محمد صالح البدراني
أدى بعض أفراد الأسرة العمرية خلال القرن التاسع عشر دورا بارزا في مواجهة قوة ونفوذ الأسرة الجليلية وقيادة الرأي العام الموصلي لمواجهة الأسرة الجليلية، ويعد قاسم بن حسن بن احمد بن علي ابي الفضائل العمري ابرز من مثل هذا التوجه السياسي من الأسرة العمرية خلال هذه المرحلة، إذ كان له دور بارز ومشاركة فعلية في الاحداث التي شهدتها ولاية الموصل في هذه المرحلة.
لقد ثار قاسم أفندي العمري مع من ثار من أبناء الموصل ضد الحكومة المحلية في الموصل في (شوال 1244ﮪ / 15 نيسان 1828م) مستغلين الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تمر بها مدينة الموصل، وغضب فئة كبيرة من اهالي الموصل ضد الولاة الجليليين لا سيما يحيى باشا الجليلي والي الموصل الاسبق، معتقدين بان ليحيى باشا ضلع في نشوب الازمة الاقتصادية، لاحتكاره الحبوب في مخازنه من اجل الاستفادة منها بعد رفع اسعارها.
اقدمت تلك المجموعة من الثائرين على عمل، عد الاول من نوعه في تاريخ الموصل السياسي الحديث، والمتمثل باغتيال الوالي عبد الرحمن باشا الجليلي (1242-1244ﮪ/1827-1828م) الذي اعقب يحيى باشا على ولاية #الموصل# ، حينما كمن له مجموعة من الاشخاص على احدى الدور المطلة على سراي الوالي. ومع اقتراب الوالي من الكمين أجهز عليه هؤلاء فاردوه قتيلا هو وابن عمه وكتخداه محمد اغا الجليلي.
وبعد قتل الوالي ونائبه، استطاع أولئك الثوار، احكام السيطرة على زمام السلطة السياسية في ولاية الموصل. الا ان حركتهم هذه فشلت لعدم اختيارهم قائدا سياسيا
من بينهم ليتصدى لقيادة تلك الحركة فضلا عن قيام انصار الوالي وابناء عمومته من
البيت الجليلي باختيار محمد امين بن عثمان بك الحيائي ليكون خلفا للوالي القتيل
(1244-1245ﮪ/1828-1829م).
ارسل كلا الطرفين الى الوالي داؤد باشا ليعلموه بما حصل في محاولة لكليهما في الحصول على موافقة داؤد باشا، وكان ميالا نحو البيت الجليلي، لذا ارسل الى الباب العالي لغرض الحصول على موافقته في تنصيب محمد امين بن عثمان بك الحيائي واليا على ولاية الموصل. وبمباركة داؤد باشا جاءت موافقة الباب العالي على تعيين محمد امين باشا الجليلي واليا على الموصل، وكان من المتوقع ان ينزل الوالي الجديد عقابا قاسيا بالثوار ولكن امرا كهذا لم يحصل، اذ اكتفى الوالي بنفي الثوار إلى منطقة تلعفر، فكان هذا القرار قد اعطى فرصة للثوار المنفيين ومن بينهم قاسم افندي العمري، إذ استطاعُوا ان يعيدوا تنظيم انفسهم بحرية ويكسبوا إلى جانبهم بعضا من اهالي تلعفر وبعض من ابناء العشائر العربية القاطنة في تلك المنطقة فضلا عن ما التف حولهم من مدنيين وعسكريين.
وفي تشرين الثاني من سنة (1245ﮪ / 1829م) استطاع المنفيون في تلعفر ان يزحفوا بقوات قوامها اربعمائة رجل متوجهين نحو الموصل. ولما وصلت الحملة إلى ابواب الموصل انقسمت اورطات الجيش المحلي على نفسها ؛ فقسم بقي مع الوالي الجليلي محمد امين باشا وآخر وقف ضده، فدار قتال عنيف في شوارع الموصل بين الجانبين استمر واحداً وعشرين يوما.
ولم تستطع قوات الوالي المتحصنة في المدينة من الصمود كثيرا، فقد دخل الثوار المدينة، معلنين انتصارهم على قوات الوالي الجليلي، وقتل في هذه المعركة العديد من افراد البيت الجليلي ومن ضمنهم عثمان بك الحيائي والد الوالي. اما الوالي، فقد تمكن من الهرب إلى بغداد(حيث داود باشا والي بغداد، واعلن الثوار ترشيح قاسم افندي العمري ممثل الجناح المدني للحركة، واليا على الموصل ومحمد سعيد آل ياسين افندي المفتي مساعدا له، في وقت كان خالد اغا بن صالح اغا آل شويخ مسؤولا عن الجناح العسكري.(اما بشأن حصول قاسم افندي العمري على منصب الوالي فان هناك اختلاف وتناقض في المصادر، البعض يميل الى القول بانه كان متسلما وليس واليا، في حين يؤكد البعض الاخر بشكل لا يقبل الشك على تنصيب قاسم باشا العمري واليا على الموصل).
وقد استطاع الثوار تثبيت قاسم باشا العمري بقوة السلاح فضلا عن دعم اهالي الموصل ووجهائها للمطالبة بجعل قاسم باشا واليا على الموصل، وبالفعل حصلت موافقة الباب العالي على تعيين قاسم باشا العمري، على الرغم من معارضة داؤد باشا والي بغداد ودعوته إلى اقصاء قاسم باشا عن ولاية الموصل، وذلك لان الوالي الجليلي السابق محمد امين كان على علاقة طيبة بوالي بغداد. لقد اصر داؤد باشا على عدم الموافقة على تنصيب قاسم باشا واليا على الموصل ولاسباب مجهولة. وبقي معارضا لذلك التنصيب حتى انه سعى لدى الباب العالي في الحصول على امر بقتل قاسم باشا العمري، ولكن قاسم باشا العمري اكتشف ذلك الامر في اللحظات الاخيرة حينما حل اغا التتر (رئيس سعاة البريد) ضيفا لدى قاسم باشا العمري وحينما خلد إلى النوم اخرج قاسم باشا ما في حقيبة اغا التتر فوجد امرا باعدامه، وعلى الفور اخفى ذلك الامر، صائغ، تاريخ الموصل، ج2، ص305، الا ان بعض المصادر تشكك في صحة هذه الرواية، فبعيدا عن مصداقية الرواية وعدمها فانها تدل على مدى العداوة والكره الذي كان يكنه داود باشا لقاسم باشا العمري وحين حدثت الثورة كان قد فر إلى بغداد ملتجئاً اليه، الا ان تلك الجهود ذهبت سدى اذ اصدر الباب العالي امره بتثبيت قاسم باشا واليا على الموصل رغم معارضة داود باشا لذلك الامر سنة (1246ﮪ/1830م).
قاسم باشا العمري ودوره في انهاء حكم داود باشا :
عندما ارادت الدولة العثمانية اقصاء المماليك عن حكم بغداد، وذلك ضمن مشروع تبنته الدولة العثمانية باعادة السيطرة المركزية على الولايات التي تتمتع بحكم محلي، كان لقاسم باشا العمري دور مهم وبارز في المساعدة في اقصاء حكم داؤد باشا والمماليك في بغداد، اذ توجه القائد العثماني على رضا باشا اللاز من حلب في مهمة لأنهاء حكم
داؤد باشا بالقوة العسكرية، بعد رفض الاخير اوامر الباب العالي بالتنحي عن
الحكم بالطرق السلمية واقدامه على قتل مبعوث السلطان الذي كان يحمل فرمان العزل سنة (1247ﮪ/1831م).
اوكلت قيادة الجيش النظامي وقوى كبيرة من العشائر العربية، إلى قاسم باشا العمري اناب عنه محمد سعيد ال ياسين متسلماً لولاية الموصل ريثما يكمل مهمته ويعود وبقي علي رضا باشا اللاز في الموصل يراقب الاحداث. لم تكن مهمة قاسم باشا العمري في انهاء حكم داؤد باشا المملوكي في بغداد ذات صعوبة، وذلك لان الطاعون الذي حل في بغداد في تلك الفترة، واعقبه فيضان نهر دجلة قد عمل على الفتك بالاهالي وانهاك القوات العسكرية الموالية لداؤد باشا الامر الذي منعهم عن مواجهة قاسم باشا العمري ومن معه من قوات العشائر. يصف بعض المؤرخين ولاية بغداد بعد هذه الكوارث الطبيعية بقولهم ان عدد سكانها تناقص من مائة وخمسين الف الى عشرين الف لا غير، وادى الطاعون الى انقراض عائلات حرفية بكاملها ولم يكن بوسع بغداد ان تسترجع قواها الا بعد مرور ما يقرب من العشرين سنة من اثر الطاعون والفيضانات
وقبل دخول قاسم باشا العمري إلى بغداد ارسل رسالة إلى علماء بغداد واعيانها يحثهم على الطاعة وعلى التخلي عن دعم الوالي المعزول داود باشا، واستجاب اهل بغداد للطلب وخرجوا لاستقبال قاسم باشا بمختلف طبقاتهم، وادخلوه إلى السراي بكل احترام، ولكن الامر لم يدم على هذا الحال اذ سرعان ما انقلب اهالي بغداد ضد قاسم باشا العمري، وذلك بسبب تصرفات جيشه لا سيما من مجاميع العشائر بزعامة سليمان الغنام التي ادخلت الريبة والشك في قلوب اهالي بغداد، وكذلك تصرفات العمري نفسه واصراره على معاقبة من بقي من المماليك والالحاح في مطالبته بتسليم داود باشا اليه، وبينما كان قاسم باشا العمري داخل السراي ينتظر تسليم داود باشا، فوجئ بمحاصرة السراي من لدن اهالي بغداد الناقمين على سياسة قاسم باشا وتصرفات جيشه، وكذلك من المماليك اتباع داود باشا، وبدأت مواجهات مسلحة بين الطرفين اسفرت عن هروب سليمان الغنام واتباعه، وبقي قاسم باشا وحده محاصرا مع عدد قليل من جنده الامر الذي سهل على الثائرين السيطرة على السراي، وقتل قاسم باشا العمري، ونهب السراي، وكان لعبد الباقي العمري دور مهم في انقاذ من تبقى من الجيش والعودة بهم إلى الموصل.
عن رسالة (الاسرة العمرية في الموصل).[1]