صلاح سليم علي
في مراجعة تاريخ الرحلات الى الشرقين الادنى والأوسط، تشغل الرحلات الى العراق و#الموصل# بوجه خاص نسبة كبيرة من مجمل تلك الرحلات مما يؤشر الى نمط معين اي تكرار تلك الرحلات الى العراق والموصل تحديدا مما يدعونا الى التفكير بالاسباب والدوافع على محاور الزمان والمكان والاهداف المتوخاة من الرحلة.. فقد شغل الشرق الادنى بصفته حاضنة تاريخية للحضارات القديمة والأديان الرئيسة وبيئة للغرائب والعجائب
ومركزا للمدن الغابرة الدفينة خيال الاوربيين منذ القرون الوسطى ..وقد عززت الترجمة المبكرة لألف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر هذا التوجه التخيلي للمشرق..وهو توجه تجسم من الناحية الفنية بحركة الاستشراق اي محاولة تصوير الشرق في الاداب كالشعر والرواية والفنون الاوربية كالموسيقى والتصوير بينما تجسد من النواحي العملية بتاسيس المراكز التجارية في المدن الشرقية كالقسطنطينية وبغداد والقاهرة والموصل والبصرة ودمشق وحلب وغيرها..وعزز حركة الرحلات الى الشرق الادنى الحكم البريطاني للهند او الراج البريطاني 1858-1947..
فالشرق عموما وبلاد الرافدين بوجه خاص هما بالنسبة للاوربيين بيئة للمغامرات والتجارب الفائقة للعادة.. فبلاد الرافدين مكان احتضن منذ العصور القديمة آثار المحاولات الاوربية الاولى لاستكشاف العالم اوغزوه فهي المكان الذي سارت فيه جيوش الاسكندر المقدوني والجيوش الرومانية وهي المكان الذي زاره زينوفون وهيرودوتوس.. وهي مهاد الاديان السماوية الرئيسة وتجري في الشرق الأدنى وديان الانهار الكبرى التي ترعرعت على ضفافها الامبراطوريات القديمة في وادي النيل وبلاد الرافدين التي قدمت للانسانية اعظم اختراعين هما الكتابة والعجلة.. وطبيعة الحياة في المدن الشرقية تزخر بالحيوية والاثارة اذ يحدث كل شيء في وقت واحد وبمقدور الشخص ان يتنقل وياكل ويبيع ويشتري في اي وقت من اوقات النهار الذي يحدث فيه كل شيء..فالشرق يختلف بطعامه والوانه وبشره وتاريخه وعمارته وبأيقاعه الزمني وبكل شيء عن الغرب مما يجعل من مجرد الاختلاف دافعا يثير حب الاستطلاع لدى الاوربيين لزيارته.. اما تركز الرحلات في القرن التاسع عشر فيعود الى تظافر العوامل السالفة فضلا عن انتشار الوعي الجغرافي ووجود جهات داعمة تمول الرحلات كالمتاحف والجمعيات التاريخية والجغرافية والتبشيرية.. وقد تكون اهداف الرحلة عسكرية او لمجرد حب الاستطلاع كما في رحلة رئيس اركان الجيش الالماني المارشال هلموت فون مولتكة الاكبر الى الموصل عام 1838..وهي من الرحلات التي يندر التطرق اليها في المصادر والمصدر الوحيد الذي تناولها كان رسالة للمارشال مولتكة نفسه عثرت عليها باللغة الالمانية ضمن كتابه [رسائل حول اوضاع وحوادث تركيا منذ عام 1835 وحتى عام 1839] يتطرق فيها الى اقامته في كنيسة الكلدان في الموصل ويصف المدينة وفيما يأتي ترجمة لحديثه عن رحلته الى الموصل ووصفه لها بعد تقديم تعريفي به وبعصره ومنجزاته:
مولتكة في الموصل
رحلة الى الموصل ترجمها من الالمانية الدكتور ادمند فون ماخ
هذه الرسالة هي الثالثة والأربعين من تركيا وهي مؤرخة من جزيرة على نهر دجلة في الاول من مايس عام 1838:
(كنت اخبرتك في رسالتي الاخيرة بان علينا القيام بحملة ضد العرب [استخدمت بالمعنى العام والمقصود بها القبائل العربية التي تغير على القوافل المتجهة غربا والكردية التي تغير على القوافل المتجهة شرقا فضلا عن منطقة جزيرة ابن عمرعلى عهد الوالي اينجة بيرقدار محمد باشا في الموصل]، ولكن ذلك لم يتحقق..مع ذلك فلقد توفرت لي فرصة للتعرف على جزء غاية في الأهمية من البلاد..فقد شرعت بصحبة فون ميلباخ واغوين تركيين مدججين بالسلاح ارسلهما الباشا ومعنا خدمنا ومترجمينا برحلة على نوع من الزوارق يستخدم منذ زمن قورش وهو طوف [كلك] تسنده جلود اغنام منفوخة..وينزل الترك الصيد منزلة المحرمات ولهذا فهم لايأكلون لحم الغزلان والثيران ولكنهم يتناولون كميات كبيرة من لحوم الاغنام والمعز.. ويقطعون جلود هذه الحيوانات من جهة الامام [البطن] قطعا صغيرا قدر الممكن، ويزيلون الاحشاء باعتناء بالغ ثم يخيطون مكان القطع ويشدون بحبال النهايات المفتوحة من الجلد باحكام وعندما ينفخ الجلد ويحدث ذلك بسرعة وبدون ان يلمس الجلد الفم..يطفو فوق الماء ولايمكن اغراقه..ويربط الكلاكون مايتراوح بين 40 و60 قطعة بخمسة او اربعة صفوف من الجلد المنفوخ تحت لوحة خفيفة من اغصان الاشجار.. ويضعون ثماني قطع غالبا في مقدمة الكلك و18 قطعة في مؤخرته..ويتوسط الكلك هيكل اشبه بالمحفة المعمولة من الاوراق تغطيها الخرق او السجاجيد المتهرئة وتفرش من الداخل وتوضع فيها وسادات..وبجلوسنا في الكلك انحدر بنا بيسر وراحة .. ولأن التيار كان سريعا لم نحتج الى مجاذيف وتقتصر الحاجة اليها لغرض توجيه الكلك بابقائه وسط التيار وتجنب المناطق الصخرية الخطرة والضحلة في المجرى..لذا ترتب علينا الانتظار كل ليلة لحين ظهور القمر لنتمكن من رؤية معتورات المجرى، وكنا قد قطعنا على الرغم من ذلك مسافة يستغرق قطعها برا 88 ساعة، خلال ثلاثة ايام ونصف.. على ذلك كان النهر يجري بسرعة اربعة اميال في الساعة تقريبا ويكون سريعا في اماكن وبطيئا في اماكن اخرى.. ويغادر دجلة الجبال بالقرب من ارغانا-مادان [معادن ارغانا وهي منطقة مناجم النحاس والحديد والفضة كانت تابعة للأمبراطورية الأكدية والآشورية قبل ان تتحول للسيطرة العربية وبعدها للأقوام التركية المهاجرة اليها من وسط آسيا]، ليجري عبر اسوار دياربكر حيث يرتفع منسوب المياه في الصيف لأنه يتلقى مياه نهر باتمان المتدفق صوب الجنوب، ثم ومباشرة بعد التقاء هذين النهرين يدلف دجلة في اراض جبلية تتكون من الصخور الرملية عندئذ تحولت المنحنيات الهادئة للنهر العريض طفيف العمق الى زوايا ومتعرجات واد عميق حيث تبدو الشطئان اشبه بالجدران الصخرية شديدة الانحدار وقد تنتهي العين الى بساتين داكنة الخضرة في اعالي المرتفعات على جانبي النهر حيث يقيم قرويون بما يشبه الكهوف والمغائر التي توفرها الطبيعة في مثل هذه المناطق النائية..ثم مررنا بمدينة حسن كيف [حصن كيفا] التي تقع على صخرة عالية تتصل بالنهر بطريق درج ضيق وتقدم مشهدا نادرا فالمدينة القديمة في الاسفل قد دمرت ولايوجد سوى منائر قليلة مدببة باتجاه السماء بما يدل على ان بيوتا وجوامع كانت توجد في هذا المكان، ويبدو ان الناس قد ارغموا على الصعود الى القمة حيث شيدوا سورا دفاعيا يحمي الجهة المكشوفة الوحيدة.. وفي الوادي الضيق رأيت كتلا هائلة من الصخور التي دحرجت من المرتفع وقد قام الناس بحفر هذه الصخور لاستخدامها بيوتا يقيمون فيها.وتشكل هذه (الأكواخ) اليوم مدينة صغيرة تكونت كيفما اتفق وعلى نحو غير منتظم تماما مع ذلك نجد ان لهذه المدينة سوقا صغيرة.. وابرز معالم المدينة بقايا جسر عبر دجلة وهناك قوس عملاق يتراوح طوله بين 80 و100 قدم ولا ادري لمن يعود الفضل في تشييد هذا المنجز المعماري الجريء لملوك ارمينيا ام لملوك اليونان ام ربما للخلفاء المسلمين؟
من المستحيل ان يسافر المرء سفرا مريحا كالسفرة المتاحة لنا على هذا الكلك..فنحن نستلقي فوق وسادات من الريش والى جانبنا مانشتهي من اطعمة ونبيذ وشاي فضلا عن منقل نضع فيه الفحم عند الحاجة وكنا ننحدر في النهر بسرعة عجلة سريعة وبدون ايما اجهاد..غير ان العنصر الذي حملنا سرعان ما تحول لايذائنا في شكل آخر فقد كانت السماء تسح كأفواه القرب بدون توقف بعد مغادرتنا دياربكر..فمظلاتنا لم تعد تحمينا من المطر بينما تغلغلت المياه في معاطفنا وثيابنا والبسط التي نجلس عليها. وفي يوم عيد الفصح الذي وافق مغادرتنا الجزيرة، تدفق ضوء الشمس من بين الغيوم باعثا الدفء في اطرافنا المتشنجة.. وبعد ميلين من المدينة بدث خرائب جسر آخر عبر دجلة وكانت احدى دعاماته تتسبب بدوامة عنيفة حيثما يرتفع مستوى النهر..ولم تجد جهود رجال المجاذيف نفعا فسحبت كاريبديز[اشارة الى وحش في مسينا تقوم مع سيلا وهي وحش آخر بسحب السفن وسحقها في الاساطير اليونانية وقد تحول معناهما في الوقت الحاضر لتصبحا دوامتين كبيرتين مهلكتين] مركبنا الصغير بسرعة سهم فاصبحنا على حين غرة تحت الماء بينما غطتنا موجة عملاقة .. وكان الماء باردا كالثلج..وبينما واصل كلكنا طريقه بدون ان ينقلب في اللحظة التالية وكأن شيئا لم يحدث لم نقدر حبس ضحكاتنا احدنا على الآخر لأننا كنا في وضع بائس حقا فقد انقلبت المناقل وضاعت في المياه واسرع الجميع لألتقاط شيء اسقطته الدوامة في الماء.. فتوقفنا عند جزرة صغيرة.. ولأن حقائبنا كانت مثلنا مبللة تماما، ترتب علينا خلع ثيابنا ونشرها في الشمس لتجف قدر الممكن..فرأينا على البعد سربا من البجع وقد هبط للراحة على شاطيء رملي فارشا اجنحته تحت ضوء الشمس وكأنه يسخر مما حل بنا من معضلات..وفجأة راينا الكلك يجري مع الماء فقفز احد الاغوات بسرعة خلفه ولحق به لحسن الحظ.. ولو انه اخفق لكنا قد تركنا على تلك الجزرة النائية عراة لاغطاء لنا غير السماء..[يبدو انهم تركوا ثيابهم لتجف على ظهر الكلك]..
وعندما جفت ملابسنا بعض الشيء، واصلنا رحلتنا..غير ان تجدد زخات المطر افسد علينا النتائج المتواضعة لمحاولتنا السابقة [تجفيف ثيابنا]..وكان الليل شديد الظلمة بحيث توجب علينا التوقف وربط الكلك بالشاطيء خوفا من الأنجذاب في دوامات أخرى..وعلى الرغم من البرد القارص ولكوننا مبللين حتى الجلد، لم نجرأ بأيقاد نار خوفا من جلب انتباه العرب [لاتخلو الكلمة من تعميم لأن اقوام مختلفة كانت بالإضافة الى البدو، تغير بهدف السرقة، على القوافل والأكلاك ومنها الأكراد والأيزيدية وغيرهم]..فسحبنا بصمت كلكنا تحت صفصافة وانتظرنا بشوق الشمس لكي تبزغ من وراء جبال الحدود الفارسية لتبعث الدفء فينا..
وعلى مسافة غير بعيدة عن الجزيرة، دخل دجلة سهلا آخر مغادرا جبال [جبل] جودي الشاهقة بديعة المنظر ذلك الجبل الذي تدور الروايات على ان نوح هبط بصحبته من الاجناس المختلفة على قمته البيضاء المكسوة بالثلوج..لكن المشهد منذ غادرنا ذلك الجبل اصبح رتيبا فنادرا مانشاهد قرية مأهولة والقرى التي نراهاعند الشاطيء اما مهجورة او خرائب..من الواضح اننا دخلنا ارض العرب..إذ لاتوجد اشجار وحيث تجد شجيرة فأن المكان مزار او ضريح [هذا ينطبق على مناطق الأيزيدية لأن العرب لامزارات لهم في المنطقة].. ويكون الضريح او المزار مغطى برقع ممزوقة لا تحصى من الثياب لأن المرضى هنا يعتقدون انهم سيتشافون من المرض ان هم نذروا جزءا من ثيابهم للولي بطريق وضعها على الضريح او القبر.ثم شاهدنا على قمة جبل منعزل معتدل الارتفاع خرائب مدينة قديمة وعندما اقتربنا منها عبرنا بمحاذاة ثلاثة جوانب لهذا الجبل، ولعل هذه المدينة هي [بيزبدا] التي تذكر المصادر انها تقع في صحراء ويحيط بها دجلة من ثلاث جهات وان سابور [شابورالثاني المعروف لدى العرب بشابور ذي الأكتاف] حاصرها بعد استيلائه على عاميدا [دياربكر] وانه بعد استيلائه عليها بنى فيها حصنا فارسيا [تقع جزيرة ابن عمر وقلعتها التي شيدها الآشوريون واعاد اعمارها الرومان في المثلث العراقي السوري التركي ويحيط بها دجلة من الشمال والشرق والجنوب..ويذكر الرحالة توديللا ان الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قد شيد مسجدا من بقايا سفينة نوح فيها وذكر المسعودي ان آثار السفينة كانت موجودة فيها على وقته]..
وبعد تجاوزنا خرائب الموصل القديمة [اسكي موصل] لاحت قبل المساء منائر الموصل. وتلك ابعد نقطة وصلتها شرقا وقد استدار رفاق سفري الأتراك تجاه الغرب عند اداء صلاتهم بينما يستقبل المسلمون في القسطنطينية القبلة في اتجاه جنوبي شرقي..والموصل محطة مهمة تقع وسط الطريق بالنسبة للقوافل بين بغداد وحلب. وتقع في واحة وسط الصحراء مما جعلها في حيطة دائمة ازاء القبائل العربية [البدوية المغيرة]..والاسوار التي تحيط المدينة ضعيفة ولكنها عالية وتوفر حماية كافية ضد الجماعات غير النظامية من الخيالة البدو..وكان الباب العمادي الذي ورد ذكره منذ الحملات الصليبية، ما يزال قائما على الرغم من كونه قد بني ليصبح جزءا من السور..والبيوت مشيدة في معظمها من الطابوق المجفف في الشمس مع نوع من الملاط [جص] يتصلب في غضون ثوان..ويعلق اهل الموصل، اسوة بالمشارقة، اهمية كبيرة على الأبواب الكبيرة والمزينة بالزخارف..فقد رأيت ابوابا ترتكز على عقود معمدة من الرخام الذي يستخرج من اماكن قريبة من بوابات المدينة .. اما سقوف البيوت فمسطحة تحيطها ستائر واطئة..ورأيت في معظم البيوت الكبيرة آثار ضربها بالقذائف [الرصاص] وتشبه هذه البيوت التحصينات بما يذكرنا بقصور فلورنسا غير ان البيوت هنا اصغر وابسط واقل اكتمالا من الناحية المعمارية..
ويتألف سكان الموصل من خليط متنوع فبالأضافة الى السكان الكلدان وهم سكان المدينة الاصليين،هنالك العرب والاكراد والفرس والترك الذين توالوا على حكم الكلدان على نحو متعاقب [العبارة غير دقيقة لأن الفرس والكرد لم يحكموا كلدان الموصل ولا تؤيد المصادر وجود اسر فارسية في الموصل].. واللغة التي يتحدث بها اهل الموصل العربية..
وقد استقبلنا اينجة بيرقدار والي الموصل بحفاوة بالغة وامر بطريرك الأرمن [الكلدان] بأستضافتنا. ولاحظت ان النسطوريين واليعقوبيين لديهم اجمل الكنائس التي رأيتها في تركيا ولكنهم يعيشون في خلاف وكراهية..ورأيت ان احدى تلك الكنائس تعود ، ولأسباب اجهلها، لجماعتين مختلفتين ولأن اي شيء تقوم به الجماعة الأولى يعد كفرا في نظر الجماعة الثانية، عمدوا على تقسيم القوس الجميل وسط الكنيسة بجدار من الطابوق وفي مركز الكنيسة مباشرة..
وكان مضيفنا البطريرك اليعقوبي في حال من الاضطراب لا توصف لاستضافته هراطقة [يقصد هو وزميله فون ميلباخ كونهما ينتسبان لمذهب مختلف]، ولكنه فضلّنا كثيرا على النسطوريين والأورثودوكس ولأن مسيحيا لم يستقبل بمثل مااستقبلنا به من حفاوة من قبل الباشا وكان وجهاء المسلمين يتوافدون لتحيتنا والترحيب بنا، فكان يعاملنا بلطف كبير بل انه باعني نسخة من الانجيل باللغتين العربية والسريانية..
وفي الزاوية الشمالية الغربية للمدينة تنحدر الهضبة فجأة نحو النهر..هنا ترفع مياه النهر بوساطة برج عال من الخشب وخرطوم من الجلد وحبل يجره حصان ويفرغ الماء في احواض كبيرة من الطابوق ليوزع على البساتين والحدائق..ولكن المناطق الخالية داخل الاسوار والحقول المجاورة فقط هي المزروعة..ولو يستخدم جزء فقط من مياه دجلة المارة في الموصل لأغراض الري، لأصبح هذا البلد بأكمله من اخصب مناطق العالم..وقد حفزت هذه الفكرة بدون شك الناس منذ عصور لبناء سدود صخرية تعترض مجرى النهر لبضع ساعات فوق المدينة [كمشاريع سنحاريب الإروائية].. ومن المؤكد ان ارواء الحقول بمحاذاة دجلة كلها ليس بالامر الصعب، غير ان العرب [البدو] الذين يغيرون بصورة شبه دائمية حول المدينة يجعلون من الحصاد وجناية الغلال امرا غير مؤكد..
وكان هناك سوق مخصصة للعرب خارج سور المدينة مباشرة يبدو ان الهدف منها الحيلولة دون دخول تلك الشخصيات المثيرة للشكوك الى المدينة..
ويمتد فوق فوضى العديد من الاكواخ الطينية عدد من اشجار النخيل دقيقة الجذوع بسموق بهي تبدو انها آخر ملامح الصحراء.. وتشبه تلك النخلات القصب النامي الى ارتفاعات شجر..فهي الى الجنوب اقرب منها الى الشمال غير انها تعطي العرب ثقة الذين يشعرون انهم في أعالي بلاد الرافدين على الرغم من انهم لم يبتعدوا كثيرا عن المر [الكندر] والبخور في مواطنهم القديمة.. هنا يتجمع ابناء الصحراء جالسين القرفصاء راكزين رؤوس رماحهم في الرمال ليبدوا اعجابهم بالمدينة التي تثير لدى الاوربيين مشاعر متناقضة تماما لتلك التي تثيرها لدى العرب..والتي لايوجد مايماثلها عبر مئات من الاميال..
ولربما لانجد بين الامم امة حافظت على شخصيتها وعاداتها [تقاليدها] وأخلاقياتها ولسانها بدون تغيير عبر القرون كالعرب..وتمكنوا من ذلك على الرغم من التحولات العديدة الكبرى في العالم..فقد كان العرب امة من البدو والرعاة والصياديين يجوبون صحار نائية ومجهولة بينما نهضت مصر وآشور واليونان وبلاد فارس وروما وبيزنطة وسقطت تباعا..ثم وبدافع فكرة ملهمة نهض العرب بدورهم فجأة ليصبحوا ولعهود طويلة اسياد اجمل الوديان في العالم القديم فأصبحوا حملة الحضارة والعلوم.. فبعد وفاة النبي بمائة سنة، تمكن خلفاؤه المشارقة من بسط حكمهم من جبال الهملايا وحتى جبال البرنز ومن الهند وحتى المحيط الأطلسي..ولكن المسيحية بما فيها من اكتمال روحي ومعنوي بل وبما فيها من تعصب كان يترتب على اخلاقياتها الرفيعة ان تجعل منه امرا مستحيلا، تمكنت من اخراج العرب الى ديارهم مرة اخرى من اوربا [هنا ينتقد مولتكة التعصب اوحالة انعدام التسامح التي يرى انها ميزت المسيحية في العصور القديمة ويرى ان الوجود العربي تكرر في أوربا ربما في مقارنة مع توغل الفينيقيين بزعامة هنيبعل في روما وتأسيسهم لحواضر ومدن عديدة في اسبانيا وايطاليا وجزر البحر المتوسط]..وعملت القوة الغاشمة للترك على تقويض الحكم العربي في المشرق لذا وجد ابناء اسماعيل انفسهم في الصحراء مرة أخرى..
هؤلاء العرب الذين بلغوا شأوا عظيما في الحضارة والتمدن واستقروا في متابعة الزراعة والتجارة والصناعة انحدروا بسبب هيمنة الإستبداد لحكم الحديد..فقد تظافرت ممارسات اصطناعية لحكومة تحاول تقليد الطرائق الاوربية وبمساعدة الفرنجة انفسهم كاستقدام الإحصاء السكاني وفرض الضرائب والرسوم والاحتكارات وفرض التجنيد الإجباري وبناء الجيوش الدائمية ومقايضة المناصب وانشاء الكمارك والعبودية ومااليها من رذائل الشرق بالإضافة الى طاقة محمد علي وإرادته الجامحة وحظه الوافر، اقول تظافر كل ذلك بمنجز كبير واحد هو الطغيان الصروحي، وهو طغيان لا نظير له حيث يرزح تحت نيره الفلاح المصري بأوجاعه وينوء تحت وطأته العرب في سورية والذي تحول تحته بلدا باكمله الى ملكية خاصة وامة كاملة الى عبيد شخصيين..[ منطق مذهل يذكرنا بالكواكبي وبدعاة الثورة العربية اكثر منه بجنرال الماني..إلا ان مولتكة يعبر عن روح حرة ترفض القيد ومن هنا جاء انتقاده اللاذع للحكومتين العثمانية والألبانية في مصر]..
وعموما فإن العرب في معظمهم، على اية حال، بقوا متمسكين بتقاليدهم القديمة ولاسبيل للإستبداد من السيطرة عليهم..فقد عملت الصحاري العربية في آسيا وافريقيا وسمائهم اللاهبة وارضهم المحترقة بل وفقرهم على حمايتهم على الدوام فلم يكن حكم الفرس والرومان واليونان سوى شيء عابر وجزئي بل كان حكما اسميا فحسب..فالبدوي اليوم يشبه اسلافه في الماضي السحيق مازال يعيش حياة العوز والكد والإستقلال..يرعى في الوهاد نفسها ويسقي قطيعه من الآبار نفسها التي استخدمها اسلافه في زمن موسى او زمن محمد..[1]