مؤيد الخالدي
لا يقتصر تراث العراقيين على محافظة دون أخرى، بل إن تأثيراته تمتد إلى كل المحافظات ومنها مدن ومحافظات كردستان العراق، وقد سبق أن تناولنا العديد من مواضيع التراث في السليمانية، واليوم نأخذ قراءنا في جولة عند اكبر وأقدم (حمام شعبي)
في السليمانية ألا وهو (حمام سورت) حيث يقع هذا الحمام في السوق الشعبي الخاص بالحدادين في شارع (محوي) وهو احد الشواخص التراثية الأصيلة لهذه المدينة.
ويعود بناؤه إلى أكثر من ( 200 عام )، وان من قام ببنائه هم (البابانيون) في نهايات القرن الثامن عشر للأمارة البابانية القديمة والتي كان مقرها قبل ذلك في الجهة الخلفية لجبال ( كويزة) قبل ان يكون مقرها الحالي في مدينة السليمانية الحالية.
ولكي نسأل عن أوليات هذا الحمام وبعض التفاصيل ممن عاشوا حتى هذه اللحظة التقينا (سرور حاجي علي الحمامجي ) المشرف على الحمام حيث حدثنا قائلا :
بوشر ببناؤه هذا الحمام في سنة ( 1784 ) واستمر بناءه لاكثر من( 20 سنة،)اما التسمية الحقيقية لهذا الحمام فهي ( حمام بابان) وليس (حمام سورت) كما هو متداول الآن وذلك نسبة الى (العائلة البابانية ) وعن سبب تغيير التسمية يقول حاجي :
مع بدايات القرن العشرين استبدل العثمانيون اسم الحمام من (حمام بابان) إلى (حمام سورت) وذلك لان جدرانه وسقوفه كانت مطرزة بصور الحيوانات والشخصيات التاريخية البارزة إضافة إلى الخرافات والعفاريت الخرافية القديمة ،لكن السبب الأساسي والحقيقي لتغيير الاسم كان محاولة من العثمانيين على محو أسماء وشخصيات ( العائلة البابانية ) من الذاكرة الشعبية والثقافية لأهالي مدينة السليمانية،وذلك بعد هزيمة البابانيين وخروجهم من السليمانية الى (قله جولان).
ويضيف حاجي : و يشترك المسجد الكبير (مزكوت كورياه) وبناء السراي في السليمانية مع حمام (سورت) في سنة البناء نفسها ويشكلان معاً أهم المعالم الرئيسية لهذه المدينة. لكن هذا الحمام لم يكن مخصصا لعامة الناس بل كان لاستخدام العائلات البابانية في السليمانية، ثم انتقلت ملكية الحمام من يد الى يد حتى وصل الى يد ( الجد الأول للشخصية المسيحية المعروفة عبد الكريم ملكة) وزير المالية في حكومة الملك محمود الحفيد، وكانت ملكيته تعود قبل ذلك إلى اليهود الذين عاشوا بشكل خاص في (زقاق اليهود في السليمانية) الذي يقع في إحدى ضواحي السليمانية القديمة قرب (المدرسة الجمهورية) وزقاق جوارباخ وتحتفظ دائرة التسجيل العقاري في السليمانية ب(طابو الحمام ) حتى الآن حيث يشكل وثيقة تاريخية قديمة.
ويؤكد لنا حاجي بالقول: في سنة 1968 استأجر والدي الحمام من عائلة عبد الكريم ملكة،هذه العائلة المسيحية التي توزعت بعد ذلك في دول أوروبا الغربية وأميركا ولم يتبق منهم احد في العراق، ونحن نعمل به منذ أكثر من (أربعين عاماً) ومازالت معالمه التراثية والأساسية كالهياكل والسقوف كما هي من دون تغيير، ويضيف: حينما تسلمها والدي كانت المطرزات والرسومات على جدران الحمام مشوهة وقد تمت مراجعة مديرية الآثار في السليمانية في ذلك الوقت لكنهم رفضوا تخصيص مبالغ لترميم الحمام لذلك لجأ والدي إلى ترميم الحمام بنفسه ومن مصروفه الخاص وتم اصلاح السقف المتهالك والجدران عبر استخدام مادة الجبس من اجل أن لا يتوقف الحمام عن العمل فقد كان مصدر رزقه،وتم ترميم الحمام منذ ذلك الوقت عدة مرات مع الإبقاء على نفس الهياكل والسقوف ليحتفظ بأصالته وتراثه كما هو الحال عليه الآن . وأضاف: كان والدي حاجي محمد علي عبد الله المشهور بحاجي علي الحمامجي الذي تسلم ادارة الحمام مع ( شقيقه) قد ولد عام 1935 من عائلة متدينة، وتنقل بين حمام (سر جيمن) و حمام(نالي)قبل ان يستأجر حمام ( سورت) من وكلاء عائلة عبد الكريم ملكة وبعدها استمر 16 سنة في مهنة الحمامجية قبل ان يتفرغ للعبادة في السنين الأربع الأخيرة من حياته حيث توفي عام 1988 وترأس من عام 1968جمعية الحمامجي في السليمانية حتى وافته المنية وتسلم أبنه سركوت حاجي علي رئاسة الجمعية وهي هيئة تخاطب السلطات المحلية لتأمين مستلزمات عمل الحمامات المنشترة في السليمانية من محروقات وأدوات تعقيم وتنظيف الحمامات والتعامل مع وزارة الصحة حينما يحدث طارئ عام. وقال: إن السليمانية اليوم شأنها شأن المحافظات العراقية الأخرى تزخر بالتراث والأصالة حيث الكثير من الحمامات مثل حمامات (شيخ مارف حمام، المفتي، وحمام سليمانية وحمام ، سيوان وحمام ،تازه، وحمام جوارباغ وحمام،كاوىوحمام،شيرين وحمام،سرجنار وحمام ،الشعب، وحمام بوسكان) يعود معظمها إلى ما قبل عام 1975 لكن في الآونة الأخيرة تم بناء ثلاثة حمامات حديثة هي حمامات (زانكو، وخانقا، وشار) وهذه الحمامات مخصصة للرجال عدا حمام (المفتي) المخصص للنساء كما أن حمامات(جوارباخ، وعبد الله آغالي) تخصص أياما محددة في الأسبوع للنساء.
وعن الشخصيات التي دشنت هذا الحمام يقول (سركوت حاجي علي) شقيق سرور: ان حمام (سورت) يختزن في ذاكرته الطويلة ذكريات الشخصيات السياسية والاجتماعية التي زارته في يوما من الأيام فقد ارتاد هذا الحمام العديد من الشخصيات ومن كل الفئات الاجتماعية والسياسية واذكر منهم (عثمان باشا البابان، وعبد الكريم ملكة، والشيخ محمود الحفيد، وشيخ القادر الحفيد) وملا مصطفى بارزاني حيث كان يرتاده من عام 1960 إلى 1965 وبين عامي 1970 الى 1973،والشخصية الاجتماعية (فاقه مخمور) و(جمال آغا) والشعراء والأدباء والفنانين لأن الحمامات لم تكن موجودة في البيوت فكان الناس مضطرون الى زيارة الحمامات بين فترة وأخرى.
ويضيف قائلا: ان عمل الحمامجية يبدأ يوميا من الساعة الخامسة صباحاً حتى الخامسة عصراً ويتراوح سعر التحميمة بين(25) دينار عراقي للحمام الشعبي اما اذا كنت تريد حماماً خاصاً فإن السعر يرتفع إلى (35) دينار.
وعن طبيعة الحياة وتأثيراتها في نمط الحياة الحديثة يعود بنا إلى الذاكرة سرور فيقول : لقد أثرت نمطية الحياة الجديدة في الجميع بشكل كبيرو على مهنة الحمامجية بشكل خاص فقد اختلف العمل في مهنة الحمامجية بين الماضي والحاضر وعلى ما أتذكر مع بداية الشهر التاسع إلى الشهر الرابع كانت الحمامات مكتظة بالزبائن والرواد القدامى له، وكان يعمل بكل حمام من 3-6 عمال مخصصين (للتدليك ) إضافة إلى ( منظفين وشخص أخر يدير النار)،ويضيف: أيام زمان لم تكن الحمامات موجودة في البيوت وكان الناس يعتمدون في الاغتسال على الحمامات المنتشرة بين الأزقة وحارات السليمانية لكن نمط الحياة الحديثة والمنازل الجديدة التي تتميز بوجود حمامات صيفية وأخرى شتوية جعل الإقبال يتقلص كثيراً ويقل عدد الزبائن يوماً بعد آخر ويختلف الإقبال على زيارة الحمامات من فصل إلى آخر ففي الصيف ونتيجة الحر الشديد ينخفض عدد الزبائن الى أقل من (10) لكن ذلك الرقم يرتفع إلى (50) في الشتاء الذي يجذب الزبائن بسبب البرد القارس، إضافة إلى انه في الماضي كان لدينا زبائن دائمون في الحمام فمنهم من يأتي بشكل يومي وآخرون يأتون أسبوعيا وتبلغ عدد زياراتهم بين(500)الى (1000) في بعض الحمامات وهم يأتون على مدار العام في كل الفصول لكن في أيامنا الآن لا يوجد زبائن دائمين.
وأخيراً يقول سرور: إن الحمامات في السليمانية منها ما هو شعبي عام ومنها ما هو خاص فردي حيث كان حمامنا جماعيا حتى عام 2001 لكن تمشياً مع رغبة الزبائن والرواد للحمام قمنا ببناء(14) حماماً فردياً لكن دون التغيير في الهيكل العام لحمامنا فالهيكل الداخلي للحمام لم نغير به شيئاً وإذا ما تسلمت دائرة الآثار باستطاعتها هدم كل الإضافات كي يعود الى هيكله الأصلي كما أن الأرضية التي بقيت كما هي ووضعت على وفق حسابات علمية أفضل بكثير من حسابات اليوم ولا نعلم كيف ستكون حال الحمامات في السنين القادمة ولكننا نشعر بالحنين إلى هذه الحمامات واعتقد أن أكثر الرواد والزبائن يرتادون هذه الحمامات لتعود بهم الذاكرة والحنين لأيام زمان التي لن تعود أبداًَ.[1]