د. ابراهيم خليل العلاف
يُعد مدحت باشا 1869-1772، أول والٍ عثماني يعمل على تحديث بعض جوانب الحياة في العراق ومنها التعليم، إذ لم يكن في العراق من المدارس الحديثة قبل ولاية مدحت باشا، سوى بضعة مدارس ابتدائية تابعة للإرساليات التبشيرية أو مقتصرة على الطوائف المسيحية في #الموصل# وبغداد.
كما وجدت مؤسسات تعليمية شعبية، ترجع بجذورها إلى العصور الوسطى الإسلامية ومنها الكتاتيب والمدارس الدينية. وقد قامت هذه المؤسسات بدور مهم في حياة المجتمع العراقي في العهد العثماني، وخاصةً قبل نشوء المدارس الحديثة.
ومما يلفت النظر، أن مدحت باشا اهتم بإنشاء المدارس الرشدية (المتوسطة) المُلكية (المدنية) والعسكرية. كما أظهر اهتماماً بالتعليم المهني، إذ فتح مدرسة للصنائع، وتكمن وراء ذلك عوامل عديدة منها: قلّة الإمكانات الفنية والمالية لنشر التعليم على نطاق واسع، لذلك اكتفى بالكتاتيب التي كانت تقوم بمهمة التعليم الابتدائي، كما أن نقص الكادر التعليمي كان سبباً آخر. يضاف إلى ذلك حاجة الدوائر الحكومية آنذاك إلى خريجي المدارس الرشدية للقيام بالأعمال الكتابية. ومهما يكن من أمر، فإن خطوات مدحت باشا التعليمية، لم تكن سوى البدايات الأولى لوضع أسس نظام التعليم الرسمي الحديث في العراق.
كما أن فتح (المدارس الإعدادية) في عهد خلفه الوالي رديف باشا 1872-1874 يعد البداية الحقيقية لبناء فئة المثقفين في العراق والذين أسهموا في تلبية احتياجات المجتمع، وتركوا علامة واضحة تدل على الرغبة في الارتفاع بالمستوى العلمي والثقافي آنذاك.
تأسست أول مدرسة إعدادية (إعدادي ملكي مكتبي) في بغداد سنة 1872 وكانت المدارس الإعدادية العثمانية على نوعين: الأول كان يتكون من سبعة صفوف الثلاثة الأولى منها رشدية، والصفوف التالية إعدادية. وهذا النوع كان مقتصراً على العاصمة استانبول ومراكز بعض الولايات. أما النوع الثاني فكان ذا خمسة صفوف. الصفوف الثلاثة الأولى منها رشدية وقد أقيم هذا النوع من المدارس في الكثير من الولايات والألوية ومنها ولايتا بغداد والموصل. واشترطت التعليمات التي أصدرتها وزارة المعارف أن يكون الطالب الراغب في الدخول إلى الصف الأول من المدرسة الإعدادية حائزاً على الشهادة الابتدائية. أما الحاصلون على شهادة المدارس الرشدية أو القسم الرشدي من المدارس الإعدادية فيقبلون في الصف الرابع.
تأسست أول مدرسة إعدادية في الموصل سنة 1895 باسم (موصل إعدادي مكتبي)، وقد شغلت في بداية الأمر بناية مستأجرة تقع في محلة باب لكش كانت تداوم فيها المدرسة الرشدية. وكان عدد طلاب الإعدادية سنة 1898 لا يتجاوز ال (34) طالباً، وفي سنة 1907 أصبح عددهم (242). وثمة إحصائية ترجع إلى سنة 1912 تفيد بأن عدد طلاب إعدادية الموصل كان (163)(5). أما المواد الدراسية التي كانت تدرس في المدارس الإعدادية فهي نفس مواد المدارس الرشدية في الصفوف الثلاثة الأولى. أما في الصفين الرابع والخامس فكانت تدرس مواد القرآن الكريم والعلوم الدينية واللغتين العربية والتركية والأخلاق والحساب والهندسة والجغرافية والتاريخ وعلم الأشياء (العلوم العامة) والخط والرسم، وفي بعض المدارس اللغة الفرنسية، كما كانت تدرس مادة حفظ الصحة في الصف الرابع وأصول الدفاتر الحسابية والجبر والمثلثات في الصف الخامس فقط.
بقيت المدرسة الإعدادية في الموصل تضم صفوف المدرسة الرشدية.. ويروي علي جودت الأيوبي قصة إنشاء هذه المدرسة فيقول:أنها ارتبطت بقدوم موفد من وزارة المعارف العثمانية هو الأستاذ محمد توفيق والذي جاء الموصل مزوداً بتعليمات تقضي بتحويل المدرسة الرشدية إلى مدرسة إعدادية، ونظراً لقلّة المدرسين فقد تحمّل هذا مسؤولية إلقاء عدد كبير من المواد الدراسية منها الحساب والجبر والهندسة والتاريخ واللغة الفرنسية، كما قام بتنظيم منﮪج المدرسة واستعان ببعض علماء الموصل المعروفين أمثال أحمد الجوادي وأحمد آل قاسم اغا ويحيى أفندي لتدريس مواد أخرى منها اللغة العربية والقرآن الكريم. واستعان محمد توفيق بحسن العمري رئيس البلدية، واتفق معه على شكل البزة الموحدة (الزى الموحد) لطلاب المدرسة الإعدادية. وقد ازداد الإقبال على المدرسة، فانتقل إليها عدد من الطلاب من مدرسة الآباء الدومنيكان أمثال: امجد العمري، وصديق الدملوجي، وفاروق الدملوجي، وداود سليم، ورؤوف العطار، وداود ألجلبي. وفي سنة1903تخرج من المدرسة عدد من الطلاب أبرزهم: أرشد ألعمري وسليم الجراح وأمين ألعمري، وكان زملاء أرشد ألعمري في المدرسة علي جودت الأيوبي، وأمجد ألعمري، أما أبرز المدرسين فكانوا: أحمد عزت آل قاسم، ومحمود الصوفي، وسليمان ألجليلي، وأحمد ألجوادي، وخير الدين ألعمري، ومحمد سعدي، وحسن خير الدين، وعبداه أفندي.
لقد صدرت إرادة سلطانية في 4 -02- 1882 تنص على تأليف مجالس للمعارف في ولايات الدولة العثمانية. ففي بغداد والموصل تأسس مجلس للمعارف سنة 1884. وكان مجلس المعارف في الموصل يضم سنة 1912جليل بك مدير المعارف (التربية) رئيساً وعضوية كل من موسى كاظم أفندي مدير المدرسة الإعدادية وعثمان أفندي مدير دار المعلمين، هذا فضلاً عن ثلاثة من وجهاء الموصل وأعيانها هم: محمد أفندي الشعار وصالح أفندي السعدي، ويوسف أفندي الرمضاني. وكان في كل ولاية مديرية للمعارف ترتبط بديوان وزارة المعارف في العاصمة. ولم تكن مديرية معارف الموصل سنة 1912 تضم سوى المدير وبضعة موظفين بينهم المحاسب والكاتب وأمين الصندوق. وأول مدير للمعارف في الموصل كان توفيق بك بن أحمد باشا، يساعده عدد من الموظفين هم: علي صائب، ومحمد أمين الشربتي، والسيد شاكر.
ورد في سالنامة المعارف لسنة 1316 ﮪ (1898-1899 م) أسماء أعضاء الهيئة التدريسية للمدرسة الإعدادية في الموصل على النحو الآتي:
-محمد توفيق أفندي، المدير ومدرس مواد عديدة منها: الحساب والتاريخ العام وأصول مسك الدفاتر والفرنسية والجبر والإنشاء.
-إبراهيم أفندي، ويدرس العلوم الدينية واللغة العربية والهندسة واللغة التركية واللغة الفارسية.
-حسن خير الدين، ويدرس الجغرافية والمعلومات النافعة (معلومات نافعة).
-أحمد عزت آل قاسم أغا، ويدرس اللغة التركية (تركجة).
-محمد سعدي أفندي، ويدرس أصول الخط (حسن الخط).
-عبداه أفندي، ويدرس الرسم.
-أحمد أفندي، (المرشد الأول) (سر مُبصّر).
-سيد عبد الرحمن، (المرشد الثاني).
أما في سنة 1912 فكانت الهيئة التدريسية للمدرسة الإعدادية تضم:
-موسى كاظم أفندي، مدير المدرسة، ويدرس (معلومات نافعة)، اقتصاد، أخلاق.
-ناجي أحمد أفندي،ويدرس مواد: القرآن الكريم، العلوم الدينية (علوم دينية)، اللغة العربية (عربي).
-إبراهيم أفندي، ويدرس العلوم الطبيعية.
-أحمد عزت أفندي (آل قاسم اغا)، ويدرس اللغة التركية.
-محمد أنور أفندي، ويدرس العلوم الرياضية.
-أحمد رفيق أفندي، ويدرس التاريخ (تاريخ عمومي) والجغرافية.
-لازار أفندي، ويدرس اللغة الفرنسية.
-ملازم رفعت أفندي، ويدرس (الجمناستك).
-عبداه أفندي، ويدرس (الخط) فضلاً عن شغله وظيفة كاتب المدرسة.
-اليوزباشي رشيد أفندي، ويدرس (الرسم).
ضاقت بناية المدرسة الإعدادية بطلابها.. ففكرت إدارة المدرسة بضرورة اختيار بناية جديدة تستوعب الأعداد المتزايدة من الطلاب وتليق بمكانة ودور المدرسة الإعدادية الوحيدة في الولاية. وقد قررت سلطة الولاية إنشاء بناية على قطعة أرض قريبة من بناية القشلة الملكية (السراي المدني) والتي كانت تضم مديرية المعارف أيضاً،ولم تكن هذه الأرض سوى البناية التي تقوم عليها (الإعدادية الشرقية) الحالية، وقد جرى احتفال كبير عصر يوم الأحد 16 شعبان سنة 1323 ﮪ الموافق لليوم الخامس عشر من تشرين الأول سنة 1905م، وضع فيه الحجر الأساس من قبل والي الموصل نوري باشا 1321 ﮪ-1323 ﮪ (1903-1905 م). وقد ألقى الوالي كلمة أكد فيها أهمية العلوم وفوائدها وبيّن حاجة الموصل إلى بناية جديدة للمدرسة الإعدادية، واختتم الاحتفال بدعاء ردده الشيخ محمد أفندي الشعار، ونحرت الذبائح، وصدحت موسيقى الجيش بالألحان الحماسية. وصادف الإحتفال يوم ولادة السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909م، لذلك اكتسب أهميةً وبهاءً. وقد حضر الإحتفال أركان الولاية، وقادة الجيش والشرطة، وعلماء الدين ووجهاء المدينة وجمع كبير من الأهالي.
نقل الوالي نوري باشا وخلفه الوالي الجديد مصطفى يُمني بك العابد الدمشقي شقيق أحمد عزت العابد الدمشقي مستشار السلطان عبد الحميد الثاني، والذي وصل الموصل في9تشرين الثاني سنة 1905.وبعد وصوله اهتم بإكمال مشروع بناء المدرسة الإعدادية فوجد أن امكانات الولاية المالية لا تساعد على ذلك، فشكل لجنتين: الأولى للإشراف على البناء برئاسة عمر لطفي رئيس المحاكم، وعضوية كل من الحاج محمد باشا الصابونجي وإسماعيل ألجليلي وهما من وجهاء الموصل، وكان ذلك في شباط سنة 1907. أما اللجنة الثانية فشكلت للقيام بعملية جمع التبرعات من الأهالي لأجل البدء بالبناء.وقد ترأس اللجنة محمود بك آل شريف بك آل ياسين أفندي المفتي رئيس البلدية (1904-1908 م). أما عضواها فهما: نامق أفندي آل قاسم اغا مدير البنك الزراعي، واسماعيل الجليلي. ويشير المؤرخ الموصلي المرحوم الأستاذ أحمد الصوفي في كتابه تاريخ بلدية مدينة الموصل إلى محمود بك آل شريف آل ياسين أفندي المفتي رئيس البلدية، فيقول: وفي عهد رئاسته للبلدية تم تشييد البناية الفخمة للمدرسة الإعدادية الرسمية في الموصل، وبمعاونة البلدية والأهالي الذين تبرعوا بمبالغ من النقود والعينات لبناء هذه المؤسسة الثقافية والتربوية والتي لا تزال إلى يومنا هذا معهداً علمياً ويطلق عليها الآن اسم الإعدادية الشرقية.
لقد بذلت اللجنة المشرفة على جمع التبرعات جهوداً كبيرة من أجل حث الناس على التبرع بالأموال والمستلزمات الأخرى لبناء المدرسة التي أنجزت سنة 1908، وتم إشغالها من الطلبة في الخامس عشر من أيلول سنة 1908، ومما تجدر ملاحظته أن المدرسة بنيت على الطراز المعماري الإسلامي، حيث الأقواس والفضاءات، وقد استخدم في بناءها أسلوب حديث في البناء يسمى عند المعماريين ب (الساندوج وول Sandwich Wallأي الجدار العازل،وهذا الأسلوب يقوم على أساس البناء من جدارين يفصل بينهما عازل يتألف من مادة مغايرة. وقد أعطى هذا الأسلوب في البناء ميزة الهدوء في داخل المدرسة بالرغم من وقوعها في منطقة مزدحمة بالحركة. ويتضح من البناء كذلك ان الأقواس والفناء الداخلي المحاط بالصفوف قد أعطت نوعاً من البساطة وعدم التعقيد الذي ينعكس ايجابياً على نفسية الطلاب فيدفعهم إلى الدراسة وتلقي العلم دون أية مشك.[1]