صلاح سليم علي
الكتاب الذي تضمن رحلةالسير ارنست الفرد ثومبسون واليس بج الى#الموصل# ووصفه لها فهو كتابه [على ضفتي النيل ودجلة بين عامي 1886- 1913] ..ويقع بمجلدين يتناول في الأول مصر وفي الثاني العراق..
جامع النبي يونس
على الرغم من كل المحاولات التي قمت بها للدخول الى جامع النبي يونس لم اتمكن من دخوله الذي بدا في حكم المستحيل..فالحرس والقائمين على الجامع المنتشرين في كل زاوية ومكان فيه كانوا يراقبونني بإهتمام
غير عادي لأنهم يعلمون بإني كنت اجمع اللقى الأثرية والمخطوطات السريانية والعربية القديمة.. ويبدو انهم كانوا يخشون أن اقوم باقتلاع البناية بأكملها واخذها الى لندن..وكان الوالي قد ابلغني انهم لايسمحوا لأي مسيحي بدخول الجامع، وبأنه يأمل الا احاول دخوله خوفا من قيام الملالي بتقديم شكاوي ضده في اسطنبول ان انا نجحت في دخول الجامع..ومما اقدر ان اشاهده من الخارج فان اقسام قليلة جدا فيه تبدو اقدم من القرن السادس عشر او السابع عشر، بيد أن اقساما في داخله لابد ان تكون قديمة تعود لبضعة قرون خلت..وفيما ذكر لايرد ان ضريح [النبي] يونس يقع في غرفة داخلية معتمة..وان قبره المعمول من الخشب او الجص يقع في وسط تلك الغرفة على بساط عادي اوربي الصنع وهو مغطى بقطعة قماش خضراء مزخرفة بآيات قرآنية..وأن هناك شرابات [شراشيب كراكيش] وبيضات نعام زجاجية كالتي تزين معظم العتبات والأضرحة العربية معلقة من السقف [وبالنسبة لبيضات النعام الزجاجية فمثبتة على الأركان الأربعة لضريح النبي يونس]، وهناك درج يفضي الى الغرفة المقدسة [الضريح]. لكن السيدة باجر[ماتيلدا زوجة وكيل القنصل البريطاني كريستيان رسام] التي تمكنت بتأثير الباشا من الدخول الى ضريح النبي يونس قبل لايرد بعشر سنوات تقدم وصفا مختلفا بعض الشيء إذ تقول بانها مرت بفناء واسع عبر ممر مريح ومفتوح لتنزل الى الجامع ..وهو بناية مربعة تضيئها نوافذ عديدة بعضها ملون الزجاج..والنهاية الشرقية مفصولة من الممر الرئيسي بسلسلة من الأقواس بديعة التصميم لعلها كانت جزءا من الكنيسة القديمة المكرسة ليونس. ويقف المنبر في النهاية الجنوبية [بأتجاه القبلة] اما الأرضية فتغطيها البسط الثمينة..وهناك ممر مغلق الأبواب طوله حوالي 30 قدم يقود الى غرفة مربعة معقودة السقف يتوسطها على ارتفاع مايقارب خمسة اقدام ضريح طوله عشرة اقدام وعرضه خمسة..وفي نهايته الجنوبية [جهة الرأس] عمامة كبيرة من الحرير الثمين والى جانبها وشاحات وتغطي الضريح اقمشة زاهية.. ويحيط هذا الضريح درابزين مثبت بمقابض فضية وقد علقت عليها المناشف المطرزة وما شاكلها مما يستخدم في الإستحمام [دواشم]..وجدران الغرفة تزينها المرايا والقرميد الملون بزخارف من آيات القرآن..وفي احدى زوايا غرفة الضريح ابريق ذهبي وقطعة صابون فرنسية ومشط ومقص لأستعمال النبي يونس الذي يخرج من قبره في أوقات الصلاة كل يوم فيتوضأ وفق طقوس الشرع افسلامي الصارمة..وقليل من المؤمنين يقتربون من القبر لأنه يعد من أكثر الأماكن قدسية..ويكتفي العديد بالنظر اليه من خلال النافذة المشبكة في الجامع..ولا يقبل سكان قرية النبي يونس وأهل الموصل من حوله اي تدخل في الجامع او في الضريح او المقبرة..ولذلك فإن خرائب قصور سنحاريب وأسرحدون الدفينة تحته لم ينقب عنها أبدا)
مجاعة في شمال العراق
وفي سنة 1880 حدثت مجاعة اخرى في شمالي بلاد الرافدين وقد وصف ساخاو[هو عالم السريانيات الألماني كارل أدورد ساخاو الذي زار الموصل والف كتابا يصف رحلته اسماه على ضفتي الفرات ودجلة] الذي زار الموصل في ذلك الوقت ووصف الآثار المدمرة للمجاعة التي تعرضت لها المدينة بالتفصيل، إذ يخبرنا أن طعاما لايوجد في السوق وأن الرجال الذي ارسلهم لشراء طعام له وعلف لخيوله كانوا يعودون يوما بعد آخر بأيد خالية..كما شاهد البؤس القنصل البريطاني والتبشيريين الأميركان فكتبوا الى أوربا وأميركا طلبا للغوث..ويمكن لنا ان نقدر حجم المجاعة وجسامة تأثيرها من قيام [الحكومة البريطانية بإيفاد قنصلها في مسقط] الكولونيل مايلز الذي أبرق من الموصل الى لندن في كانون الثاني عام 1880 مشددا الحاجة ماسة الى إجراءات انقاذ عاجلةن الطفال يباعون أو يهجرون، الناس تغادر قراها المجاورة هربا الى الموصل..الناس بدون استثناء يتضورون جوعا..وكذلك الحال في وان ودياربكر وأورميا وأماكن أخرى، وارسل التبشيريون الأميركيون رسائل مماثلة..وكان الرد في بيرطانيا وأميركا فوريا فتدفقت الأموال على تركيا مما انقذ آلاف الأرواح..وخصصت القنصلية البريطانية الفناء لوضع أوان ضخمة [قزانات] لطهي الطعام طيلة اليوم لأشهر وقامت السيدة رسل-زوجة القنصل- بتوزيع الطعام على مئات الناس الجوعى بدون اي اعتبار لقومياتهم واديانهم..وكان الجواز الوحيد الذي يسمح بدخول فناء القنصلية هو الجوع..أما الآباء الدومنيكان فقد قاموا بعمل رائع على نحو مماثل فأطعموا المئات يوميا .. ولكنهم توجهوا بإنقاذ اعضاء من ملتهم بالمقام الأول..
وقد يبدو الأمر الآتي غير قابل للتصديق: فعندما وصلت معاناة اهل الموصل حدودا لاتطاق، عمدت الحكومة التركية في اسطنبول الى إرسال اوامر بتقليص قيمة العملة المتداولة في بلاد النهرين بذريعة ان الباشليق [تطلق هنا على وحدة نقدية] او مايعادل خمسة بياسترات لاتساوي أكثر من بياسترين والمجيدية او مايعادل عشرين بياستر لاتساوي اكثر من ثمانية بياسترات.. وتمثل التأثير المباشر لهذا القرار العثماني الخبيث بزيادة وتيرة البؤس في الموصل وتدمير مئات العوائل.. وفي الوقت نفسه شرعت الحكومة العثمانية قانونا يخول السلطات المحلية باقتحام البيوت ودخولها بدون انذار مسبق والإستيلاء على اية مواد غذائية فيها ثم توزيع مايعثرون عليه من طعام على الناس.. فنفذت بلدية الموصل هذا القانون على جناح السرعة..وكان الباحثين عن الطعام من مسؤولي البلدية يذهبون في مساء كل يوم الى البيوت الذين ينوون تفتيشها في اليوم التالي لبلاغ اهلها بما سيحدث..وكانت نتيجة ذلك ان بيوت الموسرين كانت تخلى تماما من اي طعام بينما نهب الفقراء من اي شيء يملكونه [لأن احدا لم يبلغ الفقراء مقدما ان تفتيشا سيحدث في اليوم التالي لبيوتهم]...
جسر الموصل القديم
تقع الموصل على الضفة الغربية لدجلة مقابل ذلك الجزء من نينوى المعروف بالتل الكبير قوينجاق..والمسافة بين تلقوينجق والنهر حوالي ميل ونصف..والوسيلة الرئيسة للأنتقال بين المدينة والضفة الشرقية [اليسرى] هي جسر القوارب المتجهة في نهاياتها المدببة باتجاه التيار ويرتبط أحدها بالآخر بواسطة سلسلة حديدية، وفوق الجسر طبقة من التراب مفروشة فوق اغصان الأشجار التي ترتكز بدورها على طبقة من القضبان المفلوقة والكاملة وتشكل هذه الطبقات الطريق فوق الجسر..والقوارب نفسها قديمة ومخلخلة ولم ادهش عندما سمعت ان معظم تلك القوارب تحطم بعد ارتفاع مياه دجلة بشهر او نحو ذلك..وترتبط النهاية الشرقية لجسر القوارب ببقايا جسر حجري شيده العرب[؟] في القرون الوسطى فوق دجلة..وماتزال عقود [أقواس] من ذلك الجسر قائمة وبمقدورها حمل الناس ووسائط النقل المارة فوقها..ويوجد حول هذه الأقواس [عقود الجسر الحجري] وفي المساحة الممتدة امامها ضربا من المعارض الدائمية تقام هناك عندما تنخفض مياه دجلة حيث ينصب الباعة المتجولين من مختلف القوميات خيامهم ليبيعوا البيض والسمك والخبز والفاكهة والرقي والبطيخ وماإلى ذلك كما يقوم الحواة والبهلوانات على نحو متكرر بعرض مهاراتهم على الصبيان والأطفال الذين يتابعون مايقوم به الحواة والبهلوانات بإنبهار شديد بينما ينشد الكبار الى أحاديثم ونكاتهم التي لاتخلو من طرافة وإثارة..وعندما ينخفض النهر تستخدم بعض الأقواس كأصطبلات من قبل اصحاب القوافل ممن لايعبر النهر الى الموصل بينما تحجب اقسام أخرى منها لشاذ الآفاق الذين يستخدمونها لأغراض غير أخلاقية حتى في وضح النهار!..
يبدو من علامة الأستفهام التي وضعها واليس بج انه غير متأكد من ان العرب هم من بنى الجسر الحجري الذي يذكر رحالة آخرون أن مهندسا ايطاليا أشرف على بنائه وهنالك صورة قديمة نادرة ترينا عمالا منهمكين في بناء الجسر الحجري تعود الى مكتبة هولندية يبدو من ملابسهم وقبعات بعضهم انهم مشارقة ومعهم أجانب، ومن المصادر ماينسب انشائه الى الرومان ...ولكن يبقى هذا الجسر مع كل هذه الإشارات لغزا محيرا بسبب صمت المصادر شبه المطلق عن تاريخ وكيفية بنائه والجهة التي قامت ببنائه..
حكومة #ولاية الموصل#
ولعل من غير اللائق لغريب يمضي بضعة اسابيع في مدينة شرقية ان يتعرض بالنقد لحكومتها، ولكن يبدو لي أن ادارة بلدية الموصل
[تأسست فيما ذكر الدكتور ابراهيم العلاف عام1869] هي الأسوء على الإطلاق..ففي السابق، فيما أخبرني تجار الموصل، عندما كانت الموصل تدار من بغداد كان هناك بعض الإستقرار في اوضاع المدينة.. ولكن منذ عام 1878 عندما استقلت الموصل بإدارتها عن ولاية بغداد لتصبح ولاية بحد ذاتها، تدهور كل شيء فيها وسار نحو الأسوء..فالوالي باشا او الحاكم يصار الى تبديله على نحو متكرر..وكل وال جديد يبذل قصارى جهده لجمع أكبر كمية من الأموال بأسرع وقت ممكن..ويتفق العرب والأكراد واليهود والمسيحيين كلهم في كراهيتهم للحكام الأتراك الذين لاتهمهم المدينة باي حال من الأحوال..فليس ثمة شيء يمكن عمله مع السلطة بدون بخشيش [رشوة] والشخص الذي يدفع أكثر يفعل مايشاء وكما يحلو له..ومجلس البلدة الذي يضم العديد من التجار العرب الأثرياء حاول التخلص من الأتراك ولم يضيع الأعضاء العرب اية فرصة في تحريك الناس ضد الباشا وسلطته..وكانوا ينفقون الأموال بدون حدود لتحقيق خططهم..وكان الناس يقولون ان هدفهم الرئيس هو اقراض المال للوالي لكي يتمكنوا من التحكم به..ومما طال سمعي يبدو انهم [تجار الموصل] قد نجحوا في تحقيق هدفهم..
اما إدارة العدالة فمتراخية بما لايقاس، وكان الشاهد المحترف [شاهد الزور] يعيش بافضل حال لأن أجوره تتزايد مع حجم جهله بالقضية التي يحضر لتقديم الشهادة فيها..وهناك قضية أثارت اهتمامي من شأنها توضيح ماذهبت اليه بخصوص العدالة في الموصل.. جاء احد الجنود الى قوينجق وكان واجبه هو اجراء دورية في التل بينما كنا نقوم بالتنقيب فيه..وكنا منشغلين بالتنقيب عندما لفتت انتباهنا مشاجرة [كلامية] بين الجندي وضابط صادف وجوده هناك فقام الضابط بانتزاع بندقية الجندي ورفعها في الهواء وانهال بإخمصها على رأس الجندي فسمعنا صوت ارتطامها بقوة وراينا الجندي وهو يسقط على الأرض بدون حراك..وفي اليوم نفسه جاء الي بعض اقرباء الجندي وتوسلوا الي ان اصاحبهم الى الوالي لمطالبته بتحقيق العدالة يما يتعلق بجريمة القتل..ولأنني اعرف تماما وقائع القضية بالتفصيل، وافقت على الذهاب معهم فاستقبلني الباشا باهتمام بالغ وشكرني لزيارتي ووعد بالتحقيق في القضية..وفي اليوم التالي ذهبت مجددا الى الباشا لأرى ما تم عمله [بشأن القضية] فعرفت ان الجندي قد دفن في الليلة الماضية، وبعد يوم على زيارتي ارسل لي الباشا رسالة يقول فيها ان الضابط سوف يحاكم في محكمته في السراي، ويوجه لي الدعوة بحضور المحكمة..فذهبت في موعد المحاكمة ورأيت العديد من الشهود الذين جاءوا لتقديم الشهادة لصالح الضابط..وذكر الجميع الحكاية نفسها بصياغات مختلفة ومفادها أن الجندي هو من هاجم الضابط بالبندقية وانه فقد توازنه في اثناء هجومه فسقط على البندقية وبذلك جرح نفسه وان الجرح الذي تسبب به بنفسه هو سبب الوفاة..ولكن أحدا لم يصدق شهادات هؤلاء الشهود المأجورين لأنهم عند استجوابهم ظهر ان أحدا منهم لم يكن حاضرا مقتل الجندي..وبعد الكثير من الكلام، طلب الباشا حضور طبيب نمساوي او بولوني لتقديم شهادته..فقال الطبيب بأنه اجرى فحصا عدليا لجثمان الضحية فرأى فوق قلبه بقعة اظهرت انه مقدر له ان يموت حتما في اللحظة نفسها التي مات فيها..وان الضربة التي تلقاها من البندقية [ والتي هشمت جمجمته] لا علاقة لها بسبب الوفاة.. وتم اطلاق سراح الضابط بعد الإدلاء بتلك الشهادة.... وعندما دعاني الباشا الى غرفته واعطاني الفرصة للأعراب عن رأيي وسرد ما أعرفه عن الجريمة..فذكرت التفاصيل كما عاينتها، ابدى ذهوله وارتباكه..واكد لي ان فحص الجثة قد تم نزولا عند طلبه وهذا يؤكد نزاهته في التعامل مع تلك القضية..ولكني أكدت له بأني أشك بشهادة الدكتور واني لا أصدق بماقاله حول وجود بقعة على قلب الرجل..فانبرى الباشا قائلا: وهل انا الله لأعرف بهذه الأشياء؟ لاسامح الله..ثم أضاف العبارة العدمية (مكتوبي)، ثم سألني ان كنا قد عثرنا على كنز في التل..وبانه يشعر بالأسف لأننا سنغادر الموصل في وقت قريب لأنه يحب الأنكليز..وبينما قلت له مع السلامة، قال: (ماشاهد أحد الجمل ولا الجمال) في اشارة منه على عدم رغبته في التحدث عن المحاكمة التي حضرتها ذلك اليوم)..[1]