صلاح سليم علي
باحث ومؤرخ
تناول مؤرخون موصليون وعراقيون وعرب اوضاع #الموصل# ابان النصف الأول من القرن التاسع عشر وفترة حكم الولاة العثمانيين الذين اعقبوا فترة الحكم الجليلي بأسهاب..ومن هؤلاء الكتاب على سبيل المثال وليس الحصر عباس العزاوي وصديق الدملوجي وسليمان صائغ وأنستاس ماري الكرملي ورفائيل بطي وعبد المنعم الغلامي وسعيد الديوه جي..
فتحدثوا عما تعرضت له الموصل من حوادث ابرزها الأوبئة والمجاعات وعن ادارة الولاة العثمانيين في الفترة الموافقة لحكم السلطانين العثمانيين محمود الثاني ومجيد الأول..وفي مراجعة هذه المدونات نلاحظ تماثلا في الوقائع التي جاءوا على ذكرها من جهة وعدم ربط هذه الحوادث على الصعيد المحلي في الموصل بالأوضاع السياسية الدولية والأقليمية التي كانت تعصف بالأمبراطورية العثمانية في ذلك العصر بتفاصيلها.
كما لم يتطرق المؤرخون الى تفاصيل كثيرة جاء الرحالة والمنقبون والمبشرون من الآباء الدومنيكان وغيرهم على ذكرها..إلا أن المؤرخين العراقيين ممن أرخوا للمرحلة يتفقون مع المؤرخين الأجانب في الخطوط العامة المميزة للنصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى انتهاء فترة ولاية طاهر باشا على الموصل..فالموصل بحكم كونها تابعة للأمبراطورية فلابد ان تكون في واجهة الصراع ضد اعداء الأمبراطورية ولاسيما بعد نجاح ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا في ضم سورية الى مصر والتقدم في الأناضول القريبة جدا من الموصل..مما جعل الموصل تحت اليد العثمانية مباشرة ليس لتزويد الأمبراطورية بالدماء والأموال الضرورية للدفاع عنها مما يفسر فرض التجنيد الألزامي وزيادة الضرائب المفروضة على الناس على مختلف فئاتهم ومذاهبهم وتكرار حملات التنكيل بأعداء الأمبراطورية الحقيقيين منهم والأفتراضيين..ولم يكن الضغط العثماني محصورا على الموصل فقط، بل شمل الولايات العثمانية كافة ..فكلما لحقت بالباب العالي هزيمة جديدة، ازداد الولاة ضراوة وشدة وتعسفا في حملاتهم الضريبية والسوقية.. ومما زاد الطين بلة ان الهزائم العسكرية صاحبتها كوارث واوبئة ومجاعات تضاف الى مثلث الفقر والجهل والمرض شبه الدائمي المميز للطبقات الفقيرة وهي الأكثرية في المجتمعات العثمانية..وكانت الموصل مسرحا للويلات من كل نوع ولون فقد شهدت الموصل مجاعات مهلكة عديدة تنوعت اسبابها بين اشتعال النار بالمحاصيل بسبب ارتفاع درجات الحرارة في الصيف أو بالتعمد بأحراقها .. فضلا عن غزو الجراد وموجات البرد في الأعوام 1794 و1795 وتكرر غزو الجراد الأصفرالمهاجر للموصل اضطرادا في 1824 و 1825 ..وكانت اسراب الجراد تفد من هضاب آسيا وصحراء ايران تحملها الرياح بمالايحصى من الملائين لكل دونم من الأرض المزروعة فتأكل الجرادة الواحدة مايعادل ضعفي وزنها كل يوم بما يتلف محاصيل الحبوب من القمح والشعير والقطن فتسلب الأرض نباتها وخضرتها وتأتي على علف الحيوان وغذاء البشر تاركة الأرض (حصيدا كأن لم تغن بالأمس)..والنتيجة الحتمية لخراب الحرث خراب النسل إذ يصبح رغيف الخبز قرصا للشمس ينأى حتى في كوابيس الفقراء عن ايدي اطفالهم.. مما جعل الأوبئة لازمة من متلازمات المجاعة فكان الجدري يأتي يدا بيد مع الطاعون إذ يخبرنا المؤرخ سعيد الديوه جي في هذا الصدد:
(وفي عام 1799م ظهر الجدري في مدينة الموصل وظهرت أول اصابات بالمرض في محلة خزرج ، ثم أخذ يسري نحو المحلات الاخرى ، واستمر هذا المرض الخطير يفتك بأرواح الناس حتى منتصف شهر صفر سنة (1215ﮪ/1800م) وبلغ عدد المصابين الذين لقوا حتفهم في اليوم مائة وثمانين نسمة ثم انتقل الى كركوك والسليمانية..وفي عام (1215ﮪ/1800م) سرى الطاعون في اكثر احياء الموصل ، وبلغ عدد الذين لاقوا حتفهم في اليوم مائة وثمانون او اقل خمسة . وغلت الاسعار وكان اغلب الضحايا الذين يموتون من النساء والاطفال وهرب العدد الكثير من اهالي المدينة الى القرى المجاورة . ويذكر العمري في غرائب الاثر ان والي الموصل محمد باشا الجليلي قد ذهب الى سنجار لمحاصرة المتمردين من اليزيدية وخلال عودته الى الموصل علم بوجود المرض فخشي على جيشه فأبقاه خارج المدينة . وقد علق العمري قائلا :انه رأى رجلا من العساكر بعيدا عن الناس خوفا من المرض ولم ينفعه ذلك)..
وتكررت موجة الطاعون المصحوبة بوباء الكوليرا (الهيضة) سنة 1821 ..ثم عادت الى الظهور مجددا وسط مجاعة استمرت اكثر من سنتين 1825 و 1828 لتتبعها مباشرة موجة قاسية من الطاعون في 1829، ثم اعقبت الطاعون موجة جديدة من الكوليرا التي يطلق عليها العراقيون تسميات مختلفة كالهيضة وابو زوعة والريح الصفراء..وقد استمرت هذه المرة سنتين فتكت خلالها بأهل الموصل في وقت لاتوجد في المدينة كلها مستشفى واحدة هذا بالأضافة الى انتشار حبة بغداد كما ورد في تقرير احد الرحالة في الموصل آنذاك..وكان الناس يموتون بالمئات كل يوم ولم يفلت من الموت اعضاء من البعثات التبشيرية ومن الآثاريين ..ومن لم يمت منهم في الموصل حمل معه المرض ليموت بحلب أو اماكن أخرى مثل جورج سميث والدكتور جرانت اما من مات منهم في الموصل مبكرا فالآثاري بيلينو والتبشيريين كولبي ميشيل الذي دفن في تل بيلا المقابل لقرية بحزاني في ظهيرة صيف ساخنة بعد نقله مشدودا على ظهر حصان لأكثر من سبعين ميل..ثم اشتد المرض بزوجته أليزا ميشيل فحملت على تختروان حتى الموصل حيث توفيت ودفنت في مقبرة الكنيسة السريانية الأرثدوكسية في الموصل وكان ذلك عام 1841 وبعد سنة توفي التبشيري ابيل هنزديل ايضا..وكان ذلك في اثناء ولاية اينجة بيرقدار محمد باشا..ويعود الفضل للدكتور أساهيل جرانت الذي دأب على التنقل من اوروميا الى دير الزعفران الى ارض روم فالموصل لمعالجة المرضى حتى توفي هو الآخر في الموصل في السنة نفسها التي توفي فيها اينجة بيرقدار محمد باشا سنة 1844..ويعتقد أهل الموصل ان الوباء يعود كل 31 سنة في موجة جديدة؛ اما غزو الجراد وهو الطاعون الثامن في التوراة والأبتلاء الثالث في القرآن الكريم، فيعزونه الى غضب الله على الناس لظلمهم انفسهم او لسكوتهم على الظالم.. وذلك لذكر الجراد في القرآن في آيتين ثانيتهما تربط بين الجراد والنقمة الإلهية: (فارسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين)، الأمرالذي يجعل الناس يشعرون بالأضافة الى ابتلاء الأوبئة، بالذنب..وكان علماء الناس يرون في طغيان الحكام واهمالهم فتنة لاتصيب الظالمين وحدهم بل تأخذ البريء بذنب الظالم..حتى وصلت الأوضاع في المدينة حالا بائسة قبل ارسال اينجة بيرقدار محمد باشا الى الموصل؛ إذ يخبرنا طبيب البعثة التبشيرية الأميركية د. جرانت الذي عاش متنقلا وراء المرضى بين ارومية وارض روم والموصل مستعرضا التاريخ القريب للمدينة:
(بالأضافة الى الأضطهاد، جاءت موجة الطاعون عام 1829 لتفتك بالمدينة ..وكان الناس يموتون بالمئات في كل يوم فيحملون وترمى جثثهم في حفرة هائلة في السور الشمالي حيث تبدو للعيان أكوام العظام والجماجم لمن ينظر من الفتحة الضيقة في السور..وكان الناس يرون ان الوالي (الجليلي) هو السبب فيما يلحقهم من ظلم فقرروا تحرير المدينة من العائلة الحاكمة ومن الباشا فقتلوا العديد من الولاة الجليليين ممن حاول استرداد النظام، بين عامي 1822 و 1834 وقد توالى على الموصل خلال هذه المدة خمسة ولاة جليليين اثنان منهم تولاها مرتين؛ أما المدينة فقد اصبحت خلال هذه الحواداث..مشهدا للفوضى المطلقة..فقد انقسم الناس الى جماعات تعادي إحداها الأخرى وادت المشاجرات والأغتيالات الى ضياع الأمن مما جعل الناس تبني جدرانا في الطرقات للفصل بين الأحياء المتخاصمة..اما التجارة فقد دمرت بالكامل تقريبا ..وبدت المدينة في اوقات بدون حاكم..وكان الرعية يتوصلون الى سلامتهم بالتجمع في ثلاثة او اربعة اشخاص وراء احد المتنفذين، يقوم بالمقابل بحمايتهم..وكانت الثياب تمزق من على اجسام العابرين في الشوارع..اما الأغتيالات فكانت متكررة..وكان مرتكبيها يفلتون من العقاب..ولايقدر السكان مغادرة المدينة لأكثر من نصف ساعة خوفا من العيارين الوافدين من الصحراء الذين يقدمون الى المدينة وينهبون كل من يرونه خارج اسوارها..وكان بيك راوندوز قد اقتحم الموصل ووصل حتى النبي يونس حيث استلب من الناس ممتلكاتهم كلها قبل ان يرحل الى حيث اتى)..
فالموصل كانت في وضع لاتحسد عليه مدينة في العقود الأولى من القرن التاسع عشر..وهو وضع لايمكن باي حال من ألأحوال فصله عن الأوضاع المتردية للأمبراطورية العثمانية التي كانت على الرغم من إرادة ادارتها في اسطنبول الإصلاحية في حالة انهيار سريع استحقت في طور تفاقمه لقب رجل أوربا المريض..وهو مع توظيف هذا المجاز اي [رجل مريض] فهو مريض لاتخلو يديه من مخالب وفمه من انياب..غير ان ضحيته في الحالات كلها وعند كل ازمة اقتصادية تعصف بالعاصمة او هزيمة تهتز لها البلاد وتزعزع ثقة السلطان شبه المطلقة بموارده وقوته هو الرعية التي تشمل بوجه خاص العرب الذين وقع عليهم الجهد العسكري من الطرفين المتحاربين مصر واسطنبول فضلا عن وضعهم في خط المواجهة مع الدول الأوربية الثائرة للمطالبة بأستقلالها..وكان استقلالا ناجزا او يكاد باكمله على عهد السلطان محمود الثاني الذي لم يجد بدا من المضي بالإصلاحات وكانت نتيجة الأصلاحات واضحة ومأساوية على الكثير من الولايات الإسلامية وبخاصة العراقية ومنها الموصل .
في هذه الظروف جاء تعيين اينجة بيرقدار محمد باشا (او بيرقداري - كما يسميه الموصليون) في محاولة من اسطنبول فرض ضرب من المركزية بطريق استرجاع الولايات العثمانية من الأسر شبه المستقلة، وربطها بالحكومة العثمانية مباشرة وتطبيقا للأصلاحات التي تمثل أهمها ببناء جيش يحل محل الأنكشارية التي كان السلطان محمود قد حلّها، كتطبيق التجنيد الألزامي الذي شمل على عهد مجيد الأول النصارى، ثم تنفيذ نظام ضريبي صارم لتغطية المجهود الحربي ومشتريات الأسلحة في مواجهة الخطر المصري والأبقاء على البقية المتبقية من الأمبراطورية..اي ان الأمبراطورية تحركت وفق ماتفرضه عليها الضرورة التاريخية اي [المركزية] أزاء التفكك والأنفصال وبكل وسائل القوة.
استلم الوالي العثماني اينجة بيرقدار محمد باشا الموصل مدينة خرائب..وتتضح من متابعة فترة ولايته طبيعة المهمة التي انيطت به : فرض الأمن، جباية الضرائب لتمويل الجيش وحركة الأعمار في المدينة، فرض هيبة السلطان ومركزية الدولة، القضاء على حركات التمرد والعصيان في راوندوز والعمادية وتلعفر ومناطق اليزيدية والشمر، فرض عملية التجنيد الإلزامي، فرض الأمن في المدن والقصبات في شمالي بلاد مابين النهرين وانهاء كافة اشكال السلطات المحلية في المناطق التي تتواجد فيها الجماعات الأثنية والدينية..والعمل للحد من المجاعات والأوبئة والعصابات التي خربت الحرث والنسل ودمرت التجارة والأسواق في الموصل..كما تم خلال فترة حكمه الممتدة قرابة 9 سنوات من 1835 وحتى عام 1844 اكتشاف الأوابد الآشورية القديمة: فقد اكتشف بوتا بمساعدة معلومات نقلها اليه احد سكان باريما القريبة من مدينة سرجون هذه المدينة عاصمة سرجون الثاني واكتشف لايرد نينوى ونقب في كالخو (النمرود) و قلعة الشرقاط (آشور) وشريخان ..وكان أكتشاف هذه المدن الدفينة في مشارف الموصل وفي جانبها الأيسر ثورة هائلة في علوم الآثار والحضارات القديمة والأديان وتأسيسا لعلم المسماريات والدراسات الآشورية..ومن الطبيعي ان تنطلق الحملات الأستكشافية من الموصل ويحصل المنقبون على ترخيصاتهم (تذكرة) من الباشا بعد ان يحصل سفراء دولهم على أمر(فرمان) من السلطان العثماني يحملونه معهم الى الموصل..وكان الأنكليز والفرنسيين يشتكون من صعوبات تعسرعليهم المضي في تنقيباتهم بأمان..ولعل السبب وقوف فرنسا وبريطانيا الى جانب محمد علي باشا وابنه ابراهيم في حروبهما ضد السلطان..
كما شهدت الموصل نشاطا هائلا للبعثات التبشيرية الأميركية والجزويتية الفرنسية والأيطالية وغيرها وكان بين اعضاء البعثات التبشيرية أطباء متنقلين كانت الموصل بأمس الحاجة لخدماتهم..وعلى الرغم من تأسيس اينجة بيرقدار محمد باشا لمستشفى القشلة، فان نقص الأطباء وتخصيص المستشفى لمعالجة جنده ومن يرى في علاجه فائدة للموصل، قلص كثيرا من خدماتها العامة..
ويبدو ان جل اهتمام الباشا، كما يروي الرحالة، انصب على قمع الأعداء المحتملين والفعليين للأمبراطورية العثمانية وفرض التجنيد الألزامي وجباية الضرائب..بينما تناول المؤرخون العراقيون والأتراك الجهود العمرانية والإصلاحية الى جانب الحرب والقسوة المفرطة في السعي لفرض الأمن وأحترام السلطة. ويقينا فثمة أختلاف كبير بين رواية الرحالة الأجانب ورواية المؤرخين العرب حول اينجة بيرقدار محمد باشا. وأرجح أن منشأ هذا الأختلاف يعود الى المنظور الذي تم بموجبه تصور الباشا وتصويره من قبل الرحالة الأجانب وطريقة تعامله معهم مما جعلهم يركزون على سلبياته دون ايجابياته بينما تناول المؤرخون العرب سلبياته وايجابياته فكانوا أكثر موضوعية من الأجانب..
ورأيي أن الحكام الذين سبقوا الباشا محمد اينجة بيرقدار (كما يسميه المؤرخون المعاصرون) لم تعوزهم الإرادة الطيبة والبنائة، غير انهم لم يلجأوا الى القوة المفرطة في فرض هيبة السلطة وضرب خصومها من عصاة الصحراء والجبل مما جعلهم ضحية لهؤلاء الخصوم وللأوضاع المزرية التي صيرتها واشتركت فيها عصابات السراق والغزاة والجراد من كل نوع في الفترة التي سبقت مجيء اينجة بيرقدار محمد باشا وخلقت بيئتها الحال الذي وصلت اليها الأمبراطورية العثمانية بسبب الأطماع الغربية في اراضيها.. وفيما يأتي نتناول تقارير الرحالة ممن عاش في الموصل او زارها ومكث فيها حينا في اثناء حكم اينجة بيرقدار محمد باشا.[1]