ازهر العبيدي
وجدت في مدينة#الموصل# خلال فترة الحكم العثماني (1516 – 1918) أنواع متعددة من القوات العثمانية، عرف منها في أواخر القرن السادس عشر الميلادي نظام (الإنكشارية) أو (الينكجرية)، والكلمة الأخيرة تركية تعني (الجيش الجديد)، وتتألف من مقطعين (يني) أي جديد أو محدث، و(تشري) بمعنى جيش أو جند أو عسكر.
ونظام الفرسان الإقطاعيين الذي يعرف ب(السباهية) مفردها (سباهي) أي فارس، ويعتمد هذا النظام على تجنيد الإقطاعيين مع فلاحيهم للقتال إلى جانب الإنكشارية، وبموجبه قسّمت الأراضي الزراعية إلى وحدات مختلفة الدخول والمساحات، وخصّت ما تجبيه منها من ضرائب متنوعة بالفرسان الذين شاركوا في احتلالها كلاً بحسب أهمية منصبه، إذ يطلق على الوحدات الصغرى اسم (تيمار)، والوحدات الوسطى اسم (زعامت)، أما الوحدات الكبرى فتسمى (خاص) وتمنح لكبار القادة أو الوالي نفسه.
ويحصل الضابط المسؤول عن التيمار على 99,999 آقجة (وهي مسكوكة عثمانية من الفضة) راتباً سنوياً، والضابط الأعلى المسؤول عن (زعامت) على 199,999 آقجة، وتزيد واردات (خاص) على 300,000 آقجة. وكان على صاحب الإقطاع (السباهي) أن يؤدي الخدمة العسكرية للدولة مقابل تمتعه برسوم إقطاعه، فيذهب إلى ميدان القتال لوحده مع تابع مسلح كامل العدة، فإذا ما زاد دخل الإقطاع عن المبلغ المحدد أعلاه أعفي صاحبه من الذهاب إلى الميدان ويرسل أتباعه المسلحين بدلاً منه. وفي السلم يتولى أولئك الفرسان إدارة إقطاعاتهم وما فيها من مدن وقرى كحكام مدنيين بحسب تدرج مراتبهم العسكرية، وعلى هؤلاء السباهية والأتباع أن يحافظوا على مستوى تدريبهم العسكري ما دامت وراثتهم للإقطاع متوقفة على مقدار ما يمكن أن يقدموه إلى الدولة في الحرب.
أما الإنكشارية فيوزعون إلى أورطات أي فرق تتكون كل أورطة من 300 – 500 شخص من المشاة حاملي الأسلحة الخفيفة من السيوف والخناجر والقسي والسهام ومن بعدها البنادق. ومنهم (الطوبجية) أي المدفعية ومن أسلحتهم طوب أبو خزامة والهاون والباليمز والزنبرك واليان صاجة وقوغوش والمدافع القالعة. و(الأكمكجية) وهم المسؤولون عن التموين والنقل والخدمات الأخرى. وكان المنتسبون إلى فرق الإنكشارية يجندون ويدربون على وفق نظام امتازت به الدولة العثمانية في ذلك العصر، وفيه كانت الدولة تصادر خمس الأطفال الأصحاء من بعض ولاياتها في أوروبا الشرقية فيما عرف بنظام (الديوشرمة)، ثم تدخلهم في مدارس خاصة يلقنون فيها الثقافة الإسلامية والتدريب على الخدمة المدنية والعسكرية، ثم يختار المتميزون منهم في فنون القتال لينظموا في الأورطات (تتألف الأورطة من ثلاث كتائب). ويقيم هؤلاء على الأغلب في ثكنات محصّنة تدعى (قشلة)، أو في الأحياء السكنية نفسها كما كان في الموصل إذ لم تكن لهم ثكنة أو قشلة في السابق. ويعد منصب القائد العام لأورطات الإنكشارية (أغا الينكجرية) في المدينة هو المنصب العسكري الأعلى فيها، ويرتبط بالوالي من جهة وبالقائد العام للإنكشارية في اسطنبول، ويتقاضى الإنكشارية رواتبهم نقداً من خزينة الولاية.
ومن القوات الأخرى (اليرلية) أو (البراطلية) وهم مشاة أيضاً يتشكلون من قوات (القابي قول) وعناصر متطوعة محلية تسعى للحصول على الامتيازات. و(القابي قول) أي عبيد الباب وكانوا يرتدون (القالبالق) وهو غطاء خاص للرأس، وهم عساكر السلطة النظاميون المرسلون من اسطنبول لدعم الوالي والسلطة، ومن الطبيعي أن يحدث صدام بين هاتين القوتين لتضارب مصالحهما. و(الدالاتية) أو (الدلجة) نوع آخر من القوات المرتزقة من المشاة تعود أصولهم إلى الأناضول وكرواتيا والبوسنة والصرب، و(دلّي) كلمة تركية تعني مجنون أو متهور وهي الصفة التي عرفوا بها. ولم تكن الدولة تدفع لهم رواتب محددة بل كانوا يتعيشون في عرض خدماتهم عليها وتنفيذ بعض المهام التي تكلفهم بها، ومن الغزو والسلب في بعض الأحيان. فضلاً عن قوات قبلية دائمة من زبيد وربيعة وطي والعبيد والعزة والجنابية والمنتفق وبني لام وغيرهم.
أما قوى الأمن الداخلي فقد كان للوالي قوة خاصة به تعرف ب(التفنكجية) وهم حاملو البنادق، ومهمتهم حفظ الأمن والقيام بأعمال الشرطة. وانحصر منصب رئيس هذه القوة وراثياً بأسرة (آل شويخ) وآخر من تولى هذا المنصب فيها هو (عمر أغا) وعرفت الأسرة ببيت عمر أغا لحد الآن ومن أحفاده اللواء الركن سعد الله الطائي قائد الفرقة الرابعة الأسبق. وفي أواخر القرن التاسع عشر قدّر عدد (الجندرمة) و(الضبطية) (وهو الاسم الجديد للتفنكجية) بأكثر من (400) فرد، ونظمت على هيئة (استراسوار) أي الخيالة و(البيادة) وهم المشاة. وتكمن واجباتها في حماية الأمن وتوفير الطمأنينة وجمع المسوقين للخدمة واستدعاء الاحتياط وجمع الضرائب وحماية قوافل المسافرين ومطاردة قطاع الطرق وحراسة السجون. ولم تكن هذه القوة متقيدة بالنظام ويديرها ضباط أميون، ولا تدفع لهم المرتبات الشهرية بانتظام، ومعظم أفرادها كانوا مراسلين وجباة للضرائب وخدم للموظفين الكبار، وليست لهم المقدرة على مطاردة اللصوص والمرتشين، لذلك غلبت الفوضى واضطراب الأمن والرشوة على أعمالهم.
وفي النصف الأخير من القرن السابع عشر الميلادي وأوائل القرن الثامن عشر ضعفت المؤسسة العسكرية العثمانية بسبب ضعف السلطة المركزية للدولة وفقدان الضبط الروحي والعسكري للقوات مما ساعد على انخراط العراقيين من سكان المدن من الحرفيين والتجار في المؤسسات العسكرية بعد أن كان ممنوعاً في الفترات السابقة، واستطاعت قوى اجتماعية موصلية التغلغل في مؤسسات السباهية، كما تمكنت جماعات أخرى أن تنفذ إلى نظام الإنكشارية نفسه إذ لم يبق في أورطات الإنكشارية الخمس إلاّ سكان الموصل أنفسهم ولذلك هناك أسر موصلية تحمل لحد اليوم ألقاب وتسميات قادة هذه القوات مثل: بيت ألآي بكي وبيت اللاوند وبيت السباهي فضلاً عن الجندرمة والجاويش.
وخلال عهد الولاة الجليليين (1726 – 1834) كان في الموصل خمس أورطات (أوننجي، يكرمي يدي، أوطوزبير، اللي أيكي، اللي سكز)، وشهدت الموصل قتالات عدة (قوغات) بين بعض هذه الفرق، منها المعارك الطاحنة التي دارت بين محلتي الميدان وباب العراق ( تلفظ محلياً باب عغاق) اللتان كانت تسكن فيهما فرقتي أوطوزبير ويكرمي يدي. وبذلك طغى نظام الأصناف التي ينتمي إليها هؤلاء على التنظيمات العسكرية العثمانية، ففقدت هذه المؤسسة طابعها وأهدافها في الضبط والدقة في تنفيذ الأوامر، ولم يعد قادتها (الأغوات الإنكشارية) يستجيبون لأوامر الولاة إلاّ فيما يحقق مصالحهم.
لذلك دعت الحاجة في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي إلى إلغاء هذه المؤسسات القديمة وإحلال مؤسسات عسكرية قوية، وأنشأ والي بغداد حسن باشا مدارس عسكرية ضمّت عدداً من أطفال المماليك المجلوبين من خارج البلاد، فضلاً عن عدد كبير من أبناء الأسر العراقية الكبيرة. ويلحق المتخرجون بعد إنهاء دراستهم وتدريبهم بصفوف ما يعرف بأغوات الداخل (إيج أغاسي) أي الضباط العاملين تحت إمرة السراي مباشرة، ويتولى قيادتهم في حالات السلم (الخزندار) أي الضابط الموكل بالحسابات، كما يتولى هذه المهمة في أثناء الحروب (السلحدار) أي حامل السيف ومحافظ الأسلحة وهو ضابط برتبة كبيرة. وفي أواخر القرن الثامن عشر نجح رجال هذه المؤسسة في تشتيت بقايا الأفواج الإنكشارية.
وزاد من قدرات هذه القوات رفدها المستمر بالعديد من الأفواج التي عمادها المتطوعون من السكان، وكان يتم اختيارهم على أساس كفايتهم في استعمال السلاح، ولم يكن لهذه الأفواج صلة إدارية أو مالية أو عسكرية بالدولة العثمانية، ومن هذه الأفواج (اللاوند) وهي جملة أفواج أنشأها الوالي حسن باشا وخصص لهم الرواتب من خزينة الولاية، وبنى لهم ثكنة ضخمة عرفت ب(خان اللاوند). وربطت هذه الأفواج بالقيادة العسكرية للجيش الجديد المؤلف من خريجي المدارس العسكرية، وكان عددهم يتراوح بين 1000 – 1500 فارس مسل. و(السكمانية) وهم الفرسان من حملة البنادق، ويتميزون بكفايتهم العالية في استعمال السلاح الناري وحسن التصويب.
وفي سنة 1835 شهدت الموصل أول محاولة للتجنيد الإلزامي في العراق ثار بسببها الأهالي ورفضوا تطبيق القانون العسكري، وللحد من ثورتهم أرسل الوالي إليهم المدعو (قاسم أفندي) ليدعوهم إلى الطاعة فقتلوه. وبقتله أحضر محمد اينجه بيرقدار عشرين مدفعاً وصوبها اتجاه المدينة وأرسل بعض الكتائب النظامية فدخلوها وسفكوا دماء الأبرياء من الأهالي ونهبوا أسواقها. وكانت الخدمة العسكرية محصورة بالمسلمين من التبعية العثمانية، أما غير المسلمين فيدفعون البدل النقدي، وبعد الانقلاب العثماني 1908 عدل قانون التجنيد وشمل جميع أفراد الدولة العثمانية بدون استثناء.
وبعد سنة 1848 شهدت الموصل محاولة لتنظيم الجيش إذ تم إعلان تشكيل الفيلق السادس، وأصبحت مدة الخدمة العسكرية عشرين سنة تبدأ من سن العشرين للفرد وحتى سن الأربعين، وتشمل خدمة نظامية إجبارية مدتها أربع سنوات ثم قلصت إلى ثلاث سنوات، وخدمة رديفية أو احتياط مدتها ست سنوات ثم أصبحت 12 سنة، وخدمة مستحفظة مدتها ثماني سنوات وهي تكملة للرديفية، وبذلك يقضي الفرد غرة شبابه في هذه القوات وقد يقتل في أحد المعارك المتواصلة خارج وطنه. وكانت في الموصل الفرقة (34) مشاة من الفيلق السادس، ويتبعها اللواءان (47 و48). وأدخلت تعديلات في نظام الجيش سنة 1913 اتخذت فيها الموصل مقراً للفيلق الثاني عشر المكون من الفرقة (35) ومقرها في الموصل، والفرقة (36) ومقرها في كركوك. وعانى أفراد الجيش من تدني الأوضاع الاقتصادية والمعاشية، إذ كان ما يتقاضاه الجندي في الشهر لا يزيد إلى ثلاثة قروش، وفي بعض الأحيان لا يستلموا الرواتب لمدة تزيد عن سنة.
عانى الموصليون من نظام التجنيد الإلزامي العثماني معاناة كبيرة، وفقدت الأسر الموصلية عدداً كبيراً من أبنائها في الحروب العثمانية بعيداً عن أرض الوطن، إذ سيق الآلاف من الشبان إلى جبهات الحرب الروسية في القفقاس التي سميت ب(السفر بر)، ومات العديد منهم بسبب البرد القارص والثلوج فضلاً عن الإنهاك والجوع وتردي الخدمات الإدارية. وكان نظام (القرعة) المتبع في ذلك الحين من أسوأ نظم التجنيد، فقد كانت الواسطة والرشوة تتحكم في اختيار الجنود المكلفين، إذ كانت الطريقة المتبعة أن تجرى القرعة بين المواليد المقرر سوقها للخدمة، فتقع القرعة على من لا يملك الأقارب المتنفذين أو المبلغ الذي ينقذه من الموت في خدمة الدولة المحتلة. وفي ولاية نامق باشا الكبير الثانية (1859 – 1867) أمر بإلقاء القبض على السراق وشاربي الخمر والعاطلين وتجنيدهم وإرسالهم مخفورين إلى البصرة ثم إلى اليمن بحيث أصبحت الخدمة العسكرية عقاباً بعد أن كانت شرفاً وفخراً).[1]