هيوا حميد شريف
بعد انتهاء العمليات القتالية في الحرب العالمية الأولى بين دول الحلفاء والدولة العثمانية بتوقيع هدنة (مودروس) في 30-10- 1918، واستسلام الدولة العثمانية على شروط تلك الهدنة، حدثت تغيرات كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما تفكيك الدولة العثمانية، واخراج (العراق) من سيطرتها ودخوله تحت النفوذ البريطاني،
ونتيجة لهذه المستجدات عاد معظم الضباط العراقيين الذين كانوا يعملون في المؤسسات العسكرية والادارية في الدولة العثمانية الى العراق، للإسهام في بناء المؤسسات نفسها التي بدأ بها البريطانيون في العراق.
كان وهبي من أوائل الضباط العراقيين الذين عادوا الى بلادهم، وذلك في آب 1919، ولكن هناك رأي آخر يعتقد بأنه عاد الى العراق قبل هذا التأريخ، ويشير أيضاً الى مشاركته في حركة الشيخ محمود الأولى، التي أخفقت في 18 -06- 1919، إلا أننا نعد ما أورده هذا المصدر ليس دقيقاً، وذلك لأن المصادر الأخرى جميعها تتفق على ما ذكرناه، فضلاً عن وجود دليل آخر يشير الى هذه الحقيقة، وهو ما دوّنه (أدموندس) -المفتش الاداري لكركوك والسليماينة آنذاك- في مذكراته بهذا الصدد، حيث يقول:
((...ذات يوم قبل انتهاء مهمتي في السليماينة زارني شخص غريب، كان وقد عاد لتوه من تركيا، ومن ثم لم يكن مساهماً في الاحداث التي أوردناها – يقصد حركة الشيخ محمود الأولى- وقدم لي نفسه بتركية رقيقة أنيقة ولفظ اسمه بلهجة تركية أصيلة –توفيق وهبي رائد ركن- فاعجبت كثيراً بمظاهر كفاءته)).
ويظهر من ذلك أنه ليس لوهبي أية صلة بالحركة الأولى للشيخ محمود، وذلك لكون كاتب الرواية معاصراً لتلك الاحداث ومشاركا فيها، فضلاً عن أنهم –المسؤولين الانكليز- اكثر دقة في تدوين المعلومات.
هناك عدد من العوامل أدت الى بروز وهبي في الميادين (الادارية والثقافية والسياسية) بسرعة بعد عودته الى العراق، وتأتي في مقدمتها كفاءته وقابلياته وصفاته الشخصية التي أشرنا اليها سابقاً، ولكن ذلك وحده لم يكن ليكفي لبروزه السريع في تلك الميادين، بل هناك عاملان مهمان آخران تفاعلا معه، أولهما، ان البريطانيين ولاسباب شتى، كانوا يرغبون في أن يكون للكرد دورهم في حكم العراق بما يتوافق مع حجمهم ووزنهم الديموغرافي، ولا سيما ان الصراع على (مصير ولاية الموصل) كان سائداً في تلك المدة، فارادوا كسب الكرد في خضم ذلك الصراع، أما العامل الثاني فنحن نرى أنه يرجع الى قلة الاشخاص المتعلمين آنذاك، ومهد ذلك بدوره الطريق أمام وهبي وزملائه عقب عودتهم ليتبوأوا مناصب مهمة في مؤسسات الدولة، وفي هذا المضمار عين وهبي بعد عودته مباشرة بوظيفة الضابط السياسي في (رانية)، ولم يعثر الباحث على اية معلومات للتحدث عن دوره في تلك المدة ومن المرجح أن ذلك يعود الى قلة مدة بقائه في منصبه ﮪذا، إذ لم تتجاوز عدة أشهر.
وفي بداية سنة 1920 عين توفيق وهبي آمراً لقوات الليفي (قوة من (المجندين) ألفها الانكليز بعد الحرب العالمية الأولى في العراق من عرب وكرد وأثوريين، وكان أكثريتهم من الآخيرين، لمساعدتهم في المعارك والادارة، وظلت هذه القوة موجودة الى ان تم تسليم قاعدتي الحبانية والشعيبة الى الجيش العراقي سنة 1954) في السليمانية، وعلى حسب ما جاء في المصادر أنه لم يكن مستكيناً بوظيفته هذه، وفي شهر آذار من السنة نفسها انتخب لعضوية مجلس إدارة مدينة السليمانية، ومن المفيد أن نشير بأنه لم يكن على علاقة جيدة مع الادارة البريطانية هناك، على الرغم من تنصيبه في تلك الوظائف، ومن المرجح أن يكون ذلك بسبب لقاءاته وجلساته المستمرة مع عدد من الشخصيات السياسية في منزله، وكان عدد من هؤلاء، أعضاء في جمعية (سةربةخؤبوون – الاستقلال) السرية ، اسست هذه الجمعية سنة 1920، في السليمانية بطلب من (حمدي بك بابان)، ورشح لرئاستها رفيق حلمي، واستمرت الجمعية في عملها لحين عودة الشيخ محمود الى السليمانية في أيلول 1922. وكانت الشكوك بدات تراود الميجرسون – الحاكم السياسي البريطانية في السليمانية- حولهم فبث عيونه وجواسيسه عليهم، حتى تم اعتقال أحدهم وهو (ماجد مصطفى) ، ولابد من الإشارة الى أن وهبي على الرغم من علاقته القلقة بالادارة البريطانية هناك –كما ذكرنا لكنه أدى دوراً ملحوظاً في إطلاق سراح زميله، ويروي لنا ذلك (فؤاد عارف) في مذكراته، فيقول: ((أتذكر جيداً أن المرحوم توفيق وهبي بك اعطاني عريضة، لاسلمها الى الميجرسون الحاكم السياسي المقيم في السليمانية، أذ كنت طفلاً صغيراً، ونصحني الا أذكر له اسم الشخص الذي سلمني العريضة، فوقفت انتظر قدوم سيارته، فلما قدمت سيارته نزل الحاكم السياسي البريطاني الميجرسون منها، فسلمته العريضة وما كان منه إلا أن رفعني بكلتا يديه، قائلاً ((من سلمك العريضة؟)) قلت لا أدري، فضحك عالياً، فذهب وأطلق سراح خالي ماجد مصطفى)). ومما تجدر اليه الاشارة إن مضمون الرسالة التي بعثها وهبي الى الميجرسون لم يكشف النقاب عنها حتى الآن.
لم يمض على اطلاق سراح ماجد مصطفى إلا مدة قصيرة، حتى تمّ ابعاد وهبي من قبل الادارة البريطانية في السليمانية الى بغداد وذلك في 15 -06- 1920، وقد كتب أحد المقربين منه في مذكراته بهذا الصدد ما يأتي: ((لم يكن وهبي عضواً في جمعية ( سةربةخؤبوون – الاستقلال) ، إلا أنه استبعد مثل الآخرين، لانه كان شخصاً محبوباً وصديقاً ثميناً لدى الجميع، وذلك بفضل روحه الديمقراطية)). ولا شك أنه كانت لصفاته هذه وقربه من الشخصيات السياسية المذكورة أثر كبير في ابعاده.
دور وهبي في تأسيس الجيش العراقي:
من أهم المؤسسات التي شكلت بعد تأسيس الحكومة العراقية المؤقتة، هو الجيش العراقي، الذي أُسس في السادس من كانون الثاني سنة 1921 من جانب لجنة مؤلفة من ضباط عراقيين، ومن ضمنهم وهبي الذي قام بدور فعال، كما يظهر في كلمته التي القاها في 6 كانون الثاني 1956 بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتاسيس الجيش العراقي، وفيها يقول: ((كنت قد زرت المرحوم فخامة (جعفر باشا العسكري) أول وزير دفاع في أول وزارة عراقية، وهي وزارة المرحوم سماحة (عبدالرحمن النقيب) وقال لي ((إننا بحاجة الى وضع أسس جديدة للجيش، ولنبدأ بوضع ملاك لكتيبة خيالة وفوج للمشاة وبطارية للمدفعية)) فلبيت الطلب، فلم يكن من شيء أطيب الى نفسي من المساهمة في تلك الخدمة الوطنية، ان الاجتماع الرسمي الاول للمداولات في وضع الاساس للجيش جرى في يوم 6 من شهر كانون الثاني 1921، عقدناه مع طائفة ممتازة من الزملاء الضباط، إذ عقد في مبنى من المباني المطلة على نهر دجلة في الباب الشرقي ...)) وحينها قررت اللجنة المذكورة في هذا الاجتماع تأليف إنشاء أربع دوائر في وزارة الدفاع، وهي : الحركات، الادارة واللوازم، الطبابة، المحاسبات. وعين وهبي ضابطاً في دائرة الحركات العسكرية، وبقي في وظيفته هذه الى حين التحاقه بالشيخ محمود الحفيد في 25-07-ل 1922، وذلك لمساعدته في تشكيل حكومته الثانية في السليمانية، كما سنرى.
بعد مغادرته للسليمانية والعودة الى بغداد من جديد، بمدة قصيرة أعيد وهبي الى الخدمة في الجيش وعين آمراً لدار التدريب العسكري التي تم افتتاحها مجدداً، وبهذا يعد وهبي أول من أصبح امراً لهذه الدار، وفي بداية عام 1925 عين مديراً للحركات بوزارة الدفاع، ورقي في العام نفسه الى رتبة مقدم.
ان نجاح وهبي في أولى مهامه التي اناطته بها وزارة الدفاع أهلته لأن يناط به منصب آخر مهم، عندما اختير في السادس عشر من تموز 1925(، ليصبح امراً للمدرسة العسكرية الملكية، التي اصبحت تعرف فيما بعد باسم (الكلية العسكرية) ، وبقي في منصبه هذا حتى الخامس من نيسان 1930.
كان لجهده واخلاصه في وظيفته الجديدة هذه، اثر في تطور الدراسات العسكرية في الكلية، باسلوب يتوافق مع روح العصر، وذلك بفضل خبراته الواسعة في هذا الميدان، كما تخرج تحت اشرافه كثير من الضباط الكبار في الجيش العراقي، وكان فخوراً بتدريسه معظم الذين حملوا رتبة لواء فيما بعد.
عني وهبي خلال عمله آمراً للكلية العسكرية عناية خاصة بمستوى الضباط في الجيش العراقي، واشرف بنفسه على اختبار الضباط خلال جولاته الميدانية الى المناطق المختلفة في العراق، وفي هذا الصدد، نشرت جريدة (ذيان-الحياة) في عددها الصادر يوم السابع عشر من مايس 1928، خبراً عن وصول كل من وهبي آمر الكلية العسكرية و(بكر صدقى) الضابط الركن في الجيش العراقي الى السليمانية في 10 مايس 1928، لاجراء امتحانات ضباط الفوج هناك، وبعد اكمال مهمتهم عادوا الى بغداد في 15-05- 1928.
وبناءً على الارادة ملكية المرقم (156) الصادر في 16 -07- 1929، رفع وهبي الى رتبة عقيد، وفي العام نفسه أوفد في بعثة الى انكترا، فشارك بدروة الضباط الأقدميين ببلدة (شيرنس) لمدة أربعة أشهر، وظهر فيها بمستوى رفيع وحصل على شهادتها بدرجة امتياز.
لقد تصاعدت حدة المواجهة بين الكرد و الحكومة العراقية من جديد، عندما نشر خبر عقد المعاهدة الجديدة بين الحكومتين العراقية و البريطانية في 30 حزيران 1930، حينها ازدادت مخاوف الكرد وقلقهم على مستقبلهم السياسي، حيث كانوا يخشون من ان تعهد الحكومة البريطانية بادخال العراق الى عصبة الأمم دون قيد أو شرط، مما قد يؤدي الى إهمال الضمانات المنصوص عليها بحقهم في المعاهدات السابقة وكذلك التي أوصت بها عصبة الأمم، لذلك اتخذ الكرد موقفاً مناهضاً وحذراً تجاه المعاهدة منذ بدايتها، ثم تطور الامر الى اضطراب الاوضاع في مناطقهم ولا سيما في السليمانية.
ومن أجل تهدئة الأوضاع أقدمت الحكومة العراقية على اتخاذ عدة خطوات، منها قرارها بجعل اللغة الكردية لغة رسمية في المناطق التي يوجد فيها الكرد، وفي مجال المعارف تم فصل معارف لواء اربيل عن معارف لواء الموصل، ومعارف لواء السليمانية عن معارف لواء بغداد، واسست دائرة خاصة للمعارف الكردية داخل مركز كركوك.
ومن الإجراءات الاخرى التي اتخذتها الحكومة العراقية في هذا السياق، هو تعيين وهبي متصرفاً للسليمانية، وذلك بعد أن اتخذ مجلس الوزراء في اجتماعه المصادف 28-04- 1930 قراراً بهذا الشأن، ثم صدرت بذلك ارادة ملكية تحمل الرقم (105) في 30 نيسان من العام نفسه وجرى تنفيذ هذه الارادة من لدن وزارة الداخلية في 6 -05- 1930.
وقد قوبل تعين وهبي بترحاب كبير وفرح غامر في الأوساط الكردية ولا سيما في مدينة السليمانية، ونشرت عدد من الجرائد والمجلات خبر تعيينه بفرح وسرور. وتوجه وهبي مع عقيلته (آسيا خان) ليلة العاشر من شهر مايس من بغداد الى السليمانية، فحضر لإستقباله جمهور كبير من أهالي السليمانية حتى ان قسماً منهم وصلوا الى كركوك. وقد عبر وهبي ايضاً عن سروره وفرحه بتعينه هذا، وذلك في خطبته التي القاها لمستقبليه في طريق وصوله الى السليمانية، والتي وصل اليها في 10-05- 1930.[1]