د . سلمان درويش
علي الغربي
ولدت عام 1910 في قضاء #علي الغربي# الواقع على نهر دجلة لواء العمارة-العراق وكان والدي رحمه الله((يعقوب رحمين درويش)) تاجر اقمشة بالجملة والمفرق وهو من اصل كردي من قلعة اربيل اما والدتي((تفاحة نسيم طويق)) فبغدادية وهي الزوجة الثانية لوالدي بعد وفاة الاولى((مسعودة قمر)) عن اربعة ابناء وبنتين.
وأكثرية سكان علي الغربي البالغ عددهم حوالي الثلاثين الاف نسمة من الشيعة انحدروا من(دسبول) في ايران ويليهم السنة، وهناك عدد من الاكراد جاءوا من جبل((حسين قلي خان))-بشكتوه- وهو امتداد لجبل حمرين الواقع على الحدود العراقية- الايرانية.
اما اليهود في علي الغربي فلم يتجاوز عددهم العشرين عائلة، ويبدو ان اليهود استقروا في المدن والقرى الجنوبية من العراق كالعمارة، وقلعة صالح، وعلي الغربي بعد سنة 1870م.
والشيعة في علي الغربي كغيرهم من الشيعة محافظون متعصبون يعتبرون اليهود انجاساً، فيبتعدون عنهم ويتحاشون الاختلاط بهم وحتى لمسهم باليد، ولايسمحون لهم بالجلوس في المقاهي معهم مما اضطر اليهود الى فتح مقهى صغير خاص بهم على قلتهم.
وفي سنة 1918 وبعد انتهاء الحرب العالمية الالولى فتحت حكومة الاحتلال اول مدرسة في القضاء، وكان يطلب من اليهود الجلوس في مقاعد منفصلة في الصفوف، ويؤمرون بالخروج من الصف في دروس الدين والقرآن الكريم، وكانوا يلفونه بالقماش لمنع اليهود من رؤيته.
وكانت وزارة المعارف قد فتحت دورات خاصة في بغداد لتأهيل المعلمين الذين وزعوا على الاقضية والنواحي، وكان نصيب علي الغربي الكثير من خيرة المديرين والمعلمين، منهم الاديب احمد حامد الصراف، وعبد الستار فارس، ويونس الصافي وغيرهم من لا اتذكر اسماءهم. ولتشجيع التلاميذ على الالتحاق بالمدرسة عينت مديرية المعارف((الملا عبد)) لتعليم الكتابة والقرآن لابناء القضاء المسلمين، كما عينت المعلم اليهودي((ابو لحية)) الذي وصفه اخي شالوم في كتابه((بيضة الديك)) ص 45-46 ليعلم الابناء اليهود قراءة التوراة واصول الدين. واستمرت الحكومة على دفع رواتبهما عدة سنين اسكاتاً لمعارضة قد يثيرها احد المتعصبين ضد المدرسة والمواضيع التي تدرس فيها.
وبين الاوائل الذين اتموا دراستهم الابتدائية او القسم منها في علي الغربي الطيار ناصر حسين الجنابي، ومدير المعارف عبد الوهاب الركابي، والثري المرحوم ماير عبد الله، والقاص شقيقي شالوم. وقد درست انا ايضاً في مدرسة علي الغربي ثلاث سنوات. واهالي علي الغربي وما جاورها من رجال العشائر عرفوا بالاخلاص للوطن والشجاعة وخوض المعارض والقتال. ومن اهازيجهم التي وصلتني اخيراً:-
يا علي الغربي والكمر يربي
والتفك يثور والفشك يدري!
عائلتي
كان والدي قد توفاه الله وانا في العاشرة من العمر وقد ادركت مما سمعته عنه من والدتي واخوتي انه كان من المحافظين الذين يؤمنون بأن القديم يجب ان يبقى على قدمه، بعكس والدتي البغدادية التي كانت تتردد على العاصمة كلما سنحت لها الفرصة لزيارة اخت لها وثلاث اخوة وتتحدث عند غودتها عما استجد في بغداد وتجلب معها ما يمكن شراؤه رغم معارضة والدي المبدئية، وعبثاً حاولت حمله على ترك علي الغربي والنزوح الى بغداد، ولم يتم لها ذلك الا بعد وفاته وانقضاء سنة الحداد عليه..
وكان والدي رجلاً تقياً ورعاً نال اسماً طيبا وسمعة حسنة في معاملاته التجارية مع مسلمي ويهود القضاء، كما عرف بسخائه وحسن ضيافته للذين لجأوا الى علي الغربي من اليهود خلال الحرب العالمية الاولى.
واسجل هنا حادثة سمعتها عنه: فعندما كان هؤلاء اليهود الفارون من الخدمة في الجيش العثماني وقد دعوا بالافرار يصلون الى علي الغربي عن طريق جبل قلي خان، كان والدي يستضيفهم في دارنا لعدم وجود فندق في القضاء، وغالباً ماكانوا يقضون أياماً معدودة ثم يغادرون الى بغداد في اول فرصة سانحة. واتفق مرة ان عدداً منهم لم يستطع مغادرة علي الغربي على عجل لاسباب أمنية، لذا فقد تقدموا الى والدي ورجوه قبول اجرة مناسبة لقاء السكن والغذاء وغسل ملابسهم وتوعدوه اذا ما رفض طلبهم بمغادرة علي الغربي وبالرغم من مخاطر قد تؤدي بهم الى الهلاك. وقبل والدي العرض بعد تردد وشرعوا بدورهم يقدمون المطالب اليومية للحصول على ما يريدونه من مأكل وملبس، حتى اذا ما خلال لهم الجو واصبح من المستطاع العودة الى بغداد، وضع والدي في حقيبة كل واحد منهم صرة النقود التي دفعها له، وكان قد احتفظ بها على انفراد، وكان من الواضح انه قد تظاهر بقبول ما دفعوه له كي لا يخجلوا من طلب ما يريدون وما يحتاجون اليه من خدمات بحرية تامة وبدون تردد.
اما المرحومة والدتي فقد كانت تتردد على بغداد دوماً وتطلع على ما يستجد فيها في شتى المجالات، واما نساء القضاء، مسلمان كن ام يهوديات، فكن يستشرنها في كثير من امورهن الاجتماعية والصحية. وسأقتصر هنا على ذكر حادثتين فقط كمثل لما كانت عليه من حصافة الرأي وحسن التصرف:-
فعند الطفولة كنت واخواتي واخي شالوم نجتمع كل صباح حول موقد يعمل بحرق الاخشاب للتدفئة في الشتاء القارس، ولاعداد شاي الافطار.
وفي صباح احد الايام مست اختي خشبة الموقد بلا تعمد فانسكب الماء المغلي على ذراعي الايمن وسبب لي حرقاً كبيراً عالجه الطبيب الانكليزي المتنقل، الذي كان يزور علي الغربي بين حين وآخر، خلال مدة جاوزت الشهرين حتى اذا ما شفي الجرح خلف عطلاً في مفصل المرفق ادى الى عدم استطاعتي فتحه اكثر من زاوية قدرها حوالي الخمسين درجة بدلاً من ال 180 درجة الاعتيادية.
وقرر الطبب الزائر ان يجري لي عملية جراحية لفتح مفصل المرفق المحدود الحركة ووعد بتنفيذ ذلك لدى زيارته القضاء بعد اسابيع قليلة..
كنت في سن السابعة حينذاك وقد عانيت آلاماً شديدة حتى شفي الحرق فأخذني الخوف لدى سماعي عن العملية الجراحية فغافلت من في الدار وكانت تقع على ضفة نهر دجلة وأردت القاء نفسي في النهر والتخلص من آلام لابد وان تسببها العملية الجراحية المقترحة فأدركوني واعادوني من الساحل بعد ان تعهدوا لي بعدم اللجوء الى الجراحة ابداً.
وهنا طر لوالدتي ان تلتجيء الى العلاج الطبيعي وأخذت تأمرني برفع الاثقال بيدي اليمنى ووزيادتها يومياً مع التدليك ووضع الكمادات الحارة ومحاولة فتح المرفق اكثر فأكثر يومياً. وبان التحسن واستمر العلاج دون هوادة حتى عادت حركة المرفق الطبيعية بعد مدة قاربت الشهر..
وجاء الجراح الانكليزي مع سكاكينه ومقاصيصه وادويته حسب وعده وناداني لفحص الذراع للمرة الاخيرة قبل اجراء العملية الجراحية وتظاهرت بالخوف والصياح وبدأ في فتح المرفق بكل عناية وحذر وحينذاك فاجأته بفتح المفصل كاملاً فدهش لما رأى، وشكر والدتي لما قامت به وهو يتلعثم خجلاً والتمس طلب حضورها عندما كان يقوم بفحص نساء القضاء او كان يرجوها فحص من كن يرفضن السماح له بفحصهن داخلياً، فتعود وتصف له بكل دقة ما تعثر عليه من ظواهر غير طبيعية وبعئذ يصف العلاج.
اما الحادثة الثانية فهمي ان احد الاقارب اشترى من المزايدات في دائرة الكمرك في بغداد صندوقاً يحتوي على اوراق القمار بصورة منفرطة وغير معبأة في علبها الخاصة بها فجاء بالصندوق الى دارنا وكانت قريبة من مخزنه ورجانا مساعدته لصف الاوراق واعادتها للعلب بصورة مضبوطة. وبعد اتمام العملية التي استغرقت النهار كلهقالت له والدته وكانت بين الحاضرين: عسى ان يسهل الباري فتبيع بضاعتك بسرعة. وسمعت والدتي دعاءها فقالت لها معاتبة:-
لقد تخرج ولدي سلمان طبيباً فدعوت له بالنجاح في التخفيف عن آلام العباد وسرعة شفاءهم، ولم يخطر ببالي ان ابتهل الى الله تعالى لزيادة رزقه والثراء من مهنته لأنني اعلم علم اليقين ان ازدياد رزقه معناه كثرة المرضى وازدياد آلام الناس، وانت تريدين ان يسهل الله على ولدك فيبيع اوراق القمار بسرعة، ولكن هل قدرت عدد البيوت التي قد تخرب بسبب لعب القمار؟
في بغداد سنة 1921
وصلنا بغداد في مركب من المراكب التي كانت تسيرها شركة بيت اللنج في نهر دجلة واستغرقت السفرة اسبوعاً كاملاً وسجل اخي شالوم هجرتنا هذه في قصته((قافلة من الريف)) وكنا نعاني من ضائقة مالية خانقة بعد ان سرق مخزن البضاعة العائد الى والدي في علي الغربي، ثم السطو على الدار وسرقة ما فيها من نقود ومصاغات وحلي ذهبية وأدوات فضية وهي كل ما ادخرته والدتي.
والتحقت مع شالوم اخي صباح اليوم الثاني لوصولنا بغداد بمدرسة دينية هي((مدراش تلمود تورا)) وهي اكبر واقدم مدرسة يهودية افتتحت في بغداد سنة 1832 بقينا فيها سنتين، ثم انتقل بعدها شالوم الى المدرسة الوطنية، وانتقلت انا الى مدرسة راحيل سحمون. وفي السنة الدراسية 1924-1925 الزمت وزارة المعارف جميع المدارس الاهلية تطبيق المناهج الدراسية الحكومية والاشتراك في الامتحانات الرسمية العامة. وفي سنة 1925-1926 الدراسية نلت الاولية على جميع تلامذة العراق واقامت مدرسة راحيل شحمون حفلة خاصة بهذه المناسبة دعي اليها المرحوم عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء، ومحمود الطبقجلي متصرف بغداد وعدداً من كبار موظفي المعارف ومن الشخصيات اليهودية المعروفة في مقدمتهم المرحوم مناحيم صالح دانيا، وقد لي رئيس الوزراء ساعة يد ذهبية ثمينة ما زلت احتفظ بها... وسنة 1926-1927 الدراسية نال تلميذ يهودي آخر من الحلة هو سلمان منشي الاولية على جميع تلامذة العراق ايضاً وكلانا درس الطب بعدئذ، وانتقل الدكتور سلمان منشي الى رحمته تعالى في حادثة سيارة في اسرائيل سنة 1970.
عن كتاب ( كل شيء هاديء في العيادة ).[1]