبه وننبه العالم إلى الأعداء والإرهابيين وخلاياهم النائمة والمتآمرين على الإنسانية، ونميز بين أصدقاء اللحظة والمصلحة وبين الأوفياء فيما إذا كان هناك أوفياء، وبين من يخدعوننا أو سيخدعوننا من القوى العالمية عند أول منعطف، أن نوفق بين مطالب روسيا وأمريكا والسلطة وتركيا وجميع أنواع المعارضة السورية، بين إسرائيل والدول العربية، بين الدول المحتلة لكردستان وأدواتهم، بين أن نكون جزء من سوريا العربية أو سوريا الوطن، بين أن نكون قوة نشارك فيها أبناء المنطقة الإدارة، أو نكون جزء من سلطة مركزية شمولية.
يطلبون منا أن نكون صفر مشاكل مع الجميع، أي كتلة بشرية بلا قرار ورأي، وإلا فبيننا وبين السلطات صراعات، وبيننا وبين المعارضة السورية حروب، وبيننا وبين شعوب المنطقة عداوة، لذلك نعيش الكارثة خاصة عندما لا يكون هناك سند دولي، أو أن السند هلامي، وعندما ينخر السند الذاتي الصراعات الحزبية، فعلينا أن نكون حكماء وإلا فمصيرنا كارثي.
ولأن الحكمة غائبة، يطلبون منا أن نكون حراس الإنسانية ضد الإرهاب، بلا مقابل، أن نكون شعب بلا وطن، تابعين بلا صوت، مواطني دولة كتب دساتيرها الطغاة والعنصريون. ولأن الحكمة غائبة نرفض بعضنا، ونلغي الأخر بحجج متنوعة، ليس فقط القوي منا يلغي بل الضعيف يجاهر وبطرقه، ونخلق ألف سبب للبقاء متنافرين، ولأننا على خلاف، يفرضون علينا أن نتبع الإنسانية ولا نشاركهم قيمها وثمارها، نزور الأنظمة الحضارية كضيوف، نتحدث عن الدول والحكومات ولا نحلم بإقامتها، نتكلم عن الجغرافيات دون الكردستانية، وعن القوميات إلا الكردية، يطلبون منا أن نبقى أمة وهمية، وشعب بلا وجود، ظهروا في جغرافية خرافية بين جبال هلامية على الأرض.
مع ذلك ورغم المصائب والكوارث، ورغم أننا نعيش الصراعات الدولية بأبشع صورها، ونصعد من خلافاتنا الداخلية على قدر الخارجية، وشعبنا في الداخل يعاني كل أنواع الآلام والمآسي، علينا ألا نقطع الأمل، وعلينا أن ننمي الحكمة والوعي، ففي الواقع ما بيننا نحن الأمة الكردية رحمة مقارنة بهم علماً أن إمكانياتنا أضعف من إمكانياتهم في مجالات عديدة، وفيما لو تمعنا وبعمق، أننا لا زلنا على تقارب مقارنة ببشائع الأخرين، وأغلبية المجتمع متماسك ولا يتبع الأحزاب وصراعاتها، مع ذلك ولكوننا في مراحل سياسية متأخرة عن محيطنا، يتطلب منا النشاط والفعاليات الأكثر وعيا وأعمق وحكمة.
التقارب، والعمل الجمعي، ولا نقول الوحدة السياسية، سيمدنا بالحكمة، وسندرك لماذا تتقاذفنا المصالح إلى الجهات المتعددة، ويفرضون علينا الانتقال من خيمة إلى أخرى، وسندرك أنه لا حيلة لنا فيها لأننا لسنا على كلمة ومشتتون، والاعتراض على الأوامر والمخططات الدولية ستجلب لنا الكوارث، والكوارث متنوعة، ولأصحابها قدرات وليس قدرة، ومن يدعي أننا نستطيع الرفض ونحن على خلاف، فليتمعن في النتائج الحاضرة والماضية وما أكثرها، ومن يدعي أن المآسي كانت نتيجة التبعية الرخوة يتناسى الظروف والحقائق والأبعاد الدولية وإمكانيات القوى المتربصة.
الأحداث متسارعة، والاتفاقيات تتعدد على مصيرنا وبغيابنا، بعضها تلغي البعض، وتحولنا من مستنقع إلى مستنقع، روسيا تدعي أنها تحمي الكرد في الوقت الذي تخلت فيها أمريكا عنا، والسلطة تطلب من الجنرال مظلوم كوباني الذهاب إلى دمشق بدل واشنطن، وواشنطن وبشكل فجائي تطلب زيارتها وأصبحت تفتح للبعض منا الأبواب، جلها مقابل الخدمات المصرحة عنها وبدون مواربة، حتى دون أن يفكروا باعتراف سياسي، أو تقييم لتضحياتنا ولوجودنا كشعب على أرضه ولا حديث عن الهجرة الناتجة ولا عن الموقف الشاذ المفاجئ، ولا حديث عما حل بنا جراء الضوء الأخضر الذي أشعلوه لأردوغان ومرتزقته، ولا عن المؤامرة المحاكة قبل خمس سنوات والمؤدية إلى ما نحن عليه، وقد كتبت فيها حينها تحت عنوان (خطة تدمير كردستان) وكانت أمريكا تعلم بها، دون العمل على درئها، والأسباب على الأغلب مصالحها، فهي التي أخبرتنا وفقط طلبت منا التقارب، والعمل معاً، ونبهت كل الأطراف مرارا وتكرار، وبطرق عدة.
العالم يترحم، والإعلام يتوقع الكثير، وفي كل الأروقة الدبلوماسية تحركات، ولكن جلها لا تزال أصوات وصرخات دون فعل، لا زلنا أدوات تحت الطلب، تبينت بشكل سافر في متطلبات ترمب، فالصور النمطية الدولية عنا، لا تزال مترسخة أننا نحن الكرد جنود شجعان سهلة القيادة، وإلا فما طلب ترمب من القوة الكردية، ورغم ما حل بها، حماية المعسكرات القابعة فيها الألاف من الدواعش ودون دعم سياسي وعسكري يذكر، بل تحدث عن الأموال والسلاح التي قدمه متناسيا الألاف من الشهداء والجرحى، والأن وبعد أن نبهه وزارة الدفاع أن أمريكا ستخسر منابع النفط بعد خروج قواتهم، أعاد النظر في الانسحاب، وطلب وبوقاحة من الكرد، وبلسان دبلوماسي، حماية منابعها تحت حجة أن مدخولها سيصرف على الكرد أو على أبناء المنطقة، وأتبعها بتصريح على أنه يحضر لإرسال الشركات الأمريكية لاستثمارها.
الأسلوب الذي يتحدث فيه ترمب بينت أنه أصبح يحمل صورة نمطية عن الكرد بإمكانه استغلالهم حسب ما يطلبه، وعلى أن الكرد في أشد الحاجة لتقبل شروطه، وإلا وكما قالها وبصفاقة، عليهم أن يقتلوا والأتراك بعضهم البعض لأيام، فالأطفال أحيانا يحبون أن يتقاتلوا بعدها سنفرق بينهم، وأضاف بعدها وكتنبيه وترهيب أن تركيا تملك الطيران وأنكم الكرد لا تملكونها وغيرها من التصريحات الساذجة والترهيبية.
وللأسف فإن ظروفنا تمنعنا من الاعتراض، فنحن على خلاف وتنقصنا الحكمة والوعي، والأعداء يحيطون بنا من كل جانب، وجميعهم يتفقون فيما بينهم، فالشماتة العروبية من المعارضة التكفيرية العروبية السورية وغير السورية سقطت إلى أدنى درجات الانحطاط الخلقي، والانتهاكات والعمليات الإجرامية بحق شعبنا في عفرين وشرق الفرات تجاوزت كل الحدود، وهنا يظل الموقف إما الرفض وتحمل النتائج، أو الدبلوماسية بالقبول مع عرض المقابل وهي الاعتراف السياسي بالإدارة الكردية، مع إخراج تركيا من عفرين وشرق الفرات، والدعم العسكري، والدبلوماسي وخاصة مع روسيا، خاصة وأن روسيا أصبحت الآن على الخط وبقوة عسكرية وسياسية، وعلى الأغلب تحمل معها الموافقة الأمريكية، ولذلك فرضت شروطها على تركيا والمعارضة ولم يظهر أي اعتراض أمريكي على إزالة اتفاقيتها مع تركيا، وعلى الأغلب لبوتين مخطط واضح حول الوجود الكردي كقوة عسكرية وحقوق إدارية ضمن مسودة الدستور.[1]