صلاح سعيد البرزنجي
قبل مئة عام، ومنذ نهاية 1917 الى ايام النصف الاول من السنة التالية، مرت بمدينة#الموصل# اشهر احداثها قسوة وألماً تركت من الاثار الاقتصادية والاجتماعية الشيء الكثير في السنوات التالية.. مجاعة الموصل الشهيرة، وما تخللها من صور بشعة لضعف الانسان وقسوة الطبيعة وصبر الناس.. تنها من ويلات الحرب العظمى التي مر بها الموصليون ثم خرجوا منها وهم اكثر صلابة لمواجهة الحياة.والسطور التالية تذكير بأحداث هذه الحادثة المؤلمة.
وتذكر الدكتورة عروبة جميل :
كان وراء تفشي المجاعة في الموصل اسبابٌ عدة منها، رداءة الموسم الزراعي لعام 1917 مع تضافر موجات الثلوج ترافقت مع البرد الشديد والتي بدورها أدت الى موت اعداد كبيرة من الماشية واتلاف معظم المنتجات الزراعية، صاحبها التزايد الكبير في احتياجات القوات العثمانية من المواد الغذائية ولا سيما بعد انسحابها جنوب العراق وبغداد وفقدانها للكثير من المؤن مما دعاها الى مصادرتها من الاهالي، ومما زاد الامر سوءا توافد المهاجرين باعداد كبيرة من شرق تركيا بصورة خاصة وكان معظمهم من الكرد اثر تزايد المذابح الاهلية خلال سنوات الحرب العالمية الاولى 1914-1915 اذ دخلت اعداد كبيرة منهم شمال العراق ولا سيما الموصل. وكان من النتائج الخطيرة للمجاعة وفاة عشرات الالوف من السكان والقوات العثمانية، وتفشى امراض الكوليرا والطاعون والتيفوئيد.
وقد أثرت المجاعة تأثيرا خطيرا في اهالي الموصل، اذ عمد بعضهم الى سرقة اطفال الآخرين والقيام بذبحهم واقترنت تلك الجريمة باسم المجرم المدعو عبود بن علي جاويش بن توفيق بالتعاون مع زوجته المدعوة عمشة بواسطة ولدهما بقصد اللعب معهم ومن ثم استدراجهم وقلي لحومهم وتم الكشف عن جريمتهما عندما كانا يقومان ببيع طعام مكون من اللحم ما يعرف لدى اهل الموصل ب (القلية)، مما اثار دهشة الناس لوجود اللحم في سنة المجاعة، فاخبروا السلطات المختصة وبعد التحري اتضح ان المجرم يقوم بذبح الاطفال وقلي لحومهم وبيعها للناس، وكانت هذه من افظع الجرائم التي حصلت في مدينة الموصل جراء تلك المجاعة.
وقد الحقت هذه المجاعة اذى اقتصاديا كبيرا باهالي الموصل حتى انهم اسموها بسنة (الليرة)، وذلك لفقدان الثقة بالليرة الذهبية التي لا تستطيع ان توفر لقمة العيش، لا بل وصل الامر الى حد الاستغاثة والصراخ في الطرقات والازقة بقولهم (خاطر الله جوعان)، فهذه العبارة تُسمع يوميا في مدينة الموصل في سنة المجاعة وارتفعت اسعار الحبوب ارتفاعاً فاحشاً حتى بلغ سعر وزنة الحنطة ان التي تساوي (13.5) كيلو ثلاث ليرات ذهبية وهذا يعني ان اغلب اهالي الموصل كانوا في مواجهة المرض والموت.
وقد وصف احد شهود عيان الصورة المأساوية للمجاعة آنذاك، بقوله :كنت اثناء مكوثي في الموصل أطوف في شوارع المدينة وازقتها، اشاهد فقراءها المهاجرين منتشرين في الطرق والاسواق، والبعض منهم يتخفون تحت دكاكين البقالين والخبازين يتصيدون المشترين فما ان يشتري شخص لوازمه من الدكان سواءً خبزا او سمنا او غير ذلك ويدفع ثمنها الى البائع حتى يخرجوا من تحت الدكاكين ويهاجمونه ويسلبوه كل ما اشتراه، وكان بعض هؤلاء الجياع... يتعاركون فيما بينهم ويغتصب كل واحد منهم اللقمة من فم رفيقه ويدخلها الى فمه بطريقة لم أر مثلها طوال حياتي... وكنت اشاهد مأموري البلدية ومعهم الحمالين... يجمعون جثث الميتين جوعا في كل صباح ومساء كأنما يجمعون الحطب والنفايات. يضاف الى هذا ان هاجر الى ولاية الموصل اعداد كبيرة من الارمن والكرد من بلاد الاناضول ابان سنوات الحرب العالمية الاولى، وتزامنت هجرتهم مع انتشار المجاعة في المناطق الواقعة في شمالي مدينة الموصل، اذ قدر عدد المهاجرين الارمن ممن دخلوا قصبة الموصل ما يقارب ثمانية آلاف نسمة، وكانوا يعانون من الجوع وشظف العيش، وقدموا مدينة الموصل بحثا عن لقمة العيش، اذ كان الجوع يطاردهم اينما حلوا ناهيك عن هجرة اعداد كبيرة من الكرد وتوافدهم الى الموصل حيث بلغ عددهم تقريبا (70.000) شخصا ابان سنوات الحرب العالمية الاولى.
رواية عبد العزيز القصاب
بقيتُ في مركز دمير قبو سبعة أيام ثم تحركت قافلة السيارات فوصلنا إلى الموصل مساء ذلك اليوم وقد رأيتُ جثث الأموات منتشرة على طول الطريق بصورة تفتت الاكباد. بت تلك الليلة في الأوتيل وفي صباح اليوم الثاني ذهبت لمشاهدة الوالي ممدوح بك الذي كان قبلا كاتب سر لناظم باشا الوزير حينما كان واليا في بغداد. فسألني عن سبب تأخري فبيّنتُ الأسباب ثم أعلمني بالبرقية الواردة من الإستانة المتضمنة ترفيعي إلى الدرجة الأولى المؤرخة في 2 كانون الأول سنة 1434 وطلب مني الإلتحاق بوظيفتي فقررتُ السفر بعد إستراحة أربعة أيام.
يضع الحمّال في سلته أربع جثث او خمس، حيث ان جثة الإنسان أو الإمرأة كانت يابسة ضعيفة وقد إستحالت إلى عظم وجلد يلتقطها الحمال بيده من الأرض ويلقيها في السلة على ظهره كما يلتقط الخشبة الصغيرة.
لقد أصر عليّ يوماً المرحوم عبد الحكيم أفندي الهيتي إمام العسكرية بتناول طعام العشاء معه في الجامع الكبير في الموصل وكان الجامع حينذاك مستشفى عسكريا كان هو مديره وبعد إصراره الشديد قبلتُ الدعوة وذهبتُ مع خادمي مبروك إلى الجامع بعد غروب الشمس وكانت السماء ممطرة حينذاك. وكنتُ أتقي المطر بمظلة كانت معي ومبروك يحمل الفانوس ويسير أمامي في الطريق.
شاهدتُ على باب كل دار من دور الموصل التي مررنا بها شخصين أو ثلاثة كباراً وصغاراً نساء ورجالاً جالسين تحت ذروة الابواب يئنّون من البرد فلا يلقون مَن يرحمهم أو يحن عليهم أو يدخلهم إلى داره. وكان هذا المنظر من أو جع المناظر التي رأيتها في الموصل.
زرت القائد العام هناك – خليل باشا – وكانت لي معرفة به من بغداد. فأخذ يحدثني عن الشدة التي يلاقيها الجيش وعن ندرة الذخيرة والغذاء ومن جملة ما قاله: (إن الجيش عندما كان في بغداد كان بإمكانه عند الحاجة أن يأكل التمر ولكنهم هنا لا يجدون شيئاً يتقوّتون به فالمؤونة قليلة والطالبون لها كثيرون. ويستدل من ذلك ومن غيره أن الاتراك بعد أن خسروا بغداد خارت قواهم وضعفت مقاومتهم ولم يبقَ لهم أمل في المحافظة على البلاد. لقد وصلت درجة الجوع والفاقة في الموصل لدرجة أن كثيراً من المهاجرين صاروا يأكلون لحوم الحيوانات حتى الكلاب والقطط. وإن رجلا كان يخطف الأطفال فيذبحهم ويطبخ لحومهم ويعطيها للناس. وقد أُعدم مع زوجته التي كانت شريكته في الجريمة بعد أن أُفتضح أمرهما.[1]