د. عروبة جميل محمود
يعد القضاء من أساسيات تنظيم المجتمع حسب أحكام الشريعة الاسلامية ، كذلك اكتسبت الأحكام الصادرة من القضاة احتراما وقدسية بوصفها أوامر شرعية يطلقها القاضي حينما يفصل في القضايا الاجتماعية في مختلف صورها ، يتصف بالوضوح ، إذ كان القاضي ينظر في الدعاوى المقدمة اليه ليستمع إلى الطرفين المتخاصمين ، كما يستدعي الشهود للإدلاء بشهادتهم ، وعلى ذلك يجري تحت نظره وإشرافه ، إذ لم يكن هناك محامين في ذلك الوقت ،
لأن منطلق الأحكام القضائية كان يسير وفق الأحكام الشرعية ، حيث كان القاضي يفصل في القضايا الاجتماعية في المحكمة ، ويساعد القاضي في هذا المجال عدد من الكتاب بتدوين وقائع المحاكمة وتجدر الاشارة إلى ان الأحكام القضائية كانت تصدر في جلسة واحدة، ولم تفرض أية رسوم على الدعاوى المقدمة للقضاء آنذاك .
ويساعد القاضي في إنجاح وقائع المحكمة قائد الشرطة الذي كان يعرف باسم الصوباش ، والمحتسب الذي يعد المشرف المباشر على العديد من المسائل قيد المحاكمة ، لأن طبيعة عمله مراقبة الأسواق والأنشطة الأخرى وكان من أبرز مساعدي القاضي في متابعة المخالفات القانونية وعرضها على القاضي .
ومما يميز القضاء في #الموصل# في الفترة العثمانية ان جميع القضاة كانوا من أبناء المدينة ، الذين امتلكوا المعرفة والخبرة القضائية ، ولعل من أبرز العوائل التي توارثت شؤون القضاء في الموصل ، آل العمري ، وآل الغلامي ، وآل الفخري ، وفي هذا دلالة على مدى أهلية الموصليين في فهم الشريعة الاسلامية فهما شموليا فضلا عن طبيعة المجتمع الموصلي الاسلامية المحافظة ، وهذا ما ساعد القضاة الموصليون على معرفة أبعاد القضايا التي تعرض عليهم .
وكان القاضي موضع احترام المجتمع الموصلي والولاة العثمانيين وتكمن أهمية القاضي ومكانته من كونه يمثل الواجهة الشرعية للحفاظ على تماسك المجتمع وصون حقوقه المادية والمعنوية ولذلك كانت المحاكم عندما تعقد جلساتها لا تفتح أبوابها الا لمدة ساعتين فقط يوميا ، ويتم البت في الشكاوى المقدمة في فترة وجيزة ، وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على وجود نوع من الاستقرار الاجتماعي في المجتمع الموصلي الذي يدرك مدى وأهمية تطبيق الشريعة الاسلامية في تحقيق العدالة الاجتماعية .
وقد طرأ تغيير على القوانين التي يتقاضى بها في المحاكم والمستوحاة من روح الشريعة الاسلامية وذلك عندما أصدر العثمانيون عدد من القوانين ذات الصبغة الغريبة ولا سيما المستوحاة من القانون الفرنسي الذي يتضمن بعض التشريعات المدنية ، مثل قانون الجزء الهمايوني الصادر في سنة 1858م ، وقانون التجارة البرية في عام 1860م ، وقانون التجارة البرية لعام 1863م ، ثم قانون إدارة الولايات العثمانية العام في عام 1864م الذي أشار الى تشكيل وحدات قضائية في الولايات التابعة للدولة العثمانية ومنها ولاية الموصل وشمل الاقضية والنواحي التابعة للولايات .
وبعد تنفيذ الاضافات القانونية المستمدة من فقرات الدستور الفرنسي وشرعت المحاكم لتحديد مجالات أنشطتها في مجال الشؤون الاجتماعية حسب الأوامر الصادرة عن الجهات العليا العثمانية عام 1305ﮪ/1887م ، والتي نصت على ان المحاكم الشرعية ترى جميع الخصومات العائدة الى الأمور الشرعية منها دعاوي الطلاق والنكاح ، والنفقة ، والحضانة ، والحرية ، والرق ، والقصاص ، والدية ، والارث … ، وحكومة العدل ، والقسام ، والغائب المفقود والوصية ، والميراث ، ولا يمكنها ان ترى على الاطلاق دعاوي التجارة والجزء والفائض والعطل والضرر وبدل الالتزام ، والقرنطوراتو، وما سوى ذلك من الدعاوي يمكن رؤيتها في المحاكم النظامية .
كانت المحاكم الشرعية في مدينة الموصل في العهد العثماني تشكل الجهة القانونية لإقرار عقد القِران (الزواج) ، إذ يتم العقد حسب سياق قانوني ، فيحضر كلا الطرفين ، الرجل والمرأة أمام القاضي وبحضور الشهود حيث يتم تدوين وقائع عقد النكاح في سجل خاص بالمحكمة ، إذ كان هناك سياق معتمد في هذا الجانب وفق مضبطة أصولية ، وفي أدناه صورة من عقد النكاح : حضر مجلس الشرع الشريف الأنوار ومحفل الدين الحنيف الأزهر البنت الباكر العاقلة حنيفة بنت عبد آل من أهالي قرية دوكندان من قرى ناحية عشائر السبعة من ملحقات مدينة الموصل المحروسة المعرفة بتعريف الرجلين العارفين لذاتهما بالمعرفة الشرعية وهما شامي بنت الحاج عمر وسيد رضا أبن سيد محمد من أهالي القرية المذكورة ونكحت وزوجت المرقومة حنيفة نفسها من المرقوم محمد أمين على مهر معجل قدره خمسمائة غرش وعلى مهر مؤجل قدره مائتان وخمسون غرشا فقبل النكاح والتزويج المذكورين وتزوجها على المهرين المذكورين وجرى بينهما الإيجاب والقبوض من الطرفين بحضور الشهود المحررة أسمائهم المرقوم في ذيل الوثيقة ، وأقرت بخصوص الخمسمائة غرش المذكورة التي هي المهر المعجل المذكور من زوجها المرقوم محمد أمين في إقرارها المذكور ، وقد حرر ما وقع بالطلب في اليوم السابع من شهر رجب الخير لسنة تسع وثلاثمائة وألف .
وغيرهم محضر باشي محمود محمود أفندي أحمد حسن أفندي .
ويلاحظ في عقد القِران أعلاه عدم وجود تعقيدات بين الأطراف المشتركة في شرعية هذا العقد سواء من القاضي او الشهود او مجريات عقد النكاح مما يدل على بساطة المجتمع في التعامل مع الأحكام الشرعية والامتثال لها كونها تنبع من الشريعة الاسلامية لذا وجب الالتزام بها ، يقوم بتنفيذها القاضي بوصفه المرجع او الشرعي الأعلى الذي يقر إقرارات شرعية قانونية مثبتة في سجلات المحكمة الشرعية على صحة عقود النكاح .
وفي مقابل ذلك كانت المحاكم الشرعية في الموصل تحسم في قضايا الطلاق عندما تتوفر أسبابه وذلك حسما للمشاكل التي تنشأ جراء الاختلاف بين الزوجين ، ولذلك كانت المحكمة تنظر في قضايا الطلاق ، إذ كانت الدعوى ترفع إما من الزوج او الزوجة متضمنة طلب الطلاق ، كما في الصورة الآتية : حضر مجلس الشرع الشريف المرأة الحرة البالغة العاقلة نجيبة بنت محمود بنت شيخ سلتان (سلطان) من ساكنات محلة باب (لكش) بتعريف الرجلين العارفين بالمعرفة الشرعية عبد القادر بن شيخ سلتان من سكان المحلة المذكورة إبراهيم بن الحاج سليم بن أسعد من سكان محلة الشيخ أبو العلا وحضر معها محمد بن ملا أسعد بن الحاج منصور من سكان محلة رأس الكور وقررت المرقومة نجيبة بالطوع والرضا حضوره قائله : إني قد وكلت من طرفي هذا المرقوم محمد على الدعوى مع زوجي الغائب عن المجلس بهجت بن محمد من سكان محلة أمام عون الدين بخصوص تطليقه اياي وبخصوص مهري المؤجل هو عشرة ليرات عثمانية ومائة مثقال الكائنة في ذمته في جميع الخصومات المتعلقة بحقوقه الزوجية وغيرها وعلى الخصومة معه في كلما يدعي به علي وعلى الطلب والأخذ والقبض ورد الجواب والدفع وتقديم البينة وطلب التحليف وعلى التبليغ ومراجعة الاجراء وكالة مطلقة صحيحة شرعية فقبل المرحوم محمد الوكالة المذكور وتعهد بأدائها .
قبلت الوكالة 21 جمادى الأخر سنة 1328 1326
محمد معروف إبراهيم معرف عبد 15 حزيران
وبعد إقرار الطلاق شرعا وقانونا من لدن القاضي يجري تدوينه في السجلات الشرعية في المحكمة ، يتم النظر في النفقة التي يتوجب على الرجل دفعها الى مطلقته سواء ما يتعلق بالمبالغ التي يتوجب دفعها من قبل الرجل او طلب تأمين السكن او ما يتعلق بنفقة الأولاد وبعد تثبيت كل ذلك رسميا ، وأشهاد الشهود على صحة الدعاوي المرفوعة في النفقة ومنها ادعت عشو بنت محمد أبو عبو من ساكنات محلة جامع خزام المعرفة بالتعريف الشرعي على مصطفى بن الحاج سلتان من أهالي جوبة البقارة قائلة أنه منذ احدى عشرة سنة كان محمد أفندي بن رمضان من سكان الشيخ ابو العلا بحسب وكالته عن هذا المرقوم مصطفى قد أثبتت عليّ وعلى زوجي الغائب عن المجلس سليمان بن … الحاج سلتان الفا وخمسمائة وخمسة وأربعين غرشا فرض بموجب الأعلام الشرعي المؤرخ في 24 رجب سنة 1310ﮪ ومنذ خمس سنين أنا وزوجي المرقوم سليمان هذا المرقوم مصطفى عن جميع الألف وخمسمائة وخمس وأربعين غرش المذكورة على خمسمائة غرش فقبل الصلح الحضور وسلمنا الخمسمائة غرش المذكورة إليه فقبضها منا وإبراء ذمتنا من دعوى جميع المبلغ الثابت بموجب الاعلام المذكور فقبلنا الابراء وذلك بحضور شهود وأقر بالصلح وقبل بدله أيضا في ذلك التاريخ بحضور شهود ولم يبق له عندنا حق والآن هو مومه لي بخصوص الألف وخمسمائة وخمسة وأربعين غرش المذكورة فأطلب منه التوجيه في هذا الخصوص في 30 صفر سنة 1321 هذا دعوى عشو.
وكانت المحاكم الشرعية في مدينة الموصل في فترة الحكم العثماني تحسم في القضايا الخاصة بالتركة والميراث ، إذ أخذت المحكمة الشرعية النسق القانوني للحسم في القضايا في ضوء رفع الدعاوي للقاضي للنظر فيها وحسب الإدعاء بالاحقية الشرعية في توزيع التركات وتحديد الميراث ، وكان الإجراء لا يقتصر على المسلمين في المحاكم الشرعية إذ كان سكان المدينة من النصارى يلجأون الى المحاكم الشرعية لتقسيم التركات وتحديد المواريث ضمن أحكام الشرع الاسلامي المتعلق بنظام المواريث ، كما يأتي : أدعى خواجه نعوم بن خواجه حنا من محلة السريان الكاثوليك من تبعية الدولة العليا من سكان محلة حوش الخان على خواجه داود بن يوسف من الملة والمحلة المذكورين ان لي في المتوفاة مريم بنت نعمان من الملة والمحلة المذكورتين منه كانت في الحياة في ذمة المرقوم خواجه داود عشرون قرشا عن جهة قرض وقبل الاستيفاء توفيت وانحصرت ورثتها في أبنائها وبناتها ، الكبار وهم آنا وقيس داود ورزق الله ولجوئه وسوسن وأمينة وجميلة أولاد المرقوم خواجه حنا فانتقل المبلغ المذكور منها الينا ، لأن لا وأرث لها غيرنا ، فالآن أطلب بتنبيه المرقوم خواجه داؤد باداء ما يصيب حصتي منه العشرين غرشا المذكورة هذه دعواي نعوم .
فلما سئل المدعي عليه المرقوم خواجه داؤد ، أقر بأن للمتوفاة المرقومة مريم في ذمته عشرين غرشا عن جهة قرض ، لكنه أنكر الوراثة المذكورة وانحصارها .
24 رجب لسنة 1319ﮪ/1902م
فطلب البينة من المدعي المرقوم نعوم على وفق دعواه بالوراثة المذكورة فأحضر من الرجال النصارى عزيز بن يوسف قليان وداود بن بهنان من ملة السريان الكاثوليك من سكان محلة حوش الخان مشهدا أعلى وفق دعواه بالوراثة المذكورة شهادة مطابقة .
وفصلت المحاكم الشرعية في العهد العثماني في القضايا المتعلقة بالوصايا المترتبة على أمور الطلاق والنفقة ، وذلك لتنظيم أحوال المجتمع الموصلي وفق الشريعة الاسلامية ، ومثال ذلك لما كان يلزم شرعا نصب وصي على البنت الصغيرة خديجة بنت المتوفي أحمد بن عبو بيرقدار ، من سكان محلة الشيخ أبو العلا من محلات مدينة الموصل المحروسة لتسوية أمورها ورؤية مصالحها وحفظ أموالها ، ثبتت وتحقق لدى الشرع الانور باخبار عيدان بن محمد وعمر بن محمد من سكان المحلة المذكورة وعيدان بن أحمد من سكان محلة باب الأجش من محلات المدينة المذكورة على طريق الشهادة ، ان أم الصغيرة المرقومة وهي المرأة الحاضرة المعرفة بالتعريف الشرعي فاطمة بنت محمد من ساكنات محلة الشيخ ابو العلا المذكورة معرفة بالأمانة .
وموصوفة بالاستقامة ولا تبعة للوصاية المذكورة ومقتدرة على أدائها ، ونصبت المرقومة فاطمة من طرف الشرع الشريف وصيا على بنتها الصغيرة المرقومة خديجة ومحافظة على ما انتقل اليها بالارث الشرعي من أبيها المتوفي المذكور وترى لها الغبطة والمصلحة وحيثما وجدت وبانت بشرط الأمانة والاجتناب عن الخيانة فقلبت المرقومة فاطمة الوصاية المذكورة وتعهد بأدائها كما ينبغي 8 شوال لسنة 1320ﮪ/1903م .
قبلت الوصاية نعم اخبرت كذلك
عيدان بن أحمد نعم اخبرت كذلك عمر بن محمد
فاطمة السيد عبد عمر بن محمد نعم أخبرت كذلك على طريق الشهادة عبد الله بن محمد
وعرضت على المحاكم الشرعية قضايا اجتماعية أخرى ذات مساس بتنظيم الحقوق واعادة الأمانات الى أهلها ، ففي حالة الاقرار ، تعرض المسألة على القضاء ، ويتخذ القاضي الإجراءات القانونية المدونة في سجلات المحكمة الشرعية بوصفها بينة على حسم الاشكالات المتعلقة بالأمانات ومنها حضر مجلس الشرع الشريف الأنور ومحفل الدين الحنيف الرجل الجائز والنافذ إقراره وتصرفاته في جميع أموره من كل الوجوه محمد صالح بن محمد البربر من سكان محلة إمام إبراهيم من محلات مدينة الموصل وحضر معه الرجل الحر البالغ العاقل باعث الكتاب محمد بن ملا قدو من سكان المحلة المذكورة وقرر المرقوم محمد صالح مقرا ومعترفا بالطوع والرضا بحضوره قائلا أنه كان لي عند المذكور محمد الفان وتسعمائة وسبعة وثمانون غرشا ، بطريقة الوديعة من طرف حصتي الارثية من ثمن دار أمي المتوفاة خدوجة بنت محمود وليس لي في ذمته غيرها ، والآن أقر وأعترف بأني قد أخذت وقبضت جميع الألفين وتسعمائة وسبعة وثمانين غرشا المذكورة من المذكور محمد بالتمام والكمال ولم يبق لي في ذمته شيئا ، وأبرأت ذمته من جميع الدعاوي المتعلقة بالابراء العام وقبل الابراء المذكور ، فصدق المذكور محمد في جميع تقديره المشروح شفاها ، وقبل الابراء ، وقد حرر فأوقع بالطلب .
وناقشت المحاكم الشرعية ادعاءات الاختلاف في مسائل القروض ، وما نجم عنها من مشاكل حسمها القضاء آنذاك ، ومنها ما جاء في محاضر المحكمة الشرعية حضرت مجلس الشرع الشريف المرأة الحرة البالغة العاقلة مكونبت كاكوز بن عيدان من ملة الكلدان من تبعة الدولة العلية ، ومن ساكنات محلة إمام عون الدين المعرفة بتعريف الرجلين العارفين لذاتهما بالمعرفة الشرعية وهما نعم ارميا ومن الملة المذكورة ومن سكان محلة مياسة ، وسليمان داود عجماية من الملة المذكورة ، ومن سكان محلة رأس الكور وقررت المرقومة مكو بالطوع والرضا قائلة ان لي في ذمة المتوفي عبد الأحد بن سمعان رسام من ملة الكلدان ومن محلة إمام عون الدين منذ كان في الحياة سبعة ليرات عثمانية عن محمد علي الدعوى في الخصوص المذكور مع ثلاثة ورثة المرقوم عبد الأحد وهم أولاده فتح الله رزق الله ونعوم وراحي ومع كلمن تتوجه لي حق الدعوى معه في الخصوص ، المذكور وعلى الطلب والأخذ والقبض وتقديم البنية وطلب التحليف ، وعلى التبليغ والتبلغ وكالة مطلقة صحيحة شرعية فقبل المرقوم محمد الوكالة المذكورة وتعهد بأدائها كما ينبغي 12 محرم سنة 1329ﮪ/1911م .
قبلت الوكالة معرف معرف وكلت على ذلك مكو بنت كاكوز
محمد سليمان نعم 12 محرم الحرام سنة 1329[1]