لقاء فتحي العبادي
المؤرخ #الموصل# الراحل احمد الصوفي ، صاحب المؤلفات الرصينة ، عدد من المؤلفات التي لم تزل مخطوطة ، وهي جديرة بالتحقيق والنشر ، ومنها مخطوطته : تاريخ وعبر الموصل في اواخر العهد العثماني .
حرص الصوفي على الحاق مخطوطته بثلاثة ملاحق : تضمنت مواضيع واحداث مهمة شهدتها مدينة الموصل خلال حكم الاتحاديين وبداية الاحتلال البريطاني للموصل ، وتأتي أهمية تناوله لها في أن الصوفي كان معاصراً لأحداثها وواقفاً على تفاصيلها ، اذ في الملحق الأول تناول حادثة مقتل الشيخ سعيد البرزنجي في الموصل عام 1909م قال عنها ان مقتل الشيخ سعيد البرزنجي ونجله الشيخ أحمد وعدد من ذويه في الموصل كانت من الحوادث المحزنة التي وقعت بعد اعلان الدستور العثماني عام 1908م ، مما زاد من خيبة الآمال التي كانت قد علقت على الاتحاديين وبدلاً من ان يحققوا المبادئ التي جاءوا بها في الحرية والمساواة والعدالة اتجهوا الى تشديد قبضتهم على زمام الأمور ن وشرعوا يبطشون بالأبرياء ويدبرون المكايد لاغتيالهم ولاسيما من الموالين لعهد السلطان عبد الحميد الثاني فقد شرعوا بتصفيتهم وكان في مقدمتهم الشيخ سعيد البرزنجي الذي كان يتمتع بمركز ديني اكسبته حظوة السلطان عبد الحميد الثاني وثقته الذي كان يجد ان الشيوخ واصحاب الطرق الصوفية تاثيراً كبيراً في تعزيز حكمه في البلاد لهذا قربهم اليه واستجاب للعديد من مطالبهم . ثم تناول كيف حيكت مؤامرت قتله من قبل الاتحاديين وكانت أول فصولها اصدارهم امر يقضي بوجوب ترك الشيخ سعيد وذويه السليمانية لأنهم أصبحوا خطر على الأمن في مدينة السليمانية وان يتوجهوا إلى مدينة الموصل حتى اشعار آخر ، فامتثل الشيخ سعيد للأمر وجاء إلى الموصل هو وذويه وخدمه ونزل في الدار الواقعة في شارع القشلة (العدالة) العائد إلى محمد باشا الصابونجي المقابل للمدرسة الاعدادية الشرقية .
ظل البرزنجي في الموصل ، وفي مساء اليوم الثاني من عيد الأضحى لعام 1909 وهو اليوم الذي وقعت به الحادثة التي مفادها في اليوم الثاني من عيد الاضحى عام 1909 كان الازدحام على اشده في ساحة باب الطوب بمناسبة العيد كانت تلك الساحة مزدحمة بالمتفرجين من رجال ونساء وشباب واطفال وباعة متجولين وكانت النساء قد أخذت طرقا خاصة من الساحة ، وقد حصل نزاع بين احد افراد الجندرمة من الخيالة (الاسترسوار) وكان ثملاً فتعرض لامرأة حينما كان الازدحام على اشده وتفاقم النزاع بين الجندرمة وبين الاهالي وتجمع افراد الجندرمة وتحصنوا يطلقون الرصاص من بنادقهم على الاهلين فقابلهم الاهلون بعد ان تسلحوا بالمثل واستمر اطلاق النار بين الطرفين مما ادى الى وقوع عدد كبير من القتلى والجرحى وقد حاول والي الموصل ارجاع النظام والهدوء الى نصابه الا ان دائرة الفتنة اتسعت وفي اليوم التالي انتشرت اشاعة مفادها ان ما وقع من الاعتداء على الاهالي من قبل الجندرمة كان بايحاء من الشيخ سعيد مما اثار الاهالي الذين تسلحوا وتوجهوا نحو الدار التي يسكنها الشيخ سعيد وقد حاول الشيخ سعيد الدخول الى سرايا الحكومة الا ان الابواب اغلقت في وجهه عمدا فهجم عليه احد الاشخاص وقتله في حين اتجه آخرون الى داره فاقتحموا ابوابها وقتلوا الشيخ احمد احد انجاله وعددا من ذويه ونهبوا الدور والمخازن وقد ساد المدينة جو من عدم الامن هذا فضلا عن صدى هذه الحادثة في كردستان ذاتها ، ولم يكتف الصوفي بمعلوماته عن الحادثة وما أورده عبد المنعم الغلامي عن الحادثة في كتابه الضحايا الثلاث وانما عمد إلى جمع معلومات أخرى جمعها من المطلعين على كيفية نشوء هذه الفتنة ، ومن خلال قراءتي للروايتين اجد ان نقطة الخلاف بين ما أورده الصوفي والغلامي تكمن فيمن تحرش بالمرأة ، فالغلامي يذكرانه بهاء أفندي بن عبد الله حين كان ثملاً ، في حين أورد الصوفي انه أحد أفراد الجندرمة من الخيالة (الاسترسوار). وما يهمنا من الروايتين ان الشيخ سعيداً أو أحداً من أولاده ليس له علاقة بالموضوع . والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا يكون مصيرهم القتل ، لذا فان أصابع الاتهام تتجه نحو الاتحاديين الذين دبروا وقوع هذه الحادثة عندما عمدوا إلى بث اشاعة مفادها ان ما وقع من التجاوز والمصادمات
بين الأهالي وأفراد الجندرمة بعد حادثة اثر كبير في نفوس أهالي الموصل اذ غدت تاريخاً يؤرخون عليه الأحداث وعرفت ب(دقة) الشيخ سعيد والدقة تعني (الحادثة) .
وفي الملحق الثاني ، يتناول الصوفي حادثة مقتل الشيخ عبد السلام البرزاني وأراد من خلالها ان يعزز نظرته الى الاتحاديين الذين ابتعدوا عن مبادئهم ، لأن السبب الرئيس في اعدام الشيخ عبد السلام الثاني في الموصل عام 1914م هو دعوته بضرورة اجراء الأصلاحات في المناطق الكردية ويشاركه بهذه الدعوة كل من الشيخ بهاء الدين النقشبندي في العمادية ، والشيخ نور محمد القادري وبعد المناقشات والمداولات التي دارت بينهم قرروا ارسال برقية الى مجلس النواب والأعيان في العاصمة يطالبون فيها بجعل اللغة الرسمية في الأقضية الكردية الخمسة اللغة الكردية ، وجعل لغة التعليم الابتدائي والموظفين الآخرين ممن يحسنون اللغة الكردية ومطاليب أخرى في اصلاح الطرق وفتح المدارس . الا ان الحكومة الاتحادية عدت هذه المطاليب تمرداً على الدولة وقامت بتهيئة قوة لضرب الشيخ عبد السلام البارزاني وزحفت على بارزان وخربت تكية البارزانيين ، وحرقت قراهم .
وبصعود حزب الحرية والائتلاف عمد والي بغداد ناظم باشا إلى اصدار عفو عن الشيخ عبد السلام البارزاني وتعويضه عن الخسائر التي لحقت به واراد الوالي من ذلك ان يجعله قوة يرتكز عليها الحزب في مجابهة جمعية الاتحاد والترقي . الا ان الأمر لم يدم طويلاً فسرعان ما عاد الاتحاديون الى تولي السلطة مرة أخرى ليعود الخلاف من جديد بينهم وبين الشيخ عبد السلام البارزاني الذين دفعوا باحد عملائهم وهو درويش عبد الله رئيس أحد أفخاذ عشيرة الشكاك لاستدراجه واستضافته في قريته وما ان لبى الشيخ عبد السلام ورفاقه الدعوة حتى تم القاء القبض عليهم وزجهم في السجن العسكري في الثكنة العسكرية ، ثم أحالوا عبد السلام وأعوانه إلى المحكمة العرفية العسكرية التي عقدت جلساتها ووجهت اليه تهمة العصيان المسلح في وجه الدولة والسعي الى الانفصال عنها وتشكيل دولة كردية ، وجرت المحاكمة بصورة شكلية ، فحكم على الشيخ وثلاثة من جماعته بالاعدام شنقاً ، ولأن الدستور العثماني ينص على أن حكم الاعدام الصادر من المحاكم المدنية أو المجالس العرفية لاينفذ الا بمقتضى ارادة سنية ، وحتى لا تظهر اسباب تحول دون ذلك ، قام الوالي سليمان نظيف ، بالتعجيل باعدام الشيخ عبد السلام البارزاني ، ودبر خطةً يوهم من خلالها الناس أن هناك محاولةً مسلحةً لتخليص الشيخ عبد السلام من السجن ، وحرصاً من الوالي على استتباب الأمن ، وهذه حجة احتج بها حين أبرق إلى الباب العالي يخبره باعدام الشيخ عبد السلام وثلاثة من أعوانه في 15 محرم سنة 1333ﮪ المصادف 20-11- 1914 ، صدرت أوامر الوالي سليمان نظيف بدفن الشيخ عبد السلام وأعوانه الثلاثة في مقبرة الغرباء قرب جامع عمر الملا في حفرة واحدة واخفوا معالمها خشية ان تصبح في المستقبل مزاراً يزوره الأكراد .
أما الملحق الثالث فقد خصصه لعرض ماساة مدينة الموصل التي عانتها مدينة خلال الحرب العالمية الأولى والمتمثلة بالمجاعة المهلكة التي اجتاحتها ، وقد حدد الصوفي أسباب حدوثها وتفاقمها ،بما يأتي 1) انسحاب الجيش العثماني المقاتل ومؤسساته من طيران ومدفعية ومستشفيات ومعامل لصنع العتاد الحربي ودوائر التموين وكان مقر هذه المؤسسات مدينة الموصل ، 2) هجرة العديد من موظفي ولاية بغداد والمدن العراقية الأخرى التي كان الانكليز قد احتلوها ، 3) هجرة العديد من سكان ولاية وان وحكاري وارضروم وبتليس التي كان الروس قد احتلوها أثناء الحرب ومما زاد الوضع سوءاً ان المحصول الزراعي في قرى الموصل وملحقاتها هبط إلى ربع ما كانت تنتجه هذه القرى قبل اعلان الحرب لأن الرجال الذين كانوا قائمين عليها جندوا وارسلوا إلى جبهات القتال فكان من الطبيعي ان تصبح الموصل عاجزة عن اعاشة هذا العدد الكبير من البشر ، ومما زاد الوضع
سواء تشكيل لجنة المبايعات لجميع الحبوب من مختلف اصناف الشعب ويورد الصوفي ان هذه اللجنة مؤلفة من رئيس برتبة (مقدم) أسمه آدم بك ومن اربعة اعضاء اثنان من اعضاء مجلس ادارة الولاية وهما نامق آل قاسم أغا السعرتي ومصطفى الصابونجي ، ومن عضوين آخرين من مجلس بلدية الموصل وهما أمين المفتي رئيس بلدية الموصل وعبد الرحمن الرمضاني عضو المجلس البلدي وكان مقر هذه اللجنة الدار الواقعة على نهر دجلة بالقرب من دار فتح الله سرسم في محلة باب الطوب وكانت هذه اللجنة تستدعي الفرد وتبلغه بالكمية محسوبة بالكيلو والتي يجب ان يسلمها الى الأنبار من حنطة وشعير وعدس وحمص الانبار واذا امتنع أو أعتذرعن التسليم فأما أن يسجن أو يساق الى احدى جبهات القتال . كان من الطبيعي ان تؤدي الاوضاع المذكورة آنفاً الى شحة المواد الغذائية ومن ثم ارتفاع اسعارها ، حتى أصبح سعر الوزنة من الحنطة المباعة في السوق السوداء بثلاث ليرات ذهبية رشادية (الوزنة تساوي 13 كيلو) ، وامسك الجوع بخناق الناس ، واخذت أعداد الموتى منهم تتزايد وتكدست جثثهم في الأزقة والطرقات والدور المهجورة مما سبب تفشي الأمراض السارية المبيدة التي أخذت تفتك بالناس خلال عام 1917 حتى غصت البيوتات بالمرضى والمقابر بالموتى ، ويذكر الصوفي مشاهد واحداثاً عاشها خلال حدوث المجاعة فيقول من المشاهد المؤلمة والمحزنة والتي ماتزال صورتها مرسومة في ذاكرتي منذ ما يزيد على نصف قرن مضى ، وفي عام 1917 وانا عائد الى داري شاهدت شخصاً يهرول وهو يحمل كلباً مذبوحاً فهجم عليه رجل آخر وضربه واخذ بحجرة على رأسه طرحه أرضاً واستولى على الكلب المذبوح وفرّ به متجهاً الى شارع نينوى فكان منظراً مفجعاً ورهيباً … ، فضلاً عن المأساة الحقيقية والتي مايزال العديد من أبناء الموصل يذكرونها بكل حزن وأسى المجزرة البشرية الرهيبة التي قام بها المجرم السفاح عبود وزوجته عندما قاما باختطاف الاطفال الابرياء وذبحهم وعمل قلية من لحومهم يبعونها في شهر سوق وكان يرمي برؤوسهم في البئر وبعد القاء الشرطة القبض عليهما اخرجت عشرات الجماجم .
لا ينسى الصوفي أن يذكر مساهمات عدد من أبناء الموصل في تخفيف ويلات المجاعة المبيدة التي حلت بهم ومكافحة الغلاء من خلال قيامهم بتوزيع الحبوب على العوائل المحتاجة وفي مقدمتهم الحاج محمد الرضواني ، والمرحوم امين بك الجليلي ، قاسم أغا آل عبيد أغا ، وآل حمو القدو وغيرهم . وبهذه الصفحة الناصعة والخالدة لعدد من أبناء الموصل الحدباء اختتم الصوفي مخطوطه هذا .
عن رسالة (احمد الصوفي دراسة تاريخية).[1]