#فؤاد حمه خورشيد#
خانقين.. بقاء في صراع جيوبولتيكية نقمة المكان
تهتم الجغرافية عموما بخصوصية المكان وتغيراته وبالعوامل المحيطة المؤثرة فيه. وتبرز من بين هذه الخصوصيات ظاهرة الموقع الهامشي للمدن من حيث القلب الذي تنتمي إليه، او الطرق التي تربطها به ، وبالأقاليم المجاورة. وهنا يبرز في المقام الأول الموقع الهامشي للمدن التاريخية الواقعة على امتداد طرق التجارة التي تربط بين الأقاليم، سواء أكانت طرقا للقوافل في العهود الماضية، او مدنا واقعة على الطرق الستراتيجية المارة عبر تخوم او حدود الدول في الوقت المعاصر. ان واحدة من ابرز مدن كوردستان ، من هذا الطراز، هي مدينة( خانقين) التي تأثرت بمثل هذا الموقع عبر تاريخها . لذا فهي تعتبر بوابة كوردستان الجنوبية ، أو بوابة جبال زاجروس ، او بوابة الشرق، كما توصف . لكل هذه التوصيفات وجدنا من المناسب ان نظهر بعض المؤثرات السلبية لهذا الموقع الجغرافي، ومخاطره على هذه المدينة الكوردستانية العريقة وقدرتها ،وأهلها ،على تجاوز تلك المخاطر والتهديدات عبر التاريخ.
يحضى المكان في الدراسات الجغرافية (قديما وحديثا) باهتمام خاص ومتميز لدوره البارز في التحليل الجيوبولتيكي وفي نتائجه من النواحي السياسية والاجتماعية والسلوكية والعسكرية. وبالتالي تأثيره الحتمي على مصير سكانه ومستقبلهم السياسي،
من هنا جاءت أهمية التعرف، قدر تعلق الموضوع بالعنوان، على خصائص و أهمية موقع خانقين ، لمعرفة أثرهما على جيوبولتيكية الصراع في هذه المنطقة الحيوية
من كوردستان:
1-موقعها الجغرافي في قدمات جبال كوردستان، وعند حافاتها ضمن المنطقة الانتقالية لما بين السهول والجبال العالية، وهذا يجعلها بمثابة الساتر الدفاعي الأول ، والمدخل الهام لجبال زاجروس ، لأنها شكلت و تشكل ، تاريخيا وجغرافيا، العتبة الأولى في سلم تسلق جبال كوردستان المشرفة على احد اهم المداخل التاريخية للعمق الكوردستاني ، والمعبر التاريخي الذي سلكه معظم الغزاة الأجانب لهذه المنطقة ، سواء أكانوا آتين من الشرق او من الغرب.
2-موقعها التاريخي والإستراتيجي على احد اهم الطرق في قارة أسيا، قديما وحديثا، . فقد كانت خانقين إحدى محطات( طريق داريوس521-485ق.م. الملكي) في العهد الاخميني الممتد من (مدينة سوسه) الى( مدينة ساردس) ، عاصمة ليديا في أسيا الصغرى ،والبالغ طوله 2400كم والذي كان يمكن للمشاة قطعه ب 90 يوما وعلى ظهور الخيل ب 7 أيام، وهو نفس الطريق الذي سلكه الإسكندر المكدوني عام 330 ق.م لإسقاط الدولة الأخمينية ، بعد قرن ونصف من ذلك الزمن.ولا تزال هذه الأهمية سارية حتى عصرنا هذا، لوقوع خانقين ألآن، في نفس المكان الستراتيجي، عسكريا ،وتجاريا ،الرابط بين بغداد- خانقين- كرمنشاه-همدان ،ومنها نحو أواسط أسيا، لذلك أطلق على خانقين وطريقها المؤدي الى عمق كوردستان ب (بوابة أسيا).
3- موقعها الحساس عند ملتقى طرق الحضارات، او عند حافاتها، كالحضارة الفارسية، والعربية الإسلامية، وحضارة الكورد، والحضارتين الآرية و السامية، ولفترة محددة ، الحضارة الطورانية كذلك.
4-بيئتها البينية، أي موقعها البيني بين الصحاري العربية وأقاليم الاستبس الكوردستانية، وطبيعتها الانتقالية ما بين المناطق شبه الجبلية والجبال العالية، من جهة، وبين الصحاري المجدبة في كل من ايران عربستان ومراعي الاستبس الغناء في كوردستان، من جهة ثانية ، جعلها عرضة لاندفاعات العديد من الجيوش الغازية ، بدوية كانت أم معاصرة ،سواء أكانت آتية من الشرق أو الغرب ، محتلة كانت أم عابرة.
5-ضعف ما تتمتع به من (عمق استراتيجي نسبي) لبعدها الجغرافي عن منطقة القلب الكوردستاني، ونقصد هنا بالعمق الستراتيجي المسافة الفاصلة بين الخطوط الأمامية للجبهة ومناطق التركز السكاني والصناعي للأقاليم ، او الدولة . فخانقين تقع عند الحافة الكوردستانية، لكنها مع ذلك، شكلت و تشكل الدعامة الستراتيجية في الدفاع عن كوردستان في (كه رميان)، ودرعا لمناطق (كويستان)، فضلا عن تأثيراتها المعنوية والسوقية على مناطق كوردية أمامية أخرى مهددة، مثل قزلرباط وجلولاء.
6-أهميتها الاقتصادية لاحتواء أراضيها على احد مكامن النفط الهامة في كوردستان الجنوبية(نفط خانه ونفط شاه) والذي زاد من قيمتها واعتباراتها وأهميتها القومية لكوردستان، والذي أصبح احد أسباب الاندفاعات الأجنبية نحو هذه الإقليم الكوردستاني.
هذه الحقائق الجغرافية ، هي جميعها، من فضائل( نعمة المكان) لخانقين ، موقعا وسكانا بشكل خاص ، ولكردستان بشكل عام .لكنها من جهة أخرى ، فان هذه النعم والفوائد الجغرافية شكلت عامل جذب لأطماع القوى الأجنبية البعيدة والقريبة وحولت تلك النعمة الى نقمة، وهذا ألحتم الجغرافي طبقته كل القوى الطامعة الغازية ، سواء أكانت هاجمة من الشرق ، أو غازية من الغرب ، كالمكدونيين والفرس والعرب والترك والروس ، وهذا ما يفسر لماذا كانت هذه المنطقة ، أي خانقين بالذات ، عرضة الى العديد من حالات الشدة والعسر والمصائب عبر التاريخ، وهذا هو الذي نطلق عليه عبارة (جيوبولتيكية نقمة المكان), أي تحول نعمة المكان لسكانه الى نقمة عليهم بفعل الإطماع والتدخلات والهجمات الأجنبية ،فهذا لوحده كان كفيل بتحويل ارض خانقين برخاء أهلها وثروات إقليمهم ، الى ساحة لمعارك طاحنة يتصارع فوقها الطامعون الأجانب من دون ان يحصد أهل خانقين منها سوى الخراب والدمار لهم و لبلادهم. وهذه بعض الأمثلة التاريخية:
1 - في عام 330ق .م عبرها جيش الإسكندر المكدوني، قادما من اربيلا باتجاه سوسه .
2- في عام 642 م اجتاحها العرب المسلمون ، ومنها الى نهاوند حيث دارت المعركة الطاحنة بين الفرس والعرب، وكان الفوز فيها للمسلين في معركة نهاوند التي سميت (بفتح الفتوح).
3-في أعوام 1258 و 1402 عبرت منها جيوش المغول، والتتار بقيادة هولاكو، وتيمو لنك ، ناشرين فيها، وبظهير ها ، من القرى والأرياف الخراب والدمار.
4- في سنوات الصراع ألصفوي – العثماني تحول إقليم خانقين الى منطقة( تخوم) فاصلة بين أراضي تلك الإمبراطوريتين، وجر ذلك الى ادعاء كل واحدة منهما بعائدية وملكية المدينة وإقليمها اللذان أصبحا جزءا من سوح المعارك الطاحنة بين الدولتين .
5-في الحرب العالمية الأولى، بين أعوام 1915-1917،تقدم الجيش الروسي من القوقاز جنوبا ودخل خانقين من جهة ايران مطلقا العنان لجنوده ليعبثوا فسادا ونهبا وسلبا في أرجاء المدينة وأطرافها بلا قيود او حدود او أخلاق.
6-في زمن الاحتلال البريطاني للعراق وكوردستان، أثناء وتعد الحرب العالمية الأولى، كانت خانقين نقطة التماس والاتصال الأولى بين قوات الاحتلال البريطاني والشعب الكوردي وحركته القومية التحررية، آنذاك، بقيادة الشيخ محمود الحفيد. وبسبب السياسة الهوجاء التي تبناها البريطانيون ضد الحقوق القومية الكوردية انتفض أهل خانقين ضد الانكليز في عام1920.
7-عانت خانقين كثيرا من سياسة التعريب الشوفينية التي مارستها الحكومات العراقية المتعاقبة في العراق ابتداء من تأسيس الدولة العراقية، من قبل الانكليز في عام 1921، وحتى يوم انتفاضة الشعب الكوردي ضد مستعربيه في عام 1990. فسكان خانقين تقلصوا عدديا ، بسبب نلك السياسة ،من 80% من سكان المدينة عام 1947، الى 58% في عام 1957، والى54% في عام1965، وال27%% في عام1977 . وكان الهدف من تلك السياسة هو العمل على إلغاء الهوية القومية الكوردية والكردستانية لأرض وسكان خانقين التي عجزت كل النقاط الست السابقة من تحقيقها. لكن هذه السياسة ، هي الأخرى،فشلت أمام صمود وبطولة سكان خانقين.
8- كما عانت هذه المدينة من ويلات الحرب العراقية – الإيرانية1988 -1988، ونالها، من ماسيها، ما لم ينل الا النادر من المدن العراقية، من تدمير، وتهجير، وتخريب، وقصف، وتشريد ومصائب لا حصر لها, وتدمير كل بناها الاقتصادية التحتية، بما في ذلك تدمير مصفى الوند النفطي الذي أنشئ في عام 1931.
ختاما..ان المهم والمثير للإعجاب والفخر في جيوبولتيكية خانقين وأهلها، هو حفاظهم ، رغم كل ماسي ذلك الزمن الرهيب والمرعب، على هويتهم الكوردية الكوردستانية نقية خالصة، مكانا، وأصالة، ولغة ، وحضارة، دون ان يمسسهم التغيير رغم عاديات الزمن المر الذي اكتنف تاريخهم منذ ألاف السنين. فلا الزمن ، ولا الغزاة الغرباء وسياساتهم، استطاعوا ان يغيروا نعمة المكان( الخانقينية)، الا الى أتون يحرقهم ، ويبيد كل سياساتهم الشوفينية العدوانية.[1]