صلاح سليم علي
تعد زيارة وليم فرانسيس اينزوورث بصحبة كريستيان رسام الأولى للموصل 1836- 1837جزءا مكملا لحملة جاسني الفراتية وقد تناولها ضمن كتابه [حملة الفرات: رواية شخصية 1888]، وهي غير زيارته الثانية بين عامي 1839و 1840التي غطاها في كتابين اولهما [رحلات وبحوث في آسيا الصغرى وبلاد الرافدين وارمينيا]، والذي يتضمن دراسة جيومورفولوجية للموصل ضمنها ملاحظات سابقة..
كما الف كتابا ثالثا عن رحلته عنونه: [بحوث في بلاد آشور وبابل وكالديا كجزء من جهود الحملة الفراتية 1838]، وتناول ادبيات الرحلة الفراتية في كتاب رابع عنونه:[رحلات في أثر العشرة آلاف يوناني، 1844]، وفي كل زيارة يضيف معلومات جديدة على المعلومات التي غطتها زيارته السابقة او كتابه السابق..
وفيما يأتي وصفه للموصل كما ورد في كتابه [حملة الفرات: رواية شخصية والذي يحمل تاريخ اصدارعام 1888 . وفيما يأتي حديث أينزوورث عن الموصل:
كان السيد رسام من أهالي الموصل، وكان غائبا عنها لسنوات عديدة فاستقبلنا في بيت عمه [وربما يقصد خاله لأن الكلمة الأنكليزية قد تعني عم او خال] وكان يشغل وظيفة مهمة لدى الباشا، في افضل احياء المدينة..ولم اكن بسبب ظروف الزيارة، ارغب بالضغط على صديقي الطيب [كريستيان رسام] لنغادر [الموصل] باسرع وقت [ ليتيح المجال لكريستيان في رؤية اسرته ورؤية اسرته له]، فاسترحنا على الرغم من اني لم اجد من احدثه مما تسبب بإزعاجي قليلا ..وكان السيد رسام [هرمز رسام] شقيق السيد [كريستيان رسام] الذي ساعد فيما بعد السير اوستن هنري لايرد في تنقيباته في نينوى وتميز هو ايضا بأستكشافاته، شابا صغيرا واعدا بالغ الوسامة، ولم اكن أفكر في ذلك الحين ان قدري سيقتضيني امضاء اشهرا في انتظار ذوبان الثلوج في الجبال في مكان ضيق كهذا...حيث يترتب الحصول على حاجات الحياة اليومية كاللحم والطيور [الدجاج] والبيض والحليب، والخضراوات كالبيذنجان والباميا والرز والذرة والقمح والطحين والشوفان وكل ذلك من زراعة الريف الموصلي، ولكن شيئا من النبيذ أوالبيرة أوحتى العرق لم يكن متوفرا.. والشراب الوحيد المتوفر هو الحليب بتحولاته واشكاله المتنوعة [لبن شنينة، الخ] والقهوة والنرجيلة.
وبعد زيارة روتينية للباشا، اخذني رسام الى كنائس الموصل الكلدانية والسريانية الكلدانية والرومانية الكاثوليكية واليعقوبية ..ولأنهم طوائف مضطهدة فإن كنائسهم تقع تحت مستوى الأرض ويدخل اليها بدرج وبعد تجاوز ازقة متعرجة ضيقة، وذلك للحيلولة دون دخول الخيالة الأتراك اليها لأنهم [الأتراك] غالبا مايستخدمون المقابر الموجودة فيها كاسطبلات لخيولهم.. ولاحظت ان الكنائس كلها تعترف بسيادة البابا ماعدا اليعقوبيين ونجد فيها صورا وزخارف اما الكنائس اليعقوبية ففيها قليل من ذلك..والكنائس عينها صغيرة جدا وكل منها تتفاخر، بسبب عدم وصول الطباعة، بنسختها من الكتاب المقدس..ورأيت مخطوطة للكتاب المقدس تعود الى 609 للميلاد ومازالت في حالة جيدة ويسيرة القراءة..وكنت اتشكك بتاريخها ولكني لم أشأ تشويه حسن استقبالهم لي بشكوك منبوذة ولأن ذكريات المسيحية المبكرة تحفها عواطف شجية..وكنت قد تأثرت كثيرا بمشهد امرأة حفرت على قبر ابنها حزامه وهو رمز لعبادة اهوارامزدا [المجوسية] وخنجره الصغير ومحبسه وكتابه...وكان المحبس ومابرح تعويذة او رقية من السحر..ونحن نفترض بأننا قد تجاوزنا تلك المعتقدات بصفتها خرافات قديمة ، ولكنها مازالت تربط الناس احدهم بالآخر من خلال لمسات صغيرة مألوفة وهي من الصغر بحيث تغيب كثيرا عن ملاحظتنا مع ذلك فلها وزنها الهائل بما لها من دلالة وقوة..وليس لمثل هذه الأشياء صلة او ان صلتها طفيفة بعبادة الله بل وتعتبر مشؤومة ان هي وضعت فوق تلك العبادة فتعد لذلك السبب مجرد خرافات..ونحن نؤكد اننا لانتأثر بتلك الخرافات القديمة، ولكن مع ذلك لا نقدر ان نتقدم للخطوبة بدون خاتم زواج...فانا احب الخرافات لأنها تربط الناس بأواصر غير مباشرة ولكنها قوية في الوقت نفسه..والمسيحي الذي يموت خارج اسوار الموصل، لايسمح لأهله بأن يدفنوه داخل المدينة..ولعل السبب يعود في جانب منه بالأرجح الى احتياطات صحية، ولكن جانبا من السبب [نصفه] يعود الى الإزدراء بالنصارى..فعندما توفي المرافق الطبي لكلوديوس ريج في مخيمه دفن خارج اسوار المدينة
[ المقصود الشاب كارل بيلينو مساعد كلوديوس جيمس ريج ورائد العلوم الاشورية معه وليس مرافقا طبيا لعدم وجود مرافق طبي لكلوديوس جيمس ريج]، ولكن المحمديين [المسلمين] لايدفنون، كقاعدة، موتاهم في المدينة ولكن هناك استثناءات لأن في كل جامع مقبرة ملحقة حتى في القسطنطينية..ولكنهم يفضلون تخصيص ارض خاصة في ضواحي المدينة وجعلها مدفنا لموتاهم..ويفضل الأتراك ان تكون مدافنهم على الجانب الآسيوي بدافع توقع طبيعي جدا لديهم..[ربما لشعورهم ان الجانب الآخر يقع في أراض اوربية مسيحية وبذلك يكون ابعد عن القبلة]..ولايدفن المسلمون ميتا في مكان خصص لميت آخر..مما يجعل المقبرة أوسع كثيرا أحيانا من المدينة نفسها..
وفي يوم 21 آذار قمت بإختبار مقالع الرخام الشهيرة في الموصل بل وحتى في بغداد فرأيت انها من الجبس ولكنها ليست بالدرجة نفسها من النقاء والشفافية كرخام مدينة زنوبية.. وأفضلها الرخام الأبيض بلون الثلج وهناك ايضا الرخام الأبيض الضارب الى الزرقة والرخام الأبيض الضارب الى اللون الرمادي، ولكن رخام الموصل محضن بأرضية صلدة وليس مصدعا ومشققا كالجبس الخشن الذي يحرق ليصنع منه مسحوق الجص [بلاستر باريس]، وتجد فوقه طبقة أحفورية قشرية من الحجر الجيري تحتوي على قواقع من الصدف القمعي..وهناك، على اية حال، وبغض النظر عن المهاد الجيولوجي الثلاثي [الذي يقابل عصر الطوفان] المميزلأرض الموصل، هناك تماثل في تركيب الأملاح الطبيعية والأحفورية للموصل مع التكوينات التريتونية لأحواض باريس وبوردو..
وكان هناك في الموصل في ذلك الوقت [بالنسبة الى وقت الكتابة] ديرا ومصلى يعود للآباء الدومنيكان [ويقصد بها كنيسة الطاهرة للسريان الكاثوليك البيعة العتيقة في محلة حوش الخان وهي غير كنيسة الساعة لللاتين التي شيدت لاحقا 1866]، وقد لحق الخراب في ذلك الدير [البيعة] ولم يعد مأهولا ولكنه موضع احترام وبقي كل مافيه على حاله..ولربما بسبب ماتحقق من شهرة لنينوى بسبب الأكتشافات الآثارية، عاد الرومان الكاثوليك لتأكيد وجودهم في الموصل..ولكني لا أدري، لأن المكان [البيعة] يبدو وكأنه قد هجر البارحة، فالورود الإصطناعية مابرحت في مكانها على المصاطب والشموع والشمعدانات مازالت في مكانها..وتوجد مكتبة تحتوي قرابة مائة مجلد أكثرها كتب دينية بالأيطالية .. وبعضها كتب طبية. وهناك صيدلية صغيرة ملحقة بالمكتبة..ولكن الأدوية لم يمسها أحد..واكثر الملامح المثيرة للأهتمام مقصورات القسسة، إذ تبدو في منتهى البساطة والفقر، وأكثرها تاثيثا مقصورة رئيس الكهنة التي تحتوي على أريكة [كنبة] خشبية ومنضدة وبساط مساحته حوالي ياردتين مربعتين مع وسادة يستقر فوقها الكتاب المقدس..وفوق هذا المكان المنفرد المخصص للراحة لوحة منقوشة للقديس دومينيك تحيط بجبينه هالة من نور..
وفي الرابع من آذار زرت آثار نينوى ووضعت خريطة للمكان والأماكن المحفورة فيه والتلال المختلفة التي قدمت للمنقبين في الآونة الأخيرة أثرى حصاد من اللقى والتحف الأثرية..
وفي الخامس [من آذار] قمت بزيارة عددا من عيون الماء الكبريتية شمالي الموصل، بالقرب من الضفة اليمنى لنهر دجلة [عين كبريت]..وهناك في جانب من حافة صخرية يوجد مالايقل عن أحدى عشر طبقة صخرية مختلفة اكثرها قوة الطبقة الجبسية..ويبلغ عدد العيون تسع في قاعدة حافة الصخرة حيث يكثر الحجر الطيني القيري مع تكوينات هايدوكسيدية وبيروكسيدية تتحلل لتصبح كبريتا بسبب وجود الهايدرو سلفريت الذي يتفاعل مع الهواء..والزاوية الشمالية الشرقية من الموصل، بالقرب من هذه العيون والواقعة ضمن الأسوار خالية من السكان على الرغم من كونها مرتفعة على المدينة. وفي هذا الفضاء المفتوح هناك، مع ذلك، عدد من المواقع الخربة المهمة وابرزها برج أو حصن مربع يشكل جزءا من السور المواجه للنهر[باشطابيا] ولكنه في وضع خرب للغاية. وهناك ايضا كنيستان الأولى للكلدان والثانية للسريان وكلتيهما في وضع جيد ففي كنيسة القديسة مريم [الطاهرة في الشفاء] جدار حسن الصنع من مرمر الموصل، وتقع خرائب دير على البعد هو دير مار كبرئيل [ولعله الخربة التي يسميها اهل الموصل تل الشويطين لبعدها وعدم ارتياد منطقتها ليلا وهي غير دير مار ميخائيل الذي اشار اليه المؤرخ أزهر العبيدي ويقع في حاوي الكنيسة ومنه تسمية الحاوي المجاور لدجلة، ويبدو ان أينزوورث لم يكن واثقا من التسميات إذ يخبرنا في كتاب آخر في زيارته الثانية للموصل أن باشطابيا وهي هيكل غريب غير مأهول في الطرف الشمالي الشرقي من السور شيدت فوق خرائب كنيسة مسيحية هي مارجبريل]، (غير أن الطابع المسيحي لموصل القرن التاسع عشر يتأكد من كثرة الكنائس والأديرة التي حول العديد منها الى جوامع)..وهناك ، والحديث لأينزوورث، منارة تسمى الطويلة [منارة الحدباء] وفيه ميل واضح في استقامتها..
ويحتضن سور نينوى تلا كبيرا يحتوي كل شيء وتل النبي يونس الذي يحتوي ضريح النبي يونس والذي لم يكتشف وهو يؤلف [مع تلقوينجق] القسم الملكي والمسور للمدينة..ولا تتفق هذه الأبعاد بالأبعاد التي قدمها ديودوروس سيكولوس قطرا يعادل تسعة اميال و760 ياردة، والمدينة خارج السور لعلها كانت تمتد بمحاذاة النهر باتجاه يارمجة [ وهذا صحيح فقد كان نهر دجلة يجري الى جانب السور الغربي لنينوى]،وفي السهل الممتد باتجاه خرسباد [مدينة سرجون الثاني]،وفي اعالي النهر تكتلات من الحجر الجيري لم يبنى فوقها شيء..ولكن يمكننا رؤية آثار القنوات القديمة المنشقة من نهر الخوصر..والإشارة في الكتاب المقدس الى رحلة يونس التي استغرقت ثلاثة ايام حول المدينة هي من غير شك الى مايمكن ان يستغرقه التجوال في المدينة باقسامها المختلفة وليس الدوران حول سورها فحسب..
وكان في نيتي القيام بسفرة الى الحضر، وقمت بمساعدة رسام بالترتيبات مع عدد من العرب لمرافقتي ولكن الشمر كانوا في عصيان ضد رشيد باشا وقد ساقوا قطعان الغنم من اسوار المدينة مما جعل العرب الذين اتفقنا معهم لمرافقتي يرفضون الرحلة المزمعة مما اضطرني على تغيير خططي وعبور جسر القوارب في اليوم نفسه الثامن من آذار فسرت بمحاذاة الضفة صوب النمرود..وبعد ميلين اسفل الجسر مررنا بقرية يارمجة المشيدة على اوابد خرائب قديمة تمتد حتى النهر وتدخل فيه في مكان كان يشكل يوما وبدون ادنى شك ضاحية من ضواحي نينوى ان لم يكن جزءا لايتجزأ من مركزها..
يبدو من قراءة ادبيات الرحلة في الموصل ان معظم الجوامع ومنها الجامع الكبير وجامع النبي يونس، كانت كنائس او اديرة قبل ان تشاد عليها جوامع، مما يشير الى ان القبائل العربية ومنها قبيلة تغلب كانت نقلت مظاهر مسيحيتها الى الموصل في بداية الفتوحات الإسلامية، وان وجودها قد تعزز لاحقا بطريق هجرة النسطوريين الى الموصل من آسيا وبخاصة الهند وأيران فضلا عن آسيا الصغرى.. ولعل كثيرا من المنشقين على الجيوش الصليبية وردوا الموصل في القرن الثاني عشر للنجاة بأرواحهم ولكون الموصل كانت آنذاك مهادا آمنا للطوائف والأديان المختلفة..كما نواجه في مطالعتنا للأدبيات نفسها اسماء لاوجود لها في الوقت الحاضر كمنطقة الحراقية الممتدة بين الدندان والشهباز والجوسق والدواسة، او أيوان علي القدوم او الجدوم الذي ورد في معرض حديث كرانت ولاوري عن الموصل وكنت خلته انه في منطقة بستان الفستق أمام المستشفى العسكري او الثكنة العثمانية سابقا، واليوم يضعه أيزوورث في منطقة الغزلاني بالقرب من مرقد محمد الغزلاني ويسمي المنطقة المجاورة دير الغزلان [فمن هو او ماهو علي القدوم اوالجدوم؟ هل هو احد المجذوبين ام الصوفية ام شيخ عشيرة ام هو مكان لمسجد او لتكية بدليل كلمة ايوان او هو اسم حي سكني بأسم شخص شهير لقبائل وفدت الموصل من الريف المجاور، سبق احياء النبي شيت والبقارة والعكيدات أم هوشيء آخر أو ان الكلمة تصحيف لكلمة أخرى؟ المصادر هنا صامتة تماما ولاسيما العربية منها!]...وفي قراءتنا لرحلة اينزوورث الثانية الى الموصل التي وصلها في ربيع عام 1840، نلاحظ انه اضاف الى المعلومات التي اوردها في رحلته الأولى [1836-1837]، تفاصيل جديدة كحديثه عن قرة سراي وعن تفاصيل الإدارة والإقتصاد والزراعة والتجارة في الموصل وجوانب من تاريخها وأوابدها.. وعن تنفيذه لرغبته بزيارة الحضر التي لم يتمكن من زيارتها خلال رحلته الأولى، وهنا ننتقل الى كتابه الثاني [رحلات وبحوث في آسيا الصغرى وبلاد الرافدين، وكالديا وأرمينيا] الذي يصف فيه رحلته الثانية الى الموصل لتغطية رحلته الى الحضر قبل العودة مواصلة رحلته الأولى الى الموصل:
(وصل الموصل عرضا اثنان من الرحالة الإنكليزهما السيد لايرد والسيد [ادورد] متفورد [وكانا يقصدان سيريلانكا لايرد ليعمل محاميا ومتفورد ليجد حظوظه في التجارة] مما يسر علينا تشكيل مجموعة قوية لزيارة آثار قلعة الشرقاط، اور الفرس، [وتلك تسمية لا أدري كيف وردت في نص وذهن اينزوورث، واي صلة للفرس بالشرقاط العربية او بآشور]، على نهر دجلة وحضر الكلديين او أترا الرومانية في صحراء بلاد مابين النهرين..وهذه المواقع كان قد زارها الدكتور[جون] روس [المقيم البريطاني في بغداد وكان قد التقى بواليس بج في اثناء اقامته في الموصل وكتب مقالا عنونه [رحلة من بغداد الى اوبيسالحويش او القيارة ]، والكابتن لنج [قائد الحملة الفراتية خلفا لجاسني..وكان لنج بصحبة الدكتور ايدن قد واصل رحلة السفينة فرات بعد غرق السفينة دجلة من عانة الى الموصل مرورا بالحضر أما د. روس فقد قدم الحضر من بغداد فهاجمه بعد وصوله مباشرة الشمروكانوا سيقتلونه ورفقته لولا ان احدهم تعرف عليه وقال انه حكيم طبيب بغداد ] وهكذا فقد أضطر روس الى قطع رحلته فجأة بسبب مضايقات العرب، اما الكابتن لنج فقد مر بالموقعين فحسب ومالدينا من تفاصيل عن مرورهما يكفي للإثارة فحسب..ولكم يعد امرا محببا ان يقوم عالم آثار مخضرم يصاحبه رسام بزيارة هذه الآثار [الحضر وقلعة الشرقاط] فيقدمان للعالم تصويرا صحيحا للمنحوتات والصور المختلفة ذلات الهمية التاريخية الكبرى، لذا كان لرغبتنا الحثيثة للأستقصاء ومعرفة المزيد دافعا قويا يعطي رحلتنا الى تلك الأوابد معنى خاصا يدعو الى الأرتياح والرضى..وكانت جماعتنا تتألف من السيدين المذكورين [لايرد وميتفورد] والسيد [كريستيان رسام] وانا وجاء برفقتنا صديقنا القديم العربي التونسي الذي كان قد صاحبنا في رحلتنا من أورفا الى الحدود التركية بالقرب من ماردين ليغادرنا هناك في طريقه الى راس العين، التي حدثت بقربها حادثة بعد وقت قصير مع الشمر الذين تمكنوا من الحاق الهزيمة بفرقة مصرية من الخيالة ..وقد تخلى صديقنا الحاج علي عن فرسه لينجو بحياته ولجأ الى الموصل حيث دخل في خدمتنا كسائس للخيل، كما صاحبنا قواص ارسله محمد باشا [بيرقدار] معنا وكان باشا الموصل قد اهداني حصانا قويا نشطا لقاء مساعدتي الطبية له..وقد خدمني هذا الحصان خدمة كبيرة في رحلتي هذه وفي رحلتي الكلدانية.. شرعنا بالسفر يوم السبت الموافق 18-04-1840 عبر سهل مزروع جنوبي الموصل..وفي هذا الوقت من السنة كانت سنابل الشعير الربيعي قد نضجت وابرزت اشجار التين واللوز والتوث اورادها ولكن اشجار الفستق كانت في مرحلة التبرعم..وعلى الضفة الرملية للنهر تتفلق نباتات الرقي عن ازهارها ..وكانت طيور القطا والحمام قد عادت من مهاجرها..ولأن مياه النهر كانت مرتفعة، اضطررنا على الدوران حول المرتفع الصخري الى الغرب من القصر كما في خارطة لنج والذي يعرف في الموصل بقصر السيراموم..[ويقابل في الجهة الثانية من النهروالى الأسفل قليلا قرية يارمجة التي يسكنها الشبك والتركمان] وهو قصر ريفي قديم كان باشوات الموصل يقيمون فيه وربما يستخدمونه لسفراتهم في مواسم الربيع..والمرتفع الصخري الممتد في هذا المكان بمحاذاة دجلة يشكل النهاية الجنوبية الشرقية لسلسلة تلال واطئة تستمر في اتجاه شمالي غربي وتعرف بالجبيلة [الجبلة] ويتراوح عرضها بين ستة وتسعة أميال. ويوجد على حافة هذه التلال المجاورة لضفة دجلة مخزون من الكبريت في حواضن من الحجر الجيري..وتكسو حوافي الصخور والوديان في هذه [الجبلة]نباتات زاهية في وفرة الأعشاب وتنتشر في المفازات الخضراء أزهار الحوذان [شقائق النعمان] وأعشاب أخرى مركبة صفراء ذهبية تنشر بتعارض ألوانها في هذا الوقت من السنة الحيوية في ضفاف دجلة والفرات حيثما تكون اطرافهما صخرية..وبعد عبورنا الجبلة ومغادرتنا لقرية البو جواري أي والد العبيد من النساء[ وهذه ترجمة حرفية مغلوطة لكلمة البوجواري التي تعني في اصلها التجاور وتعود الى هجرة هذه القبيلة من اليمن واستقرارها الى جوار ضريح النبي ص في المدينة المنورة] الى يسارنا، انحدرنا في سهل غريني آخركتلك السهول على ضفاف دجلة والفرات وتسمى ، سواء أكانت مزروعة ام تغطيها الأدغال، بالحاوي. والحاوي الذي نحن فيه مزروع ويحتوي قرى العريج اي مصغر الأعرج [وهذه ترجمة حرفية ومغلوطة ايضا لأن العريج تسمية لأحدى القبائل القاطنة في القرية وأكثرها العكيدات]، وكبر العبد أي قبر العبد [والترجمة حرفية ايضا ولكن التسمية صحيحة وربما تعود الى عبد دفن في المنطقة او الى آثار عثر عليها فيها]..ويوطن القريتان عرب يرعون الآن قطعانهم في [الجبلة]..
وفي نهاية هذا السهل [الحاوي] ترتفع الأرض حيث يقع حمام العليل وقرية حمام العليل التي أسكن فيها باشا الموصل عددا من الكلدان ليقوموا بزراعة الأرض [ والأرجح انهم من النازحين من شمالي العراق هربا من مذابح ميركور الرواندوزي عام 1838]..
وتغطي عين الحمام بناية تكفي لأناس انصاف همج على الرغم من ان المكان يرتاده اشخاص من طبقات راقية من الموصل وبغداد..ويبدو ان العين قد تغير مكان خروجها من بناية خربة تتدفق تحتها على مسافة 150 ياردة من موضعها الحالي [ الأرجح ان هناك أكثر من عين واحدة] والمياه وفيرة جدا تحتوي على حامض هايدروكبريتي وتعطي الكثير من القير..وطعمها باهت اما درجة حرارتها فتبلغ 84.6 فهرنهايت [ مايعادل 29 درجة مئوية]، وتصدر عين الماء الساخن من حجر جيري خشن الحبيبات.. والى جانب حمام علي [حمام العليل] تل يبلغ ارتفاعه حوالي 60 قدم يسمى تل السابق اي تل المنتصر في إشارة الى معركة حدثت بقريه [ وهذا نقل سماعي مغلوط فيما يبدو، لأن التل اسمه تل السبت كما ذهب المؤلف..وهو تل تحيطه خرافات منها ان الصعود اليه ييسر للعذارى فرص الزواج والأرجح انه تل أثري آشوري يقع في الجهة اليمنى لدجلة في مواجهة النمرود التي تشاهد بوضوح من حمام العليل]..ومن ذلك التل تمتد سلسلة من التلال الواطئة لمسافة 300 ياردة صوب الجنوب الغربي حيث ترتبط بخط آخر يتألف من صفين من التلال الواطئة تتوسطهما خفضة من الأرض تستمر باتجاه شمالي غربي حتى الحاوي، ويبدوأن هذه الخطوط الشبيهة بالدفاعات الطبيعية مانت تحتضن يوما قرية او موقعا مهما أخذت مكانه مجموعة من الأكواخ المتواضعة ولعلها كانت مدينة تيسلفتا التي ذكرها أمانيوس وجاء الميجر رنل على ذكرها بأسم تيساسفلتا اي مكان الأسفلت..ولكن تتبع مصادر أخرى يقودنا الى ان هذا الأسم يشير الى مكان شمالي الموصل وليس جنوبها [ربما عين زالة]..
وفي 19 نيسان غادرنا حمام العليل وعبرنا حاويا واسعا تتوسطه قرية صفاطس التي يسكنها عرب من قبيلة الجحيش اي صغير الحمار، ومن هنا تسمية القرية في خارطة لنج جيوش [مرة أخرى نلاحظ ترجمة حرفية لقبيلة الجحيش العربية وتصحيف للكلمة في خارطة لنج لدجلة]، ثم دلفنا الى يمين القرية الخربة جهينة او جهنم وهو اسم أثار توقعاتنا، ولكن كل ماوجدناه بضعة بيوت قديمة أفضل من غيرها تقع الى جانب خاصرة الحاوي من جهة الغرب. [ لا ادري من اين جاء اينزوورث بكلمة جهنم سوى التماثل الصوتي بين جهينة القرية والكلمة المستخدة باللغة الإنكليزية لجهنم حيث تكتب وتلفظ بدون حرف الميم، وجهينة اسم لقرية غربي حمام العليل تقع الى الغرب منها اطلال مدينة عباسية.[1]