#فؤاد حمه خورشيد#
عادت الحياة للتحليلات الجيوبولتيكية في السبعينات من القرن الماضي, بعد أن شهدت ركودا خطيرا بعد الحرب العالمية الثانية , لعدة عقود من الزمن. ومع إن العديد من المصادر تعرف هذا النهج في التحليلات السياسية المعاصرة وتمنحه خصائص محددة في ألأسلوب التحليلي واللأستنتاجي, لكن الجيوبولتيكس , هو الأخر, شهد العديد من المنهجية في التحليل للأحداث والتطورات العالمية منذ أن ظهر هذا المصطلح عام 1899 , لكنه يبقى, مع ذلك , الأسلوب الأكثر واقعية , ومصداقية , وجاذبية في التحليلات السياسية لمشكلات العلاقات الدولية وتطوراتها , وتكتلاتها , وأقاليمها ,ومصادر قوتها .
يعتمد التحليل الجيوبولتيكي , للمشكلات العالمية والإقليمية والمحلية , على أرضية جغرافية بالدرجة الأساس،وليس المطلق , وارتباطاتها وانعكاساتها على الحدث السياسي المراد تحليله,وكما يقول سبايكمن(ان طبيعة المشكلة التي تؤخذ بنظر الاعتبار هي التي تحدد, ليس فقط طبيعة التحليل الجغرافي , بل كذلك حجم المنطقة التي يجب .تحليلها) وكل من لا يمتلك القدرة الجغرافية في التحليل , لا يمكن أن يكون محللا جيوبولتيكيا ناجحا, مهما أوتي من مقدرة على التنبؤ السياسي,لان جوهر الجيوبولتيكس يكمن في دراسة العلاقة القائمة بين سياسة القوة والمقومات الجغرافية الضامنة لبناء تلك القوة وبالتالي مكانة الدولة فوق المسرح الجغرافي العالمي. فالعوامل أو المتغيرات الجغرافية, قديما وحديثا , كانت تمثل المسرح الذي يوجه الأحداث, ويؤثر فيها, ويحدد مصائرها ,وهذه المتغيرات تشتمل على اختبار البيئة الطبيعية , والسكانية , والموارد الطبيعية , وطرق المواصلات المختلفة ,والمستوى الثقافي والتقني , و ألحزين من موارد الثروة الطبيعية الكامنة ودرجة استثمارها .
وللتدليل على الدور الفعال للمتغيرات الجغرافية في صنع ,أو التأثير, في الحدث الجيوبولتيكي, نورد على سبيل المثال أراء بعض المشاهير في الجيوبولتيكس : فقديما قال نابليون بونابرت- ( إن سياسة الدولة تكمن في جغرافيتها) . وقال فردريك راتزل أن ( الجيوبولتيكس هو الجغرافية المسخرة لخدمة سياسة الدولة ). وأكد كارل هاوسهوفر, أن ( الجيوبولتيكس سيكون , بل يجب أن يكون , الضمير الجغرافي للدولة) . وأشار سول كوهن :( أن جوهر الجيوبولتيكس يكمن في دراسة العلاقة القائمة بين سياسة القوة الدولية والخصائص الجغرافية المنسجمة معها , وبخاصة تلك التي يمكن أن تتطور بموجبها تلك القوة ). وعموما يركز المنهج التحليلي في الجيوبولتيكس على منطق القوة في العلاقات الدولية ,سواء كانت تلك القوة صلبة أم مرنة , ومن مختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية وحتى الحضارية, سواء أكانت القضية أو المشكلة المبحوثة , تقع ضمن نطاق محلي , أو إقليمي أو دولي. و (المشكلة الجيوبولتيكية )لا يمكن أن تكون عالمية فقط, كما هو وارد في الأدبيات الجيوبولتيكية الكلاسيكية ( كما عند ماكندر وسبايكمن ) بل يجوز أن تكون المشكلة محلية أو إقليمية أو دولية, ولكل مشكلة من هذه المشكلات مسبباتها ومؤثراتها وتعقيداتها الإقليمية والدولية .
والمشكلة الجيوبولتيكية هي القضية أو المعضلة التي تنشأ, وتتطور , وتتعقد بفعل العوامل الجغرافية-السياسية الداخلية , مشكلة ( جوهر الحدث ) والتي قد تتأثر بجملة من العوامل الإقليمية والدولية, التي تشكل بمجموعها ( عامل الحدث ) الذي يتحرك أو يتغير بفعل أهمية المكان وموقعه الإستراتيجي وموارده الاقتصادية وخصائصه البشرية , وعلاقة كل ذلك بمصالح القوى الأخرى.
ولا جدال قي ان التكنولوجيا المتقدمة اليوم و نتائجها الخلاقة , سواء أكانت للأفراد او الدولة , هي عامل فعال في أي تحليل للسياسات الدولية و الإقليمية , لان مستوى أي دولة في الناحية التكنولوجية المرتبطة بقدراتها العسكرية والاقتصادية, يعكس سمعتها ومكانتها الدوليتين , بل ان التكنولوجيا نفسها أصبحت من متطلبات أية دولة تطمح ان تكون دولة قوية , ولكل شعب مثقف واع .
والاهم في كل ذلك هو مؤثرات التكنولوجيا الاجتماعية والإعلامية التي غدت اليوم عاملا يتجاوز كثيرا مؤثرات العامل الجغرافي في التأثير في الحدث السياسي وتحريكه, كما فعلت أجهزة الاتصال الحديثة الميسرة (الانترنيت,ومواقع الفيس بوك و تويترو ويوتيوب, وغيرها)في إثارة الرأي العام في بعض البلدان العربية وتأليبها على حكامها فيما يعرف الآن في الإعلام الغربي ب (الربيع العربي).
لذا فان أي قضية أو مشكلة جغرافية-سياسية داخل أية دولة يمكن أن تتعقد بفعل عامل الحدث ,إذا ما تدخل فيها عامل إقليمي أو دولي أو أكثر وتتحول من (مشكلة جغرافية- سياسية) الى (مشكلة جيوبولتيكية) , قد تفضي, الى نتائج دراماتيكية حاسمة كما حصل في انفصال بنغلادش عن باكستان(26 -03-1971), وانفصال اريتريا عن أثيوبيا (23-05- 1993) , واستقلال تيمور الشرقية عن أندنوسيا (23 -05- 1993 )وانشطار السودان الى دولتين (9 -07-2011) . وانشطار يوغسلافيا الى عدة دول بعد عام 1991. جيكوسلوفاكيا الى دولتين(1 -01-1993 ) .
لذا فان أي تحليل جيوبولتيكي يجب أن يأخذ بالحسبان ثلاثة مفاهيم أو أبعاد هي باختصار :
1- تحليل (جوهر الحدث), أي ألمشكلة القائمة, سواء أكانت داخل دولة معينة أو ضمن إقليم أوسع , ومعرفة مسبباتها الداخلية (جغرافيا وسكانيا واقتصاديا وحضاريا) وربط ذلك بسياسة الدولة ذات العلاقة بالمشكلة ,ومعرفة انعكاسات المشكلة على المحيطين ألإقليمي والدولي , لآن الربط بين الحدث وإطاره الجغرافي المحلي , وانعكاساته , من ضرورات التحليل الجيوبولتيكي .
2- تحليل (عامل الحدث ) أو العوامل التي من شأنها تأجيج ذلك الحدث والتدخل فيه (إقليميا أو دوليا) باتجاه التصعيد أو نحو إيجاد الحلول (التدخلات الخارجية).فبدون ذلك التحليل لا يمكن فهم حقيقة جيوبولتيكية ألأحداث, أي تعقد المشكلات الإقليمية أو الدولية وحتى المحلية .
3- تحليل ( بيئة الحدث), أي تحليل المشكلة القائمة وانعكاساتها على الآمن الإقليمي والدولي , ودرجة تأثيرها على التشكيلات القائمة للأقاليم الجيوبولتيكية المحيطة بها, وعلى موازين القوى , وعلى العلاقات القائمة بين الدول, أو قوى تلك المنطقة, ومن ثم على مصالح القوى الأكبر,لأن ألربط بين جوهر, وعامل, وبيئة ألحدث من ألأمور الجوهرية في التحليل الجيوبولتيكي الناجح .
وعلى ضوء ما تقدم يمكن القول بأن المحلل الجيوبولتيكي يجب أن يتحلى عن غيره من المحللين السياسيين بعدة خصال أو قدرات أبرزها :
1-أن يمتلك ذخيرة جغرافية (طبيعية وبشرية واقتصادية), عن الحدث المحلي أو الإقليمي أو الدولي , الذي يتناوله بالتحليل.
2-أن يتمتع بعقلية سيناريوهية, وأن يمتلك قدرات التفكير أو التخطيط السيناريوهي , بمعنى أن تكون لديه القدرة على تحديد أي العوامل الجغرافية أو البيئية التي تؤثر على( المشكلة) مستقبلا بالدرجة ألتي يمكن إن تحدد اتجاهاتها أو مصيرها. مع ملاحظة إن مثل هذه العوامل أو المتغيرات (variables) قد يتغير تأثيرها, هي ألأخرى , على ضوء التطور التكنولوجي و تغير موازين القوى والأقاليم الجيوبولتيكية, ( الحالية أو المستقبلية) المؤثرة في الحدث, رغم كون العوامل الجغرافية وعناصرها ثابتة لا تتغير.
3- أن تكون لديه بصيرة جيوبولتيكية , وفهم اختراقي , أي أن يتمتع بمهارة الاختراق برؤيته لما في داخل الحدث أو المشكلة والكواليس المحيطة بها من خلال ربط الإحداث, وفراءه أو حل شفراتها السياسية, وان يتخلى عن النزعة العاطفية في التحليل , بمعنى أخر, إن تكون لديه القدرة على التنبؤ, والتنبؤ هنا لا يعني الاختراع , بل يعني تصور النتيجة المحتملة, التي يقترن بها الحدث, في لحظة معينة , انطلاقا من المعطيات القائمة التي استند عليها في الربط والتحليل والاستنتاج.
4-أن يأخذ بنظر الاعتبار, عند التحليل الجيوبولتيكي ,تحديدا , طبيعة النظام الدولي وتوجهاته , وأقاليمه الجيوبولتيكية والقوى الكبرى الرئيسة المؤثرة ومصالحها, وملاحظة مدى تأثر تلك المصالح بالمشكلة المدروسة, وبخاصة بعد إن مال المجتمع الدولي لتقبل الرضوخ لتوجهات وتطلعات القوة العالمية المتفردة في فرض السياسات الدولية وهيمنتها ومساراتها العالمية , و لذا , فعلى الذين يريدون تحليل و فهم الأبعاد الجيوبولتيكية للمشكلات ألمحلية و الإقليمية والعالمية ذات العلاقة بالأمن الدولي, يجب عليهم استيعاب المفاهيم الأساسية ,هذه, في ألتحليل ألجيوبولتيكي .[1]