#فؤاد حمه خورشيد#
كانت ايجابيات جغرافية جبال كوردستان بكل تفاصيلها عبر العصور , عظيمة تجاه الشعب الكوردي من حيث حمايته من الفناء، و عزلته الجغرافية، ومحافظته على حضارته وثقافته ولغته الخاصة، وعلى نقاء سماته الانثروبولوجية، و محافظته لفترة أطول على خصائص الأصول الهندو- أوربية للأمة الكوردية, لكنها كانت في نفس الوقت ذات سلبيات شكلت( نقمة جغرافية) عليه، فنوعت لهجاته، ونمت لدى أبنائه الروح الإقليمية والعشائرية، وحرمتهم من الوحدة السياسية ,وتأسيس كيانهم السياسي المستقل، وحولت بلادهم الى ساحة للصراعات الدولية و الإقليمية، فتعدد المصطرعين على بلادهم, حول كوردستان الى ميادين للقتال الدامي، ملحقين بها الدمار الشامل لمرات عديدة . يقول مارك ميجر:(ان جبال كوردستان كانت رحمة ونقمة على الكورد في تاريخهم الطويل ولعدة فترات، فالجبال المقفلة قدمت لهم الحماية من السيطرة الأجنبية ، ووفرت لهم الملاجئ الآمنة للانطلاق في حروب العصابات، كما ان موقع الجبال المركزي (بالنسبة الشرق الأوسط ف.) جعل من كوردستان ممرا للتجارة الخارجية التي استفاد الكورد منها. ومن ناحية أخرى ساهمت هذه الجبال في عزل الكورد عن بعضهم, وعرقلت تطور وحدتهم الحضارية والثقافية و أعاقت تأسيس دولة كبيرة لهم.كما ان موقعها جعل منها منطقة إنذار بالغ الأهمية لإمبراطوريات متنافسة عديدة بضمتها الإمبراطورية الرومانية والعثمانية , لكن حرمان كوردستان من السواحل البحرية جعل منها بلادا منسية في عالم التجارة البحرية لمدة 500 عام الماضية لاعتبار ان الطرق البحرية أصبحت واسطة رئيسة للتجارة الإقليمية والعالمية)بدلا من طريق الحرير القديم المار بها.
من استقراء إحداث التأريخ الكوردي ,العسكري و السياسي , تؤكد لنا حقائق الجغرافية التاريخية و السياسية ان مكان كوردستان لازال يشكل حيزا جغرافيا يتمتع بقيمه جيوستراتيجية كبيرة وهامة في صراعات المنطقة ، كما كان كذلك فيما يتعلق بالصراعات والحروب الكلاسيكية للقوى الإمبراطورية عبر التأريخ. لذا فان جبال كوردستان احتفظت بنفس الأهمية الجيوستراتيجية في العصور القديمة والوسطى والمعاصرة على حد سواء وهذه السمة ,جعلت من بلاد الكورد ان تكون, هدفا مغريا، وعامل جذب لإطماع القوى الكبرى المجاورة والبعيدة ، على حد سواء، مما عرضها على مر العصور لغزواتها و هجماتهم المدمرة والتي ساهمت في زيادة تخلفها وفقرها وفي تعدد ولاءات قبائلها، ومن ثم تجزئتها و احتلالها .
من عام 612 ق.م وحتى عام 1514م (اى عبر 2126 سنة) لا نعتقد بأن وطنا زحفت عليه جيوش غازية ، وعابرة، ومحتلة، ومدمرة في التأريخ القديم والوسيط والحديث، مثلما عانت ارض كوردستان من ويلات هذه الجيوش وصراعاتها القاسية لكل تلك الفترة الطويلة من الزمن. كانت لبعض تلك الغزوات آثار خطيرة, محليا, و إقليميا وعالميا. فقد قتلت تلك الحروب، التي دارت رحالها فوق ارض كوردستان، عشرات الآلاف من البشر، و غيرت نتائج معاركها معالم بعض الأقاليم الاثنية والديموغرافية، وقضت على حكومات و خلفت إمبراطوريات، لأن تلك الغزوات لم تكن لتلتزم بأي شيء من تقاليد الرأفة أو الشفقة أو الرحمة حتى على سكانها المحليين ، بل كانت تهتم, فقط , بإستراتيجية كسب الأرض والغنائم المادية والفتوحات العسكرية و تأسيس الإمبراطوريات. لذا فان ارض كوردستان كانت تبعا لذلك ساحة لتلك المعارك المصيرية التي خاضتها جيوش تلك القوى الأجنبية المتصارعة والمتنافسة التي غيرت بعض غزواتها, تاريخ المنطقة لفترة غير قصيرة من الزمن، لكنها في كل الأحوال لم تستطيع تغيير معالم كوردستان الاثنية، كوطن قومي للشعب الكوردي، مع ان أوطانا أخرى تغيرت سماتها الاثنية بسبب الهجرات البشرية التي تسببت بها تلك الحروب.
لقد فرضت جغرافية المكان على الأمة الكوردية ان تواجه, أو أن تتحمل, مرغمة, ما ألت إليه نقمة هذه الجغرافية من ويلات على بلادها جراء تلك الهجمات والغزوات الدامية سواء أكانت آتية من الشرق: من أسيا الوسطى، أو من الغرب:من اليونان أو أرض العرب. فالغزاة الأتون من الشرق(الفرس، المغول، التتار، والتركمان)، كان عليهم ان يجتازوا جبال كوردستان و احتوائها قبل ان يتمكنوا من الهبوط غربا نحو سهول بلاد مابين النهرين أو دخول الأنضول . وعلى عكس ذلك، كان على غزاة الغرب (كالمكدونيين والبيزنطيين والعرب والترك) ان يجتازوا كذلك جبال كوردستان واحتوائها ليتمكنوا من التوجه شرقا نحو إيران واسيا الوسطى، فبدون ذلك فان جغرافية المكان لجبال كوردستان كانت تشكل عقبة كأداء أمام أي اجتياح عسكري لها ما لم تقدم في سبيل ذلك تضحيات جسام . وان تصادف ان تواجهت قوتان متصارعتان لاحتواء كوردستان وتعذر على إي منهما تحقيق ذلك الاحتواء, و تخندق كل طرف فوق نصف أو جزء من هذه البلاد, فأن من شأن ذلك, ان يخلق بينهما نوعا من توازن القوى. عندئذ سيكتفي كل طرف باحتلال ذلك الجزء والتخندق فيه فترة ,قد تطول أو تقصر, ومعنى ذلك ابتلاء الأمة الكوردية بأكثر من محتل واحد , في زمن واحد , لأراضيها.
ولعل ابرز المعارك الحربية التاريخية والمصيرية الطاحنة التي دارت أحداثها الدامية فوق أديم كوردستان, دون ان يكن للشعب الكوردي دخل فيها او في فرضها , باستثناء الأولى منها, هي :
1- معركة نينوى عام 612 ق.م :بين الكيديين الكورد وحلفائهم البابليين من جهة والأشوريين من جهة ثانية, والتي أنهت الدولة الأشورية.
2- معركة كوكاميلا عام 331ق.م:التي انتصر فيها الإسكندر المكدوني على داريوس ملك الفرس.وأنهت الدولة الأخمينية.
3- معركة نهاوند عام 642 م : التي انتصر فيها المسلمون وأنهت الدولة الساسانية.
4- معركة ملاذ كورد عام 1070م: التي انتصر فيها السلاجقة وأنهت الحكم البيزنطي في أسيا الصغرى.
5- معركة جالديران عام 1514م: التي انتصر فيها العثمانيون على الفرس, وتقاسم الطرفان احتلال ارض كوردستان الى يومنا هذا.
يتضح من هذا العرض السريع أن جيوبولتيكية نقمة المكان, أي تحول دور وأهمية مكان كوردستان , من ارض جبلية لحماية وصيانة ووحدة الأمة الكوردية واستقلالها السياسي , الى ساحة تتصارع عليها الجيوش الأجنبية الغازية , طمعا في احتلال كوردستان للتوجه بعدها الى الأقاليم التي تمتد بعدها ,وتحويل جبال كوردستان الى ميدان لصراع القوة عبر ذلك الزمن الطويل , وانعكاس مرارة ذلك الصراع على أهل البلاد فضلا عن تقسيم وتجزئة كوردستان , هو الذي جعلنا نعبر عن تلك الإحداث ب ( نقمة المكان )على أهله. وهذه النقمة أوصلتنا الى الاستنتاجات التالية:-
1- أن الموقع الجغرافي لكوردستان ( مكانها ) هو الذي شكل تاريخها منذ أن وجد الشعب الكوردي فوق جبال كوردستان منذ الألف الثالث ق.م وحتى يومنا هذا , وهو الذي حدد أهميتها الجغرافية و الجيوستراتيجية , الإقليمية والدولية. كما أن نقمة المكان وما ترتبت عليه نتائج معارك كل الغزاة الأجانب من اضطهاد ومظالم وتقسيم لأراضي بلادهم وضمها واحتلالها, كان العامل الحاسم في فشل كوردستان في الحصول على استقلالها الكامل ونيل الاعتراف الدولي بهويتها كدولة ذات سيادة لحد الآن.
2- تشير هذه الإحداث التاريخية ونقمها , التي ألحقت بالشعب الكوردي بوضوح لا لبس فيه , الى ان تلك القوى الغازية , العابرة أو المقتحمة, لجبال كوردستان, شرقية كانت أم غربية , كانت كلها قوى منظمة بخلاف الشعب الكوردي الذي كان مشتتا بين قبائل أو إمارات صغيرة وبدون قيادة مركزية موحدة , وحسبما يقول المؤرخ القدير أ.ل.فشر(ان القوة المنظمة تستطيع دائما ان تهزم الرأي غير المنظم)(41) , وهذا يعني ان الأمة الكوردية كانت ولا تزال أحوج ما تكون الى وحدة الكلمة , ووحدة القيادة , لتجاوز مخاطر وتهديدات نقمة المكان التي لا تزال قائمة.
3-ان كل القوى التي غزت الشرق الأوسط ,بما فيها كوردستان,بدوية كانت أم حضارية,كلها كانت قوى منظمة, منضبطة تحت قيادة موحدة , لذلك كسبت المعارك وأسست الدول والإمبراطوريات. في حين كان الشعب الكوردي شعبا قبليا مفككا يفتقر للقيادة الموحدة, وكان هذا هو السبب الذاتي المزمن في عدم حصوله على استقلاله , وتشكيل دولته , وبقائه تابعا, وبلاده مجزأة ومدمجة ببلدان أربع حتى الوقت الحاضر.
4-أن جيوبولتيكية نقمة المكان وما ترتب على نتائج المعارك التي عالجها المقال فان الباحث توصل الى الفرضيات الجيوبولتيكية الثلاث التالية بخصوص القوى التي تناوبت السيطرة على كوردستان :
** أن القوة التي كان بإمكانها السيطرة على جبال كوردستان , كان بإمكانها امتلاك مفاتيح النصر شرقا أو غربا.
**ان القوة التي تمتلك تلك المفاتيح , كان بإمكانها السيطرة على الأقاليم المجاورة, واحتلالها, وتأسيس الإمبراطورية.
**ان القوة التي ليس لديها مثل هذه القدرات وتمركزت في جزء من هذه الجبال وتخندقت فيه , فان من شأن ذلك , ان يمنحها نوعا من توازن القوى فوق ارض كوردستان , مع أية قوة أخرى أثناء الحروب .[1]