الكرد الفيلية ومعاناتهم بالعراق، وطنهم الأصلي
مقالات فيلي
د.كاظم حبيب/ الكرد الفيلية ليسوا طارئين على العراق، ليسوا مهاجرين حطَّو فيه موقتاً ليغادروه بعد حين، أو ليطردوا منه شر طردة، كما فعل النظام البعثي الفاشي في العام 1980، فهم جزءٌ أصيل من أبناء وبنات هذا الوطن الذي هو العراق. إنهم من بناة العراق على امتداد القرون المنصرمة. كما إنهم جزءٌ أصيل من القومية الكردية، أو الأمة الكردية، وليسوا طارئين عليها أو ملتحقين بها أو ناكرين لها. ورغم هذا العلاقة الحميمة والأصيلة بين الكرد الفيلية والعراق، عرضهم قانون الجنسية الأول الذي صدر في العام 1924 في أعقاب تشكيل الدولة العراقية في العام 1921، وقبل صدور الدستور العراقي الأول في العام 1925، وتحت وطأة الاحتلال البريطاني وتأثير الفكر والثقافة والتربية العثمانية التي نشأ فيها قادة العراق الجدد حينذاك، إلى التمييز المخل بحقوقهم، حين ميّز بين الجنسية العراقية (أ)، لمن كان من رعايا الدولة العثمانية، والجنسية العراقية(ب) لمن كان من غير رعايا الدولة العثمانية! وهذا الخلل برز في اعتبار العراقي من الدرجة الأولى عملياً هو من يحمل شهادة الجنسية (أ)، في حين وضُع من فرض عليه حمل شهادة الجنسية (ب) في مستوى الدرجة الثانية. وألحق هذا التمييز الطائفي ضرراً فادحاً ومستمراً بالكرد الفيلية وبالكثير من المواطنات والمواطنين العرب من أتباع المذهب الشيعي على امتداد الفترة الواقعة بين 1924-2005، حيث تم وضع الدستور الجديد الذي وحَّد شهادة الجنسية العراقية وألغى ذلك التمييز غير الإنساني بين مواطنات ومواطني العراق من مختلف القوميات وأتباع الديانات والمذاهب، مع وجود اختلالات أخرى تمييزية في الدستور الجديد الصادر عام 2005 أيضاً، وهي التي يفترض إزالتها مع أي تعديل قادم وضروري، مثل اعتبار دين الدولة العراقية هو الإسلام، في حين إن الدولة شخصية اعتبارية لا دين لها ولا مذهب ولا قومية، بل إن الإنسان الفرد يمكن أن يعتنق أي من الأديان والمذاهب أو بدونها، أو يحمل هذا القومية أو تلك، على سبيل المثال لا الحصر. وإذا كان الكرد الفيلية، وخاصة العائلات الكادحة والفقيرة منهم، قد عانوا من التمييز والتهميش في ظل النظام الملكي، كما حصل مع الشعب الكردي أيضاً، فأن ما تعرضوا له في ظل النظم السياسية الجمهورية، عدا فترة قصيرة في ظل الحكم الوطني وحكومة عبد الكريم قاسم، كان مريعاً، وخاصة في فترة حكم البعث والقوميين الناصريين العرب بعد إسقاط حكومة الجمهورية الأولى في العام 1963. وفي هذا العام جرى ترحيل ما يقرب من نصف مليون مواطنة ومواطن عراقي بتهمة التبعية لإيران، وبينهم كان الكثير من الكرد الفيلية والعرب الشيعة. ومن ثم في فترة حكم البعث الثانية 1968-2003، حيث حوربوا وهمشوا .. ثم هجروا في مايس/أيار 1980 جميعاً بشكل قسري وفقدوا كل ما يملكون من ثروة وممتلكات منقولة وغير منقولة، وقتل منهم في طريقهم إلى المهجر الإيراني، وعبر إرسال شبابهم إلى المواقع الأمامية من جبهات القتال في الحرب العراقية – الإيرانية، وفي السجون وتحت التعذيب والقتل العشوائي، إذ ما يزال الكرد يفتشون عن أكثر من عشرن ألف إنسان من خيرة الشباب العراقي مفقود لا تعرف عائلاتهم أين هم، وهل قتلوا جميعاً، وأين مقابرهم الجماعية؟ وهذا الترحيل الجماعي شمل أعداداً كبيرة جداً من عرب الوسط والجنوب من أتباع المذهب الشيعي بذريعة التبعية لإيران واعتبارهم جزءاً من الطابور الخامس التابع لإيران بالعراق. وكان للكرد الفيلية، وجلهم من سكان المدن، على امتداد تاريخ العراق الحديث، الدور الفعال والحيوي في الحياة الثقافية، في مجالات العلم والأدب والفن، فمن بينهم برزت مجموعة مهمة من خيرة الموسيقيين المميزين والمغنين الذين شاركوا في إناء الموسيقى العراقية وأبدعوا فيها، كما كان للكرد الفيلية باع طويل في المسرح والفن التشكيلي. وبرز بينهم الكثير من الكتاب والأدباء وكتاب القصة والرواية والمسرح. إضافة على بروز مجموعة مهمة من العلماء والاختصاصيين في مختلف الفروع العلمية، وقدموا خدمات جليلة للثقافة العراقية بمختلف فروعها وعلى امتداد القرن العشرين حتى الوقت الحاضر. كما شارك الكرد الفيلة بدور سياسي نضالي بارز يعترف به الجميع وقدموا على هذا الطريق الكثير من التضحيات وتحملوا الكثير من الاضطهاد والضيم والحيف الشديد، باعتبارهم جزءاً من الشعب الكردي أولاً، وجزءاً أصيلاً من الشعب العراقي، إضافة إلى دورهم النضالي السياسي التقدمي والديمقراطي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي والقوى والأحزاب الكردستانية، مثل الحزب الديمقراطي الكردي، وفيما بعد الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومن ثم منذ العام 1976 الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الاشتراكي الكردستاني وغيرها من الأحزاب الوطنية. ولكونهم كرد ومن أتباع المذهب الشيعي عانوا الأمرين على أيدي القوى القومية والبعثية الشوفينية التي اتسمت بالكراهية العنصرية والطائفية واتهامهم للكرد الفيلية الشيعة بالتبعية لإيران، أو كطابور خامس لها بالعراق، وهي تهمة قذرة وخالية عن الصحة وعنصرية بحتة، كما اتهم العرب الشيعة عموماً في كونهم شعوبيين! أو موالين لإيران بالضرورة!، في محاولة يائسة وبائسة لإشاعة أجواء الطائفية السياسية العدائية، التي أصبحت اليوم، وفي ظل النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية في أعقاب إسقاط نظام البعث الدكتاتوري الفاشي، سياسة رسمية للنظام السياسي الطائفي القائم بالعراق، تمارس التمييز والتهميش والإقصاء بدعوى المظلومية الشيعية ضد العرب السنة وضد الشعب الكردي. ومن الجدير بالإشارة إن الكرد الفيلية شاركوا بحماس وحيوية في حركة البيشمركة التابعة للأحزاب الكردستانية وفي حركة الأنصار الشيوعيين في الستينيات، ومن ثم في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، التي تصدت للنظام الدكتاتوري البعثي لسنوات كثيرة وتحملوا مع الآخرين الصعاب والاستشهاد في النضال ضد الدكتاتورية الغاشمة والعنصرية المقيتة لحزب البعث العربي الاشتراكي. الأسئلة التي تواجه كل العاملين في الحياة السياسية العراقية منذ إسقاط الدكتاتورية الغاشمة واحتلال العراق حتى الآن، وأنا منهم، هي: أين يقف الكرد الفيلية مما يجري بالعراق اليوم، وما هو دورهم وتأثيرهم في الحياة السياسية العراقية؟ وكيف ينظرون إلى مستقبل علاقاتهم السياسية والاجتماعية بالعراق؟ أدرك تماماً بأن هذه الأسئلة تدور في بال الجميع، وأعرف أنهم ومنذ عودتهم إلى العراق قد حاولوا الكثير لتوحيد صفوفهم، ولم ينجحوا في ما يسعون إليه إلى الآن. والجميع يتساءل ما السبب وراء ذلك؟ لا بد من الاعتراف بأن الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية لتي نشأت في أعقاب إسقاط الدكتاتورية الفاشية وسقوط العراق تحت الاحتلال الأمريكي البريطاني وإقامة نظام سياسي طائفي ومحاصصة طائفية وسيادة الهويات الفرعية القاتلة بدلاً من الهوية الوطنية، هوية المواطنة الموحدة والمتساوية والمشتركة، قد ساهمت مجتمعة، إضافة إلى مخلفات العهد البعثي الدكتاتورية والأوضاع بإيران باعتبارها المهجر الكردي الفيلي بشكل خاص، لعبت دورها السلبي لما يعاني منه الكرد الفيلية من تشتت وبعثرة لقواهم واتجاهات أفكارهم ونشاطاتهم. كما لا بد من الاعتراف بأن الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية قد لعبت دوراً سلبياً وما تزال في هذا الاتجاه بسبب الوعود الفارغة التي قدموها للكرد الفيلية وكسبوا الكثير منهم إلى جانبهم، وبهدف طائفي بغيض، ولم ينفذوها بأي حال. ونتيجة ذلك تبعثر الكرد الفيلية وتوزعوا على الهوية أحزاب الهوية الدينية الطائفية بشكل خاص، وأصبحت الهوية القومية والهوية العراقية بعيدة عن التفكير بها. ولا شك في أن الأحزاب الكردستانية لم تفعل الكثير ولا الأحزاب الوطنية الديمقراطية العراقية قد لعبت الدور المناسب في التعبير عن أهداف ومصالح هذه الشريحة الكبيرة من أبناء وبنات الشعب الكردي والشعب العراقي في آن واحد، وبالتالي عجزوا عن كسبهم إلى جابنهم وفسحوا في المجال للأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية أن تهيمن على القسم الأعظم منهم. ومن هنا لاحظنا بأن الدور المميز للكرد الفيلية قد غاب بفعل غياب دورهم القومي الكردي والوطني العراقي وتشبثوا بالهوية الطائفية القاتلة، بالرغم منهم. من هنا يمكن الادعاء وبثقة عالية بأنهم كانوا وما زالوا أكثر الخاسرين ككرد وكعراقيين وم أتباع المذهب الشيعي. لا شك في أن المسيحيين والإيزيديين والصابئة المندائيين والشبك والبهائيين والزرادشتيين وغيرهم من سكان العراق القدامى قد عانوا في العراق الطائفي السياسي من القتل والتشريد على ايدي المليشيات الطائفية المسلحة، سنية وشيعية، ومن ثم من الإبادة الجماعية على أيدي عصابات داعش، وأن الكرد الفيلية لم يواجهوا هذه المأساة في محافظة نينوى والأنبار وصلاح الدين، ولكنهم مع ذلك لم يستردوا ما فقدوه عبر نهج وسياسات النظام الدكتاتوري البعثي، بل ساهم النظام السياسي الطائفي الجديد والمحاصصة الطائفية ببعثرتهم وتشتيتهم ولم يهتم بهم أي حزب سياسي كردستاني، وكأنهم ليسوا أكراداً أو كونهم جزءاً من الأمة الكردية له خصائصه التي يفترض احترامها وله دوره الذي يفترض الاعتراف به، وله مكانته النضالية التي يفترض رؤيتها بوضوح وأن له تاريخه النضالي الذي لا يجوز نسيانه في كل المراحل المنصرمة، وأن هذا الجزء من الكرد قد تعرض للإبادة الجماعية ايضاً لا بتشتيتهم فحسب، بل وفي قتل عشرات الآلاف منهم على أيدي النظام الدكتاتوري، وزج الآلاف منهم في الصفوف الأمامية من جبهات القتال ضد إيران، والذين استشهد أغلبهم فعلاً، أو قتلهم في سجون النظام وتحت التعذيب. إن مآسي العراق كثيرة وكوارثه أكثر، ومعاناة الكرد الفيلية كثيرة حقاً ويجب أن تنتهي. ولكي تنتهي لا بد لهم أن يمسكوا بزمام أمورهم بأيديهم، وأن يدركوا بأن مهمتهم الراهنة تتلخص في وحدة كلمتهم وتوحيد صفوفهم في صيغة نضالية ملموسة والابتعاد عن تلك الصراعات التي يمكن أن تمزق صفوفهم وتجعلهم كتلاً متناحرة، كما هم عليه الآن. لا يمكن لأحد أن يضع خطاً أحمر على الكرد الفيلية، بل هم أحرارٌ، وهم جزءٌ أصيل وحيوي وفعال من الأمة الكردية ومن النسيج الوطني للمجتمع العراقي. إن على الكرد الفيلية في يوم الشهيد الكردي الفيلي أن يدركوا بأن ضحاياهم يجب ألا تذهب هدراً ودون جدوى، وإن نداء الشهداء كان وسيبقى يدعوهم لوحدة الكلمة والصف ووحدة النضال لتحقيق الأهداف ومن على منبر الذكرى السنوية للاحتفال التأبيني للشهيد الكردي الفيلي أتوجه بالنداء إلى كل الأفراد والكتل والجماعات الكردية الفيلية بالداخل والخارج وأدعوهم إلى مناقشة الرؤية التالية: أولاً: الاتفاق على عقد لقاء أولي بين ممثلي جميع الكتل والقوى والاتحادات الكردية الفيلية والشخصيات الاجتماعية والعلمية والثقافية لوضع ورقة عمل مشتركة عن المهمات الأساسية والرئيسية، كحد أدنى، التي تواجه كل الكرد الفيلية في المرحلة الراهنة. ثانياً: الدعوة على عقد مؤتمر عام تحضره وفود من القوى والاتحادات والشخصيات التي يتم الاتفاق عليها بهدف إقرار خطة طريق لنضالهم المشترك ومناقشة ورقة العمل التي أقرت مبدئياً في الاجتماع التمهيدي الأول وانتخاب قيادة مشتركة وموحدة لقيادة هذا النضال الذي لم يعد تأخيره يخدم أياً من الكرد الفيلية، بل يخدم أعداء الكرد الفيلية. ثالثاً: الاتفاق المبدئي الصارم على معالجة المشكلات التي تبرز في صفوف الكرد الفيلية بالحوار والنقاش الهادف والابتعاد عن الصراع والانشقاق وتشكيل منظمات جديدة والعودة إلى نقطة الصفر من جديد. أتمنى على الأخوات والأخوة الكرد الفيلية أن يضعوا نصب أعينهم خمس مسائل جوهرية: المعاناة التي دامت قرابة ستة عقود، وخاصة منذ العام 1980، والتي لم تنته إلى الآن. وأن ليس هناك من ينهي هذه المعاناة إلا أنفسهم وبالتعاون المستقل مع بقية القوى الكردستانية والوطنية العراقية. وأن دماء الشهداء من الكرد الفيلية تطالبهم دوماً بوحدة الموقف والنضال المشترك من أجل ألا تذهب تلك الدماء هدرا. وإن هذه الوحدة تصب في صالح الشعب الكردي ونضاله الوطني والقومي. كما إنها في صالح الشعب العراقي ونضاله في سبيل الخلاص من النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية، وفي سبيل إقامة مجتمع مدني ديمقراطي ودولة مدنية ديمقراطية يتمتع فيهما الكرد الفيلية كبقية أبناء وبنات القوميات وأتباع الديانات والمذاهب الأخرى بحقوقهم المتساوية كمواطنات ومواطنين في عراق حر ومدني ديمقراطي.[1]