بهنام سليم حبابه
#الموصل# ، مدينة عريقة كتب عنها مؤرخون كُثُر قديما وحديثا، ولست بهذه الأسطر قادرا على وصف أمجادها إنما أقصر الكتابة على ما جاء في عنوان هذا المقال عن شارع نينوى بالموصل ذلك بمناسبة مرور قرن كامل على بدء العمل فيه سنة 1913 وهو أول شارع يفتح بالمدينة، وسأجول فيه معكم معتمدا على ذاكرتي وعلى ما قرأت وسمعت وشاهدت على مدى السنين عن هذا الشارع الخالد ونحن اليوم في العام 2013وقد دخلت السادسة والثمانين والحمد لله.
أبدأ مسيري مع صاحبي انطلاقا من أمام الجسر الحديد إلى نهاية الشارع في رأس الجادة مشيا على الأقدام لقطع الشارع من الشرق إلى الغرب، وطوله نحو كيلومترين، ننتقل من رصيف إلى آخر لمشاهدة المعالم التي مازال بعضها قائما حتى اليوم ومنها ما قد زال واندثر.
وابتغاء للدقة في الاستذكار في هذه المسيرة الممتعة والمتعبة معا، سوف أجعلها في اربع مراحل كما يأتي:
1- الصعود من رأس الجسر إلى مدخل شارع غازي _شارع الثورة اليوم- مقابل زقاق سوق النجارين.
2- مواصلة السير لاستذكار ما على جانبي الشارع حتى بلوغ منصة وقوف شرطي المرور (سابقا)، عند تقاطع شارع النجفي مقابل شارع سوق الشعارين الذي تم توسيعه عام 1951 لكن بغير نظام.
3- بعد استراحة قصيرة في مقهى (عبو قديح)، ننهض لمواصة السير، على الأقدام طبعا، إلى منطقة السراجخانة ثم إلى (الساعة) لنرى ما كان عليه الشارع من بيوت وعيادات وصيدليات ودكاكين ومحلات تجارية وشواهد عمرانية زال اليوم معظمها مع مرور هذه السنين التي قاربت قرنا من الزمان.
4- من منطقة الساعة حيث كانت منصة لشرطي المرور، وقد خف الازدحام وضاق الشارع عما كان عليه في أوله، منها نكمل إلى منطقة رأس الجادة.
جدير بالذكر أن (عطوفة الوالي=المحافظ) سليمان نظيف بك سعى في زمانه (1913) بفتح الجادة (الشارع الكبير) في الموصل وباشر بتعميرها، وهذا الوالي من أهالي ديار بكر، وهو كاتب بارع (كتاب الخواطر لداؤد رمو ص130).
إذا اتخذنا الطريق من بدايته عند الجسر الحديد الذي (تم افتتاحه مساء الأحد 10حزيران 1934 أمام جمهور غفير، افتتحه الملك غازي وعبر الجسر ومعه ألوف الحاضرين ثم رجعوا وانتهت الحفلة!)، (كتاب الخواطر ص330).
وعلى بعد نحو خمسين مترا من هذا الجسر جنوبا كان موقع الجسر الخشبي المنقرض، وأمامه ساحة الكمرك في باب الجسر والناس منهمكون في البيع والشراء لمختلف المواد الغذائية والمنتجات الزراعية. وليس بعيدا عن هذا المكان هناك بعض السيارات –من طراز تلك الأيام- و نسمع أصوات المناداة لمن يرغب السفر إلى القرى والأرياف المجاورة، وطرقها غير مبلطة طبعا، كانت الأجرة لا تتجاوز في أسوأ الظروف الدرهم (50= فلسا) وذلك نحو سنة 1940.
وهناك مقهى صغير ينتظر فيه من يروم السفر أو التوديع، وإذا رغب أحدهم بقدح (استكان) من الشاي فالسعر فلسان لا غير! أما مقهى (الثوب) العالي المجاور فكان السعر فيه أربعة فلوس!!
لندع الكل وشأنهم ولنعد إلى قرب الجسر الحديد لنبدأ مسيرتنا (أنا ورفيقي) في شارع نينوى..حيث مقهى البلدية واقع عن يميننا مطلٌ على النهر، استأجره بعض الذوات من أهالي المدينة ومن مهماتهم الإشراف على عبور المواشي واستيفاء الرسوم عنها وقد أوكلوا إدارة هذا المقهى إلى متعهد اسمه (مجيد سَفري)، هاهو جالس في أول المقهى الصيفي في الهواء الطلق لاستقبال وتوديع الزبائن واستيفاء الأجور منهم، ومعظمهم من المتقاعدين وكبار السن بملابسهم التقليدية الأنيقة وهي القباء والجاكيت أو المعطف القصير معتمرين الطربوش للرأس أو العمامة. والأجرة أربعة فلوس!!..نسير صعودا إلى حيث باب حديقة البلدية، هاهي عن بعد قاعة المكتبة العامة وبجانبها قاعة أخرى هي محكمة البلدية يتصدر مجلسها الحاكم يونس جودت الرمضاني، لمقاضاة المتجاوزين على أملاك البلدية وأنظمتها، لكن التغريم لم يكن يتجاوز نصف دينار كأقصى عقوبة.
وبعد مدخل الحديقة هناك (دائرة البلدية) تعلوها الساعة العاطلة عن العمل! والبناية قديمة ذات طابقين فيها غرف متواضعة للكتاب والمراقبين، واولئك مراجعون داخلون وخارجون طالبين إجازات للبناء أو للهدم أو معترضين على الغرامات الباهظة أو مستسلمين لدفعها!
هناك تتصاعد روائح الشواء من مطعم كباب السيد محمد علي الكبابجي ولا عجب فالشواء في الهواء الطلق، والناس جلوس في المطعم وهو غرفة طويلة شبه مظلمة يوزع فيها العامل (سعيد) مواعين الكباب على الزبائن وفي كل ماعون أربعة أشياش من الكباب فوقها رغيف خبز مع قليل من البصل والكرفس و(طاسة شربت)!!أما سعر الوجبة فلم يتجاوز العشرة فلوس ثم أخذ المبلغ يتصاعد مع غلاء الأسعار على مدى السنين حتى وصل سعر الوجبة خمسين فلسا..يا للغلاء!!فقد بدأت نيران الحرب العظمى تصلنا فنحن في أوائل 1940.
أما السيد محمد علي فجالس في الباب (على الدخل) وأمامه منضدة (تاريخية متهالكة) يقبض الأجور. واذا شك في مبلغ الوجبة فالجواب عند سعيد!
وهنا أشرت إلى رفيقي ليشاهد على الجهة المقابلة مدخل سوق النجارين المتخصصين بصنع بعض الأدوات الخشبية المستعملة من قبل المزارعين ويليه سوق الحدادين (الكبار)..لكننا نوالي السير على الرصيف لنشاهد مدخل سوق الخضراوات وقد تعددت دكاكينه، فهذه أكداس الأحمال لمختلف المنتوجات الزراعية والقصابين، وهناك عند نهاية الساحة مدخل سوق البزّازين وهم باعة الأقمشة مختلفة الأصناف والألوان. واذا سرنا بضع خطوات على الرصيف فهناك سوق العطارين ذلك السوق العريق الذي يجمع المتناقضات! ففي أوله باعة الباميا والطماطا والباذنجان وهنا أيضا دكان الحلاق (ابن الساري) الذي يتعاطى الطب الشعبي وهو جاهز لمن يريد قلع ضرسه (الخايسة)، دون تخدير طبعا. يليه مدخل حمام العطارين ثم بعد ذلك هنالك دكاكين العطارين حيث تنتشر الروائح العطرية المختلفة، وكان معظم العطارين ايام زمان من اليهود الى نحو سنة 1950.
بجانب سوق العطار يقع سوق الصفارين، في أوله باعة السمك..هذا شاب أمامه الموقد (البريمس) وفوقه مقلاة يقلي فيها قطع السمك ويقدمها للزبائن من يهوون أكل السمك في الهواء الطلق وهم جلوس على مصاطب أمام سوق الحدادين وإلى جانبهم حوض صغير تعوم فيه بعض الأسماك الحية المصطادة من دجلة القريب..ليبرهن أن سمكه طازج.
أما على الجهة المقابلة وبعد أن تركنا مطعم الكباب، يطالعنا مدخل سوق الميدان وهو يفضي إلى باعة الخشب والحطب تتوسطه ساحة مزدحمة بالرائحين والغادين لمصالحهم من بيع وشراء ما يلزم، فدكاكين النجارين قريبة وهم المتخصصون بعمل الدرّاسات الخشبية للحصاد (الجرجر) وعمل النواعير لسحب المياه من الآبار بواسطة الدواليب التي تجرها الحيوانات.. ورحم الله أيام زمان بعدما انتشرت التكنولوجيا..تلك هي صورة الدلاء ترتسم في خيالي تصب في السواقي لتروي المزروعات، تذكرني بالمثل القائل (يدلي بدلوه مع الدلاء).
عند المدخل الثاني لسوق الميدان تقع بعض دكاكين باعة الحبوب المستعملة في الطبخ من عدس وحمص وبرغل ورز..البيع بالميزات، وبعض الموازين من الحجارة..هذه وزنها (أوقية) وتلك أوقيتان والكبيرة (نص حقّة) والحقة =2كيلو تقريبا وعلى ذمة البائع.
أما باعة البصل بالجملة فالوزن لديهم بالقبّان، وهذه أكداس البصل على الرصيف وإلى جانبها تبرك الحيوانات التي حملتها يقودها أصحابها من أهل القرى مثل بعشيقة وغيرها.(والقبّان يحمل خشبته اثنان من أصحاب السواعد القوية والسباهي”صاحب الدكان يسجل الأوزان وبراءة الذمة على الوزّان).
أما أصحاب الأحمال فهم بانتظار الحصول على الفلوس ليشتروا بعض احتياجاتهم قبل العودة إلى قراهم دون أن يفوتوا وجبة كباب في المطعم القريب عند سعيد.
إذا أكملنا مسيرتنا، فهناك بعض الدكاكين وقد همَّ أصحابها بفتحها للارتزاق فهذا حلاق وذاك يبيع بعض الأدوات الخشبية المزينة والمزركشة بالألوان الزاهية ومنها (الصندليات) لعرائس أبناء القرى، و آخر هناك يعمل مع ابنه في إصلاح البريمس، ولما بارت تلك الصنعة تحولا إلى تصليح الساعات، وهناك بعض صناديق الموتى معروضة للبيع سعرها نصف دينار، وهذا يدعونا لاستذكار الحياة الباقية!
ها قد بلغنا منصة شرطي المرور الواقف بملابسه الأنيقة المتميزة يعطي الإشارات للسيارات القليلة، يومذاك، وعربات الركاب المنتشرة هنا وهناك بين شارع نينوى وشارع غازي يتصدر فيها الركاب، إنها تاكسيات تلك الأيام عند نهاية ثلاثينيات القرن المنصرم.
قبل وصولنا إلى مدخل سوق النجارين تنتصب عمارة بيت جردق ذات الطوابق الأربعة، وأشار صاحبي إلى الجهة المقابلة من الشارع حيث مرأب (كراج) سيارات خشبية كبيرة، حيث يتعالى صوت المنادي يدعو المسافرين إلى زاخو ودهوك وسائر المناطق الشمالية، والسعر (ربع دينار) للراكب الواحد، مع بضاعته طبعا، وبعد الكراج هذا محل آرتين مركب الأسنان..ثم لاتلبث أن تشاهد مدخل سوق الحنطة الجديد حيث الناس يتعاملون مع العلافين (تجار الحنطة والشعير) للبيع والشراء، والمحاصيل مكدسة في زوايا السوق والتعامل بالوزن (والقبان جاهز) أما السعر فلا يتجاوز الدينار الواحد للطغار (والطغار هو عشرون وزنة والوزنة 13كيلو غرام). وهناك كاتب أمامه سجل كبير يسجل فيه صفقات البيع والشراء. وهذا بائع شراب السوس بملابسه التقليدية يحمل على ظهره إناء السوس البارد اللذيذ ويطرق الطاسات طرقا خاصا يدعو فيه العطاش إلى الشرب والسعر فلس واحد لا غير او حفنه من الحنطة يضعها في كيس معلق بحزامه. وان موضع سوق الحنطة أصبح اليوم مصرف الرافدين رقم 12منذ نحو خمسين سنة.
وها نحن الآن أمام مدخل شارع غازي حيث منصة شرطي المرور وهذا مدخل سوق النجاريين المؤدي إلى دكاكين صانعي المهود الملونة والمراجيح (الديديات) والأقفاص و(الشوبك والنشابه) وغير ذلك من التخوت ولعب الأطفال الخشبية. وفي أول الزقاق هذا مدخل مقهى 14 تموز الشهير المفتوح نحو سنة 1959.
عن مدونة (بيت الموصل).[1]