#فؤاد حمه خورشيد#
كوردستان , لغويا ومصطلحا , هي وطن الأمة الكوردية التاريخي , وهي على العموم بلاد جبلية وعرة, تقدر مساحتها بحوالي 500000كم مربعا من اراضي الشرق الاوسط, وليس غريباً, أن يوصف الكوردي بأنه ابن الجبال، فالشعب الكوردي، نشأ وترعرع وتكاملت خصاله الحضارية وسماته الانثروبولوجية داخل بيئة جبلية قاسية، ذات مناخ متقلب، وأرض متناقضة في إنتاجها النباتي والحيواني. لذا فان الجغرافية السلوكية تحاول أن تجد أو تفسر مدى تأثير البيئة الجغرافية، وبخاصة ظروفها الطبيعية على شخصية الإنسان وسلوكه وتصرفاته، بل وحتى ممارساته الحضارية. وهذا ما يسعى المقال بإيجاز إليه لإيجاد تلك التأثيرات البيئية على بعض سلوكيات وممارسات الإنسان الكوردي التي تعتبر جزءاً مكملاً لشخصيته.
توصف البيئة الجبلية الكوردستانية بكونها بيئة مرعبة، لشكلها المهيب والمخيف، ولخصوصيتها الطبوغرافية، وتقلباتها المناخية، ومواردها المائية المتذبذبة، وتفاوتها في إنتاجيتها الغابية والنباتية وحيواناتها الأليفة والبرية، وللفارق البيئي الواضع بين مناطقها الجبلية العالية (كويستان)أي الموطن البارد, التي تتمتع بميزات مناخ البحر المتوسط، ومناطقها الأقل ارتفاعاً والأقل تضرساً (كه رميان) أي الموطن الدافئ, ذات المناخ شبه الجاف والحار، فضلاً عن ندرة طرقها السالكة وصعوبة المرور فيها وبخاصة طرق القوافل (الكاروان). لقد بقيت هذه الاعتبارات البيئية سارية المفعول منذ أقدم الأزمنة على الشخصية الكردية ولحين غزو الحضارة المعاصرة ووصول أدواتها التكنولوجية إلى هذه الديار، ولم يقتصر ذلك على الشعب الكوردي وحسب، بل على شعوب عدة، أثرت في معتقداتهم
لقد فرضت البيئة الجبلية على الكوردي عزلتها الجغرافية لقرون عديدة اضطر، على مداها، أن يعيش منعزلاً ضمن قبيلته في بيئة إقليمية مصغرة بعيداً عن عموم بني قومه، الأمر الذي جعله يتعصب لبيته الإقليمي المصغر بشكل ملفت، لا في سلوكه وحسب، بل في لهجته اللغوية وفي طراز ملبسه أيضاً. فتحول بموجب كل هذه المؤثرات إلى إنسان صعب الانفتاح والاندماج والصهر، بأية موجة غريبة غازية (الفرس المغول, التتار، الترك والعرب) وإلى كائن متمترس بهذه الجبال. ومدافع عن ممراتها باعتبارها بوابات ومنافذ لأخطار محتملة، وإلى متمسك متين بجماعته وبني قومه ولسانه، إلا أن الميزة الأساسية في طباعه تبقى حبه وفخره بأصله (من كوردم= أنا كردي). لقد صاغت البيئة الجبلية له طباعه التي أصبحت فيه تمثل طبخة مزيجة من الطيبة والقوة والشجاعة والصدق والأمانة والقدرة على الملاحظة والرصد والارتياب مصبوبة في آن معاً داخل جسد قوى وصلب. يقول المستر ريج (عام 1820): (لم أشاهد مطلقاً أناس ذوي أجساد قوية صحية من الجنسين، النساء والرجال، كما شاهدت ذلك في كوردستان، فرغم سوء الأحوال الجوية، فالكورد بوجه عام قوم أقوياء وأصحاء). أما هاملتون فقد لاحظ الأمانة والألفة التي يتطبع بها سلوك الكوردي فقال: (ذلك الخلق العظيم الذي تتوجه الصداقة الخالصة هو أبرز سمة في الشعب الكوردي كما أثبتت لي تجاربي).
مثلما أوجدت قسوة البيئة الجبلية وتطرفها الجغرافي الكثير من سلوكيات الإنسان الكوردي محولة إياه إلى إنسان حذر وصبور وذو طاقة تحمل واستعداد للقتال والحرب في أوقات الشدة والاضطرار، فأنه من دون تلك التهديدات والمخاطر التي تحاول إيذاءه، أو القضاء عليه وتدميره، فهو في الأجواء الاعتيادية السلمية إنسان أميل إلى الحياة الطبيعية الهادئة، فهو إنسان، رغم قسوة بيئته، وديع طيب القلب، وفيّ ومؤتمن وصادق مع كل من يتعامل معه كوردياً، كان أم غير ذلك، وحولته طيبته إلى إنسان سريع التصديق لأقوال ووعود الآخرين سواء في تعامله الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، وكان كثيراً ما يقع فريسة لتلك الحالات، إذ يصعب عليه أمام طيبته، ونيته الصافية، وثقته العمياء بطراوة الألسن وسخاء الوعود، أن يفرز ما بين ما هو حقيقي وواقعي، وما هو وهم وخداع، أي أن طيبته حولته إلى إنسان سريع التصديق، وكما يقال بالكوردية (خوش باوه ر). مع ذلك فهو، ككوردي، يبقى على سلوكه الثابت: إن وعد صدق، وإن صادق فهو لا يخون.
ولأن الكوردي ترعرع في بيئة طبوغرافية صعبة ومتطرفة مناخياً، ومتناقضة اقتصادياً، فان ذلك ولد لديه صفة التقتير والاقتصاد في النفقات، أي التخطيط الاقتصادي الابتدائي لمواجهة حالات الطوارئ التي قد يتعرض لها من ناحية، ومن ناحية أخرى خلقت البيئة الطبيعية المتطرفة، وما تشكله ظروفها من حالات متناقضة، لدى الإنسان الكوردي حالات متفاوتة من اليسر والعسر، والبهجة والغضب، والسكينة والهياج، والفرح والحزن، والكآبة والانشراح، وأدى تكرار وتعاقب هذه الحالات المتناقضة، على مر الفصول والسنين والقرون إلى أن يتحول الإنسان الكوردي إلى شخص ذو مزاج عصبي انفعالي في الغالب. لقد كان في حرب أعصاب دائمة مع أزمات بيئته الطبيعية ومشكلات وضعه السياسي الذي تركه وحيدا دون حكومة قومية تحميه، وهذه الحرب النفسية ولدت لديه ،عبر القرون، حالة العصبية التي هي لحظة من حالات التوتر المفاجئ التي تعود عليها لمواجهة المصاعب الطارئة من كل نوع والتي تحولت ، لدى غالبية الكورد، الى سمة سايكولوجية تظهر وتلوح في الأفق عندما يواجهون أي حدث لا ينسجم أو لا يتوافق مع سلوكيتهم, أو عندما يتعرض فيه وجودهم وأمنهم للخطر، أو عندما يستفزون، وفي هذا يقول الكابتن هي: الكوردي إنسان عصبي سريع الهياج، وذو مزاج عنيف، مع ذلك فهو إنسان أخلاقي إلى حد التطهر، وصموت وأن تكلم فبإيجاز، ولكن بوضوح ومباشرة.
فهو يمقت الثرثرة في الكلام وينزعج منها، ولعل من المسائل الملفتة للنظر في هذا الجانب كما يقول ادموندز، هو ميل الكردي إلى استخدام الاختصار حتى في الأسماء الشخصية وبدون أن يشكل ذلك إحراجاً لأحد، وإن كان بعضها يبتعد عن الأصل ابتعاداً كبيراً. ف(حمه) من (محمد)، و(رمه) من (رمضان)، و(عبه) من (عبد الله)، و(خوله) من (محمود)، و(مجه) من مصطفى( )، وهكذا. فالكورد كما يؤكد ريج، لا يلغطون أو يتصايحون فيما بينهم عند الكلام، لكنهم معتادون على الصياح المفاجئ والصراخ في حالات محددة، فإذا أراد الكردي أن ينادي آخر، أو يجذب انتباهه إليه، صاح بأعلى صوته هو حه مه كه هو- بتطويل النداء هكذا: حه مه كه هو، هو، ووررا، ووررا فيجيبه المنادى عليه بالصيحة نفسها، هكذا ينادي الكورد بعضهم بعضاً من تل إلى آخر( ). وهذا آت من حاجته وتطبعه وتذوقه لهدوء الطبيعة التي يعيش فيها، وبخلاف هذا الهدوء فإن مزاجه ينقلب ويثور.
ومن الطبيعي أن تنشأ هناك صلة حميمة بين فكر الإنسان الكوردي وذوقه مع جمال بيئته وجغرافيتها، فالكوردي، محب للجمال ويعشق الزهور والألوان البراقة، ويتوق للموسيقى والغناء، ومثل هذا الذوق الرفيع نابع من روعة المناظر الطبيعية وفخامتها في جبال كوردستان، لذلك أشار مينان إلى دور الجبال في كل ذلك، كما ينقله إلينا ادموندر بقوله: (ان هذه الخوانق والمضايق هي من أسمى وأبدع المخلوقات التي خلقت على وجه الأرض، أنها لتفتح في صدر الإنسان ينابيع من الفكر والتأملات، وتسلمه إلى البهجة المطلقة). وقد ربط البروفسور سولكي في هذا الجانب بين دفن إنسان نياندرتال، في كهف شانيدر، لموتاه محاطين بباقات من الزهور البرية التي لاتزال أنواعها تنمو في جبال كوردستان وحب الكورد للطبيعة الزاهية والزهور الملونة قائلاً: (من بين هكذا محبين للزهور يبرز الكورد المعاصرون الذين ربما لايزالون يتبعون ببساطة تقليداً في هذه البلاد يعود تاريخه إلى ما قبل 60000 سنة. هو زمن إنسان نياندرتال الذي عاش في كهوف كوردستان في أواخر العصر الجليدي كما سبق ذكره.
وهذا يعني أن سايكولوجية الكوردي في الغالب تمتاز بحدة الطبع وبفورانها المفاجئ والتي يمكن إثارتها على حين غرة، وهذه السمة السيكولوجية ناجمة عن تلاقح البيئة الجغرافية المتطرفة مع حياته وصراعه المرير مع عناصرها، إضافة إلى ما واجهه من تحديات دائمة من قبل الآخرين عبر التاريخ، مع ذلك فالكوردي لا يرى حرجاً من هذه الصفة, بل هو، بأريحيته، يستطيع أن يروي بعض مواقفه العصبية تلك، مثلما هي مدونة في بعض مصادر المستشرقين، نختار منها:
1- حطت ذبابة يوماً ما على عين أحد رؤساء العشائر فأضجرته، وأثارت غضبه فأستل خنجره وطعن به الذبابة وهي جاثمة فوق عينه فأعماها وكاد أن يموت.
2- اختلف كورديان حول تحديد مكان ظهور نجمة سهيل (كلاويز) التي يشير ظهورها في سماء كوردستان إلى انتهاء موسم الحر من السنة، وبعد أن أشتد الجدال انقض أحدهما على الآخر، ولم ينتهي الصراع إلا بوقوع أحدهما صريعاً.
3- عضت بعوضة أحد الأغوات الكورد من إصبعه، فحك مكان العضة، وبعد دقائق أحس بألم العضة فحك مكانها ثانية، وثالثة، وتكررت الحالة عدة مرات، فما كان منه في النهاية إلا أن أخرج مسدسه، ولعن أبو البعوض، وأطلق النار على إصبعه فبتره من جذره.
مع ذلك يضل الكوردي يتمتع بروح المرح والدعابة إلى أقصى الحدود في المسائل التي لا تمس أمنه، وشرفه، وهويته، وكرامته، ووطنه ولعل من المفيد أن نسرد هنا مثلاً من هذه الدعابات التي هي على نقيض ما يوصف من عنفوان وصرامة الشخصية الكوردية: (طلب أحد الأغوات ذات يوم من أمام مسجد قريته أن يذكر اسمه في خطبة الجمعة بدلاً من اسم السلطان لقاء مرتب شهري يدفعه له، ووعده بأن يعطيه، إن فعل، ثلاثين معزة حلوب مكافأة له. وفي يوم الجمعة حضر الناس إلى المسجد، وكان بينهم ملا القرية المجاورة، الذي كان يجهل ذلك الاتفاق، وعندما حان ذكر اسم السلطان في الخطبة، قال الإمام بالعربية التي يجهلها الجميع: أيها الأغا (فلان) إنك لدب كبير مأواك جهنم وبئس المصير. وعندما سمع ملا القرية المجاورة ذلك ظن أنه أخطأ فصاح به، لا، لا، إلا أن إمام الجامع حافظ على هدوءه وتابع قوله: أسكت، أسكتان، أسكتون الماعز ثلاثون لك منها عشر ولي عشرون. ففهم الملا وسكت. وطار جنون الأغا فرحاً بورود أسمه في الخطبة وطلب من رعاة غنمه أن يختاروا منها أفضل ثلاثين معزة ليعطيها للإمام.
، ولعل أبرز الخصال التي صقلتها البيئة الجبلية الكوردستانية عن الإنسان الكوردي ما يلي:
1- خلقت عنده سمة الصبر والجلد، وقابليته التحمل لكوارث بيئته الطبيعية، رغم كل ما كان يعانيه جراء ذلك على الصعيد الشخصي والعائلي أو القبائلي أو القومي.
2- جعلت منه محارباً رغماً عنه لشعوره الدائم بالغبن وبالعزلة الجغرافية والوحدانية والتهديد المتكرر بسبب الظروف الجغرافية والبيئية المتطرفة إضافة إلى الظلم والحيف التاريخيين.
3- صقلت البيئة لديه مزاجه العصبي وحالة النفور المفاجئ من الأوضاع التي تثيره أو تزعجه أو لا تتفق مع مزاجه بسبب معاناته المفاجئة والمتكررة من ظروف الطوارئ والأزمات غير المتوقعة التي كان يتعرض لها والتي غالباً ما كانت تؤثر على حالته النفسية المستقرة بشكل آني وعنيف عبر التاريخ.
4- فرضت عليه بيئته الجبلية وظروف معيشتها و متطلباتها احترامه الفائق للمرأة التي اعتبرها عنصراً مكملاً ورئيساً في بناء أسرته، وشريكاً لا غنى عنه في إنجاز الأعمال البيتية والعائلية والعشائرية في السلم والحرب على حد سواء، وهذا ما يفسر تمتع المرأة الكردية بالريف بحرية تفوق ما لدى المرأة الحضرية مع احتفاظها بكل سماتها الخلقية الرفيعة.
5- إن حب الإنسان الكوردي لبيئته الجبلية، وقناعته بسخاء هذه البيئة،وبكفايتها الإنتاجية وعطائها له جعلت منه إنسانا ًقنوعا وكريماً ومنفتحاً وشاكراً لنعمها، في الظروف الاعتيادية، بل إنسانا ًوديعا ومسالماً على الدوام ما لم يتعرض للأذى والعدوان، وهو في حالات كثيرة إنسان محب للنكتة بل ومبتكر لها، وهذا ما يتناقض كلياً مع من يحاول أن يلصق به صفات القسوة والعدوان أو يتهمه بما شابه من هذه النعوت.
6- أصبحت سمة التسامح والصفح عن المعتدين ، في حالات القوة والاقتدار واحدة من ابرز الخصال السايكولوجية المميزة للإنسان الكوردي، بل وابرز سمات خلقه السياسي و العسكري.
7- مع كل ما يواجهه الكوردي من مخاطر طبيعية وبشرية، لاتزال الرومانسية تحتل الكثير من جوانحه، فهي جزء من خلقه الرفيع، فحب الطبيعة، والجمال، والأزهار، والألوان الزاهية البراقة، والشعر والموسيقى وحتى الرقص الشعبي، هي كلها سمات حقيقية مكملة للشخصية الكوردية ضمن أوقاتها المحددة، وهي أمور ارتبطت بحبه لبلاده وانتمائه القومي، ذلك الحب الذي يمكنه دوماً وطوعاً من بذل روحه في سبيلهما، لذا فهو في مثل هذه الحالات يطلق على نفسه مختاراً لقب (بيشمه ركه) أي (المواجه للموت)، أي التضحية بالنفس من أجل الوطن.[1]