بقلم أرنولد ج. توينبي/ أيلول (سبتمبر) 1923
تعليق: حسين جمو
كتب المؤرخ البريطاني، أرنولد توينبي، هذا المقال بعد التوقيع على #معاهدة لوزان# في سويسرا بتاريخ 24-07- 1923. نسخة من المقال منشورة في مجلة فورين أفيرز الأميركية، وهي مؤرشفة في المجلة بتاريخ أيلول/ سبتمبر 1923، أي بعد التوقيع على المعاهدة بأقل من شهرين. كان توينبي يبلغ من العمر 37 عاماً حين كتب المقال، ولم يكن قد ذاع صيته كمؤرخ في ذلك الحين، فقد كان قريباً من أجواء سياسات الشرق الأوسط البريطانية، حيث عمل في قسم الاستخبارات في وزارة الخارجية البريطانية منذ عام 1915، ومندوباً في الوفد البريطاني في مؤتمر باريس للسلام عام 1919 ، عمل أستاذاً للدراسات البيزنطية واليونانية الحديثة في جامعة لندن. و من عام 1921 إلى عام 1922 كان مراسل صحيفة مانشستر غارديان أثناء الحرب اليونانية التركية، وهي تجربة أدت إلى كتابته عدداً كبيراً من المقالات عن تركيا واليونان في الصحف البريطانية. ومن تتبع عدد من مقالاته، يلاحظ أنه انتقل من النظرة العدائية لتركيا خلال سنوات الحرب العالمية الأولى وحتى نهاية حرب الاستقلال عام 1922، إلى تفهم “القومية التركية” وتجسيدها في دولة مستقلة مع كل ما يتطلبه ذلك من إجراءات، حتى التبادل السكاني المجحف إنسانياً بين اليونان وتركيا. ذلك أن تركيا التي كانت في طور التأسيس، قد لاقت هوى في نفس توينبي وفق نظريته في تأسيس الدول على حدود قومية والتخلي عن فكرة الحدود الطبيعية، لأن الدولة القومية مقيدة في نزعة التوسع مقارنة بالحدود الطبيعية التي ترى في جبال ما قد تكون بعيدة هو الحد الطبيعي لأمة من الأمم. وقد أدى ترويجه للأتراك في الصحافة إلى استعدائه من قبل النخب اليونانية التي نجحت في النهاية من إبعاده عن كرسي دراسة التاريخ اليوناني والبيزنطي في جامعة لندن. عموماً، تكشف سيرته عن حيوية في بناء المواقف، تظهر على شكل تقلبات وانقلابات، كما في حالتي اليونان وتركيا، وكذلك توصيته في العام 1936 وزارة الخارجية البريطانية بأخذ وجهة نظر أدولف هتلر على محل الجد في فكرة التحالف الألماني البريطاني، ثم موقفه أيضاً من الصهيونية، فقد انتقل من تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين عام 1917 إلى تحول انقلابي في العام 1922 بسبب تأثره بأطروحات وفد عربي زار لندن، وقد التزم بهذا الموقف المؤيد للقضية الفلسطينية حتى وفاته عام 1975.
بالنسبة لموقفه من الكرد، فلم يكن هذا الشعب ممن التفت توينبي إليهم رغم سنوات عمله الخطرة في القضية العثمانية. وقد شارك في توثيق شهادات عن الإبادة الوحشية ضد الأرمن في العام 1915، ورفع تقريره إلى مجلس اللوردات تحت عنوان “قتل أمّة”. ويمكن ملاحظة أن كافة التحولات التي مر بها المؤرخ البريطاني، كان تحت تأثير اللقاءات الشخصية أكثر من القراءة والاطلاع، و ربما لو أنه التقى قبل لوزان بشخصية كردية من وزن الشيخ عبدالقادر نهري أو سعيد الكردي (نورسي)، كان سيكون له رأي مفصل عن الكرد وقضيتهم.
أخيراً، ليس هناك شيء في المعاهدة تدعى “بنود سرية” غير متداولة، و ما التلمليحات التي يطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول تحديد صلاحية معاهدة لوزان ب100 عام سوى تلاعب سياسي بالحشود.
بالنسبة لمعاهدة لوزان التي يتناولها هذا المقال، فيعد الأساس القانوني لظهور الشرق الأوسط بصورته الحالية، ففيها تم تحديد الحدود بين تركيا واليونان، وحدود دول البلقان، و المصادقة على اتفاقية أنقرة للحدود بين فرنسا المنتدبة على سوريا وبين تركيا، و تم البت في مسألة الموصل لإحالتها للجنة دولية من عصبة الأمم. وفي هذه المعاهدة تم وضع الملف الكردي في الأدراج، و تمزيق قضية الإبادة ضد الأرمن. وبنظرة أكاديمية، تعد معاهدة لوزان ألفباء السياسة لأي شخص ينوي الخوض في عالم السياسة. ونجد في هذا المقال، وكثير غيره في تلك الفترة، أنه لا يتم التطرق إلى القضيتين الكردية والأرمنية، فقد تجاوزتهما الدبلوماسية الدولية سريعاً وعلى نحو قاسٍ في تنازل يعطي تركيا حرية التصرف بشأنهما بدون أي قيود قانونية. و رغم أن هذا المقال في الأصل يتجاوز 5 آلاف كلمة، فإن المرء ليعتقد لوهة أن هناك سطوراً خاصة بالكرد فيها، و هو ما لن يجده القارئ هنا.
تم اختصار أجزاء من المقال في الجوانب التقنية حول إمكانية توسيع اليونان حدودها السياسية والنزاع الداخلي في اليونان عقب الانقلاب العسكري بعد هزيمة الأناضول.
تم إرفاق توضيحات في المادة وإدراجها بين قوسين (..) وإضافة عناوين للمحاور الرئيسية.
نص المقال: الشرق بعد لوزان
بعد انقضاء أكثر من ثمانية أشهر على عقد المؤتمر، وأكثر من تسعة أشهر على توقيع هدنة مودانيا، تم أخيراً التوقيع على معاهدة السلام في لوزان. كانت الهدنة الحدث الأهم فيما يتعلق بتجنّب الحرب، وبمجرّد تحقق هذه الخطوة، لم يعد هناك أي خطر حقيقي من أن يؤدي انهيار المفاوضات الدبلوماسية إلى تجدد الأعمال العدائية، على الرغم من أن ذلك تحديداً كان وراء استحالة التنبؤ بموعد انتهائها.
الآن وبعد أن انتهى الدبلوماسيون من عملهم، هل قدّموا لنا سلاماً جيداً أم سيئًا؟ الإجابة على السؤال تعتمد على معنى كلمة “جيد”. بالنسبة للقارئ العادي، لا شك أن معاهدة السلام مثل الرواية أو المسرحية، مقبولة بقدر ما هي متماسكة ومتسقة وواضحة، وهذه المواصفات تعتمد بشكل عام على طبيعة التأليف. في حين أن معاهدة السلام الجيدة، على عكس معظم الأعمال الأدبية الجيدة، يجب أن تكون بالضرورة نتاجاً للتعاون. في الواقع، الوضوح التام في بنود المعاهدة يشير إلى أن أحد الطرفين كان لديه الكثير من المطالب. معاهدة سيفر، على سبيل المثال، كانت بمثابة فشل دبلوماسي كارثي لأنها تجاهلت تماماً وجهة نظر أحد الموقّعين عليها، وعندما يتم نشر النص الكامل لمعاهدة لوزان، سيكون بالتالي من قصر النظر التقليل من قيمتها لأنها مليئة بالأخطاء. تشهد هذه العيوب على مساعٍ طويلة وناجحة في نهاية المطاف لدمج نسختين في نسخة واحد، ويجب اختبارها من خلال النظر في متانتها. فيما النهاية، سيكون من التسرع التنبؤ، لكن مؤتمر لوزان على الأقل كان أول محاولة حقيقية لإيجاد تسوية بين المهزومين والمنتصرين في الحرب الأوروبية.
من الملفت أن القضايا السياسية والإقليمية بين آخر متحاربيْن محلييْن، اليونان وتركيا، تمت تسويتها بصعوبة وتأخير أقل من القضايا الاقتصادية والمالية بين تركيا والقوى الغربية. والجدل الأخير حول العملة التي يتم بها تحديد الدَيْن (دفع الكوبونات) يعكس إلى أي حد يعد نظام الامتيازات (التي منحتها الدولة العثمانية للدول الأجنبية) الجوهر الأساسي لاضطراب الشرق الأدنى. لكن قوى الحلفاء الرئيسية، بعد التخلّي عن مصالح اليونان وأرمينيا، اتّبعت الحكمة حتى النهاية بالتخلي عن مصالحها أيضاً. لقد كان هذا الطريق الهدف الصحيح، لأنه كان من الواضح أنه لا يمكن تعزيز أياً من هذه المصالح، حيث ستتضرر جميعها أكثر باستئناف الحرب.
سيتم الحكم على معاهدة لوزان في التاريخ من خلال تأثيرها على التطور الداخلي والعلاقات المتبادلة بين الدول التي أُبرمت المعاهدة فيما بينها.
كما هو الحال بين اليونان وتركيا، فإن المصالحة لا يمكن إلا أن تكون مسألة وقت، لأن مزاياها تتجلى مع تلاشي العوائق أمامها. لن يكون صراع الطموحات الإقليمية منذ قرن من الزمان قضية مستمرة في المستقبل القريب. تضاءل احتمال حصول اليونان على أي شيء شرق نهر ماريتسا (يفصل الحدود البرية بين اليونان وتركيا) أو على البر الرئيسي للأناضول، إذا لم نقل أنها اختفت تماماً. بينما لم تعد تركيا تطمح في شيء من أوروبا باستثناء سعيها للحصول على عمق بري ما لحماية مضيق القسطنطينية (البوسفور).
إن التبادل السكاني الذي نجحت اليونان وتركيا في التفاوض بشأنه في اتفاقية منفصلة خلال الدورة الأولى في لوزان، سيسهل إلى حد كبير العلاقة بين البلدين، كتعهد بحسن نية وكإلغاء لاحتمالات وفرص الاحتكاك. وإذا توصّلت الحكومتان إلى اتفاق بشأن هذه النقطة المؤلمة بشكل خاص، في وقت بلغت فيه المرارة بين الشعبين ذروتها، فمن المرجح أن تتبعها الترتيبات الأخرى مع مرور الوقت وتلاشي المشاعر السلبية. بغض النظر عن الوقت الذي قد يستغرقه اليونانيون والأتراك ليشعروا بحسن النية بشكل متبادل، يجب أن تعلّمهم العوائد الإيجابية للاتفاق بشكل سريع الثبات أمام الأجانب، خاصة عندما يدركون مع الوقت أن خلافاتهم تمثل ثغرات قابلة للاستغلال من قبل القوى الأجنبية، وعلى الرغم من أن هذه القوى قد تميل كما هو الحال الآن، إلى إبقاء تركيا واليونان في حالة خلاف، إلا أن هناك عوامل جديدة في عالم ما بعد الحرب (العالمية الأولى) قد تمكّن البلدان الصغيرة من الاستغناء عن الرعاية الخطيرة لجيرانها الكبار.
الحدث المهم في هذا الصدد هو قرار مجلس عصبة الأمم للتشجيع على منح قرض دولي من أجل إعادة توطين 750 ألف لاجئ يوناني من شرق تراقيا والأناضول ضمن الحدود اليونانية الجديدة. يرجع الفضل الرئيسي في ذلك إلى الدكتور نانسن، ولكن يبدو أن الدافع الأخير قد تم من قبل منظمات الإغاثة الأمريكية التي تحمّلت حتى الآن العبء الرئيس المتمثل في رعاية اللاجئين، وقد هددت منظمات أمريكية بالانسحاب من هذه العملية ما لم يتم البدء سريعاً بتدشين البنية التحتية لتوطين اللاجئين.
يجب أن يكون هذا القرض لليونان استثماراً أفضل من ذلك الذي تم تخصيصه للنمسا؛ ففي حين أن النمسا بلد تلاشت مصادر ثروته، فإنه يجب توطين اللاجئين اليونانيين في أراضٍ ذات إمكانيات كبيرة قابلة للتطوير، ومن المتوقع أن تتحول أعداد هؤلاء اللاجئين ومهاراتهم إلى مصدر مهم للإنتاجية في حال تأمين رأس المال اللازم.
إن نجاح القرض الدولي ينبغي أن يساهم في تأسيس ثروة مقدونيا اليونانية. ومن خلال ملء المقاطعة بسكان متجانسين بدلاً من خليط من الأتراك واليونانيين والبلغار الذين سكنوها حتى الآن، فإنه سيتم دعم استقرار الحدود السياسية الحالية لهذه المنطقة، لكن استتباب السلام هو بالطبع الشرط الأساسي الذي بدونه لن تكون للإمكانيات المادية أي قيمة، لأنه إذا أصبحت هذه الأراضي مرة أخرى منطقة حرب فسيهلك اللاجئون وسيخسر المستثمرون الخيّرون أموالهم، وبالتالي فإن المصلحة الأساسية والمتطابقة لجميع شعوب الشرق الأدنى تكمن في السلام، والابتعاد عن مكائد وطموحات القوى العظمى، وفي الدعم المعنوي والاقتصادي لبعض المنظمات الدولية مثل عصبة الأمم، والتي في إطارها هناك العديد من القوى الصغيرة التي إذا تمكنت من التعاون، فسوف تتعلم كيف تحافظ على مصالحها أمام القوى العظمى. هل ستسعى القوى الصغيرة في الشرق إلى هذا الخيار الأخير في المستقبل القريب؟ ربما نقترب أكثر من الإجابة بعد إلقاء نظرة سريعة على الموقف الحالي لليونان وتركيا.
المعضلة اليونانية
على مدار القرن الماضي، أو بعبارة أخرى منذ أن أصبحت دولة مستقلة، كانت اليونان تعيش خارج حدودها أكثر مما تعيش داخل حدودها؛ خاصة في الأراضي “غير المستردة” التي كانت تأمل في النهاية تضمينها في نطاقها الوطني (الهدف الأسمى هو القسطنطينية)، و أيضاً عوائد استثمارات المهاجرين اليونانيين في جميع أنحاء العالم، من السودان المصري إلى روسيا ومن البنغال إلى شيكاغو. خلال السنوات القليلة الماضية التي سبقت الحرب الأوروبية، وصلت التحويلات المالية من اليونانيين في الولايات المتحدة إلى أرقام كبيرة لدرجة أنها رفعت بشكل ملحوظ تكلفة ومستوى المعيشة المادية في البلد الأم، ولكن المردود المعنوي والفكري القادم من الخارج لم يقل أهمية عن المردود المالي، حيث جلب لها مهاجروها رؤية جديدة عن العالم، وألهموا العالم بالتعاطف معها من خلال خلق روابط شخصية عن طريق الزواج والتجنيس لم تكن موجودة قبل ذلك بين الغرب والشعوب الشرقية غير التجارية. إن تطلّع اليونان إلى جمال وذكريات القسطنطينية وثروات غرب آسيا الصغرى منحها شيئاً من الأمل في المستقبل شبيه بالأمل الذي منحها انفتاح الكنديين والأميركيين على المهاجرين اليونانيين. لكن الكوارث العالمية في السنوات الأخيرة حرمت اليونان الآن بشكل مباشر و غير مباشر من جميع مصادر الحياة والقوة الخارجية تقريباً، حيث تم تحديد خط توسّعها الإقليمي شمالاً وشرقاً من قبل قوّتين أقوى منها _يوغوسلافيا وتركيا_ وهي بالكاد يمكن أن تحافظ على ما بين يديها جهة ألبانيا وبلغاريا.
إن فقدانها القسطنطينية وسميرنا (إزمير) وأدريانوبل والمنستير وكوريتسا، نال من أفقها السياسي. تم دفع مئات الآلاف من أقلّياتها في هذه المناطق نحو مناطق مجاورة لها، وسيتعين من الآن فصاعداً تأمين أوضاعهم داخل حدودها الضيقة الحالية، يضاف إلى ذلك، أن “تشتتها بين الأمم” تسبب لها بمشاكل مختلفة؛ لقد دمرت البلشفية اليونانيين في أوديسا والمراكز التجارية الأخرى في روسيا. قد تدمّر النزعة القومية أولئك المقيمين في الهند ومصر، إذا ما اتخذت السياسة نفس المسار كما في آسيا الصغرى (تركيا)، ولكن ربما كانت الضربة الأشد هي تقييد الهجرة إلى الولايات المتحدة، وإذا تم استمرار هذا العائق، فقد يكون تأثيره النهائي على اليونان أكثر خطورة، على الرغم من أنها أقل مأساوية من طرد الإغريق من الأناضول. إذا أرادت اليونان البقاء في ظل هذه الظروف الجديدة والأكثر صرامة، فسيتعين عليها تحويل طاقاتها إلى الداخل وتطوير الموارد في منتجاتها وموقعها وعدد سكانها الذي أهملته حتى الآن جزئياً على حساب القيام بمغامرات في الساحات الأكثر بعداً عنها.
اليونان و دول الوفاق الصغير
إذا نجح قرض إعادة التوطين الذي اقترحته عصبة الأمم، فقد ينتهي باستيطان أقليتي الأناضول والتراقيين في مقدونيا. من وجهة النظر الوطنية اليونانية، إنه نعمة حقيقية، لكن لن يكفي أن تستعمر اليونان مقدونيا وتطور الزراعة والتجارة المحلية، لأنه ما لم تستغل موقعها الجغرافي إلى أقصى حد بصفتها الساحل اليوناني الضيق لمنطقة نائية شاسعة غير يونانية، فلن تتمكن حتى بشكل دائم من الاحتفاظ بالمقاطعة تحت سيادتها، ناهيك عن تطوير إمكانياتها التجارية والصناعية الأوسع. سيكون هذا العامل الجغرافي إما أكبر خطر أو أكبر قوة لليونان، حسب تعاملها معها. إذا أساءت استخدامه لعرقلة وصول يوغوسلافيا وبلغاريا إلى البحر المفتوح، فستتحد هاتان الدولتان في النهاية للاستيلاء على الشريط الساحلي منها.
من ناحية أخرى، إذا بذلت جهداً لتقديم التسهيلات لجيرانها الداخليين، فإن تجارتهم لن تعوض فقط ثروات سالونيك وكافالا وديديجاش وموانئ أخرى (مقابل خسارة سميرنا)، ولكنها ستفتح الباب أمام دخول اليونان في التركيبة السياسية للوفاق الصغير _وهو التقارب الذي سينقذها من عزلتها الحالية_ وما يترتب على ذلك من عدم الركون إلى الاعتماد السلبي على القوى العظمى. (الوفاق الصغير: تحالف عسكري تشكل في عام 1920 و1921 بين كل من رومانيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا بهدف الدفاع المشترك ضد الأطماع المجرية).
في هذا الاتجاه، حققت اليونان بداية جيدة، منذ كارثتها العسكرية في آسيا الصغرى، من خلال توقيع اتفاقية مع يوغوسلافيا لإنشاء منطقة حرة يوغوسلافية في ميناء سالونيك. من مصلحة اليونان تفعيل هذه الاتفاقية على أرض الواقع وليس مجرد تنازل على الورق، وأيضاً للوصول إلى تفاهم مماثل مع بلغاريا فيما يتعلق بالمنفذ على بحر إيجة الذي وعد به الأخير، بموجب معاهدة نويي من قبل الحلفاء الرئيسيين. (معاهدة نويي بين بلغاريا وبلدان الوفاق الثلاثي. وفق هذه المعاهدة تخلت بلغاريا عن 4 مقاطعات على حدودها الغربية ليوغوسلافيا وتم وضع تراقيا الغربية تحت إدارة دول الحلفاء الرئيسية ثم تسليمها لليونان، حيث فقدت بلغاريا منفذها على بحر إيجة).
لسوء الحظ، لم تنجح المحاولات التي قام بها الحلفاء في لوزان لتأمين تفاهم يوناني بلغاري حول هذه النقطة، وتغيير الحكومة في بلغاريا قد يعطي اليونان سبباً جديداً أو عذراً للتعنت في موقفها. ومع ذلك، لا يمكن لليونان أن تترك بلغاريا معزولة عنها بشكل دائم، على الرغم من أن بلغاريا بدون جيش وأراضيها مبتورة، فهي ليست عدواً في الوقت الحالي، إلا أنها مع ذلك قادرة في المستقبل، كما كانت في الماضي ، على قلب التوازن في جنوب شرق أوروبا، وهناك ظروف، إذا ما حدث فيها ذلك، ستكون مدمرة لليونان إذا ألقت بلغاريا بثقلها على الجانب التركي أو اليوغوسلافي.
هناك أيضا مشكلة السياسة الداخلية، حيث كانت الاغتيالات ضد أعضاء الحكومة السابقة من قبل الحكومة الثورية الحالية ذروة أعمال العنف المتصاعدة. يتجلى توتّر الحكومة الثورية الحالية في أثينا من خلال تأجيلها للانتخابات، لكن جميع اليونانيين الذين لديهم غريزة سياسية سليمة، بغض النظر عن حزبهم، يخضعون لأقوى التزام مشترك تجاه بلدهم، لأن السلام الداخلي ضروري مثل السلام الخارجي من أجل التعافي الوطني، وإذا لم يتم وقف الخلاف في هذه المرحلة لا يمكن أن تنتهي إلا بمثل سابقاتها قبل قرن من الزمان: حرب أهلية.
في المحصلة فإن “السلام داخل الحدود الحالية” هو الشعار المناسب لليونان خلال فترة إعادة الإعمار، لكن لا تزال هناك ثلاث طرق ممكنة وشرعية لتوسيعها، وهي جزر دوديكانيز وقبرص والبطريركية المسكونية.
تحقق الميثاق الملّي
سيكون هذا المقال غير مكتمل بدون بعض الاستقصاء عن موقف تركيا نفسها. تَبِع انتصارها العسكري البارع على اليونان، وبشكل غير مباشر على داعمي اليونان، نجاحات مدهشة بنفس القدر في لوزان، حيث حصد عصمت باشا (إينونو) بالدبلوماسية بقدر ما حصده في السابق بسيفه، إلى أن تحقق “الميثاق الملي” التركي بالكامل تقريباً.
اكتسبت تركيا معظم نقاطها في المؤتمر لأنها كانت قوية بما يكفي للإصرار عليها، ولم تكن سترضخ إلا للضغط العسكري، الخطير والمكلف والواسع النطاق، لدرجة أن أياً من قوى الحلفاء لم تحاول ولو للحظة واحدة أن تمارسه. كانت هذه المعادلة “براءة اختراع” على قدم المساواة للأتراك وللحلفاء المفوضين، وقد تم تحديد نتائج المؤتمر مسبقاً من قبلهم.
سيبدأ صراع الإرادات الحقيقي الآن عندما يتم توقيع السلام وتبدأ تركيا بترتيب بيتها الداخلي. لا يمكنها إعادة بناء حياتها الاقتصادية دون اقتراض المال والتقنيات الجديدة من الغرب. وعلى الرغم من قدرتها على إملاء الشروط التي يجب أن تعمل عليها المؤسسة الغربية ضمن حدودها، إلا أن تركيا عاجزة عن إجبارها على الدخول في شاركة معها حول المستقبل. بعبارة أخرى، إذا شعرت المؤسسة الغربية بالقلق والغضب من سياسة تركيا الجديدة تجاه الأجانب (سواء كانت شرعية من الناحية النظرية أم لا)، فإنها ستقاطع تركيا وتفضل استثمار طاقاتها في الصين أو المكسيك أو أي مجال آخر حيث المخاطر والصعوبات هي أقل مما كانت عليه. وإذا حدثت مثل هذه المقاطعة (غير المستوحاة من الحقد بل من المصلحة) ، فإن الآفاق الاقتصادية لتركيا ستكون سوداء. لقد دمّرت حرب الأناضول البائسة (حرب الاستقلال) هذا البلد تماماً مثل اليونان. تم تدمير المدن والقرى الإقليمية بشكل منهجي من قبل الجيش اليوناني على طول خط انسحابه النهائي من أفيون قره حصار إلى سميرنا. دمرت الحرائق الكبيرة التي اندلعت خلال القتال بين القوات التركية والقوات الأرمينية غير النظامية في الحي الأرمني، مدينة إزمير. تم تفجير جسور السكك الحديدية، وتحطيم أو إتلاف العربات والقاطرات، وعلى الرغم من أن “المساعدة الذاتية” قد أحدثت العجائب في القرى (كما رآه الكاتب بنفسه في نيسان (أبريل) الماضي) لا تستطيع تركيا إعادة بناء مدنها، ناهيك عن السكك الحديدية، دون مساعدة من الخارج.
هل ستدفع تركيا القومية الثمن الذي ستأتي به هذه المساعدة لوحدها؟ لقد عانت كثيراً خلال القرن والنصف الماضيين من إساءة استخدام “الامتيازات الخاصة” من قبل البعثات الأجنبية والمقيمين الأجانب، لدرجة أنها أصبحت مناصرة لمبدأ السيادة الوطنية المطلقة على كل فرد مقيم داخل الحدود الوطنية، وهو مبدأ تم العمل به إلى أقصى الحدود في أوروبا الغربية منذ الثورة الفرنسية والتي تعلمها الطلاب الأتراك والمنفيون في باريس. من المتوقع أنها قد تضحي بفرص انتعاشها الاقتصادي للحفاظ على سلامتها السياسية، وقد تنخفض إلى المستوى الاقتصادي لأفغانستان، أو بالأحرى إلى المستوى الذي كانت فيه أفغانستان راضية عن البقاء به حتى بدأت في الخروج من عزلتها قبل بضع سنوات. ومع ذلك، فإن هذا الاحتمال، أي انحدرها الاقتصادي، يبدو غير محتمل بشكل عام لأي شخص زار أنقرة مؤخراً ورأى شيئاً مما تفكر فيه الطبقة الحاكمة والفلاحون، لأن هؤلاء سيلاحظون أن الرغبة في الراحة والكفاءة، والتي بدأت تظهر حتى في أفغانستان، أقوى وأكثر انتشاراً في الأناضول. ليس من المستغرب أن نجد هذا في القادة، الذين اعتادوا العيش ليس فقط في القسطنطينية ولكن في المدن الكبرى للحضارة الغربية حيث انتقل تقديرهم لهذه المزايا إلى مدن الأناضول الريفية، لكن المهم أن الثورة بدأت تخترق ذهنية الفلاحين الأتراك. إن التوق الواعي إلى السلام والازدهار الملحوظ بينهم اليوم في جزء منه هو رد الفعل الطبيعي لعشرات السنين من الحرب المستمرة وما يقرب من قرن من التجنيد الإجباري. لكن هذا يرجع أيضاً إلى تأثير الأفكار الغربية التي أثّرت على الفلاحين في جنوب شرق أوروبا خلال القرن الماضي.
تركيا.. الازدهار أم السيادة؟
في الواقع، لقد ألهم الغرب الشعوب الشرقية بفكرتي التقدم الاقتصادي والسيادة السياسية، والتي ستيبدوان غير ملائمتين في التطبيق العملي إذا جرى فرض الحدود القصوى منهما على البلدان غير المتطورة.
من الصعوبة تحقيق برامج تركيا الحالية الخاصة بالسيادة والتقدم في الحد الأقصى، ولكن من غير المرجح أن يتم التضحية بأحدهما لحساب الآخر. على الأرجح أنه سيتم التوصل إلى حل وسط، ليس على أساس نظري ولكن من خلال الحقائق الصعبة للتجربة، وأنه بعد فترة من الكساد الاقتصادي، ستجد خلالها المصالح الأجنبية صعوبة في الصراع من أجل البقاء (بينما ستظل غالبية السكان الأتراك تعاني من بلاء أكبر) وسيتم استعادة نوع من التوازن. السيادة النظرية، بعد كل شيء، هي نعمة سلبية إلى حد ما. وعلى الرغم من أن الحياة قد تبدو غير محتملة حتى يتم بلوغها (أي بلوغ السيادة الكاملة) فهي بديل غير مرضٍ للرفاهية المادية. وبالتالي، قد يتعين على المشروع الغربي أن يواجه وقتاً سيئاً في تركيا في المستقبل القريب، لكن لا داعي لليأس إذا كان بإمكانه تحمل وجهات نظر طويلة.
يتم تحفيز الرغبة التركية في التنمية الاقتصادية أيضاً من خلال اعتبارات السياسة الخارجية. من السمات البارزة في الحالة الذهنية الحالية للأتراك أنهم لم ينبهروا بنجاحاتهم العسكرية الأخيرة، وإدراكهم بشكل عام أن انتصاراً مؤقتاً في الحرب (حرب الاستقلال)، أصبح ممكناً بفضل مرحلة خاصة وانتقالية في الوضع الدولي، لن تصون بشكل دائم وجودهم الوطني ما لم يتبعها جهد مستمر في كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية.
التحالف التركي الروسي مؤقت
في الوقت الحالي، روسيا وألمانيا ضعيفتان، والقوى الغربية منهكة للغاية لاتخاذ إجراءات فعالة في الشرق، في حين أن اليونان، التي كانت في حالة حرب منذ سنوات عديدة، مثل تركيا، واضطرت إلى خوض القتال بمفردها في الأناضول، عانت من هزيمة لا يمكن نسيانها. لكن تركيا تعلم أنها لا تستطيع أن تكتفي بما حققته من أمجاد بينما يتعافى جيرانها. فقد بدأ ظل روسيا يلقي عليها بشدة مرة أخرى. لم يكن للتحالف التركي الروسي الحالي أن ينشأ أبدًا الحالي (المقصود تفاهمات لينين ومصطفى كمال) لو لم تتوقف روسيا، في الظروف الحالية، عن كونها قوة عسكرية عظيمة، وإذا لم تجبر الدبلوماسية المذهلة ل”قوى الوفاق- البلقانية” عدوين لدودين على البحث عن توافق غير طبيعي. لكن هذا التوافق لم يستمر إلى ما لا نهاية، فحين تراجع التوتر السياسي بين تركيا والغرب منذ هدنة مودانيا ( عقدت يبن تركيا والقوى الغربية المحتلة بتاريخ 11 أكتوبر 1922) أصيب الوفاق التركي الروسي بالفتور، والآن بعد أن استعادت تركيا فعلياً سيادتها الكاملة على المضائق والقسطنطينية، أعيد الصراع الجغرافي للمصالح بين البلدين إلى شكله القديم.
لقد كان التحالف بين روسيا وتركيا منفعة متبادلة مؤقتة، وسينهار مع اختفاء المصالح المشتركة الملموسة التي أنتجته، لأنه لم يُبن على أسس أخلاقية، مثل تلك التي تجذب المثقفين الأتراك تجاه الثقافة الفرنسية أو الإنجليزية مهما كانت درجة العداء سياسياً تجاه إنجلترا و فرنسا. من الواقعي أن نتنبأ بأن تركيا ستشعر بضغط روسيا مرة أخرى قريباً، وأن هذا الخطر سيحفزها على تطوير قوتها من خلال ضبط بيتها الداخلي.
خلال القرن ونصف القرن الماضي، اعتمدت تركيا في الدفاع عن نفسها أمام روسيا على استجداء الدعم الغربي حيث أن قوتها الذاتية لم تكن لتحميها. لكن ثمار هذه السياسة الخطيرة أثبتت تكلفتها الباهظة بالنسبة لها كما كانت بالنسبة لليونان. لقد أعطت بشكل عام أكثر مما حصلت عليه، تم الترحيب بها باعتبارها محمية ثم بدأت حملة الاستغلال، وكانت معاملتها من قبل ألمانيا هي خيبة أملها الأخيرة، ومثل اليونان مرة أخرى، أدركت ضرورة التحرر من سياسات القوى العظمى، لكن عليها أن تقترض اقتصادياً واجتماعياً من الغرب إذا أرادت أن تصبح قوية بما يكفي لتأكيد استقلالها السياسي عن الغرب، وإذا أرادت اتخاذ خطوات عملية في هذا الاتجاه فإن عليها التقارب السياسي مع جيرانها في الشرق الأوسط. في الوقت الحالي، لتركيا مكانة عالية عسكرياً بين الدول الشرقية من مصر إلى أفغانستان، وإذا تمكنت أيضاً من اكتساب الريادة في التطور المادي والفكري، فقد يكون لها مستقبلاً عظيماً كجسر للوفاق الغربي الآسيوي، على غرار “الوفاق الصغير” في جنوب شرق أوروبا.
يبدو أن نتيجة هذا الاستطلاع الموجز هو أنه عقب التسوية، تتحرك اليونان وتركيا في اتجاهات متوازية، وأن هناك بعض الاحتمال لإقامتهما علاقات أفضل مما كانت عليه في الماضي من أجل مصلحتهما. المشكلة الأساسية التي يعتمد مصيرهما على حلها هي القضاء على القوى الأجنبية وخصوماتها في ساحتي الشرق الأدنى والأوسط. لكن هذه المشكلة تشمل دائرة أوسع من الدول مقارنة بالأطراف المشاركة في لوزان.[1]