=KTML_Bold=عن صورة العرب في الموروث الشفاهي الكردي=KTML_End=
ينشر هذا المقال ضمن ملف يتناول الثقافة الشفوية في سورية، بالتعاون والشراكة مع موقع حكاية ما انحكت، في محاولة لفهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سورية
اتسمت العلاقة بين الكرد والعرب في منطقة الجزيرة بحسن الجوار والتآلف في أغلب الأحيان، وقد نجد من الغريب، أنّ هنالك أحلاف قبلية نشأت في فترات تاريخية سابقة بين قبائل كردية وعربية، تناحرت مع أحلاف أخرى تضم عربا وكردا آخرين بحسب مقتضيات المصلحة والنفوذ. غير أنّ هذا التجاور الجغرافي ووحدة الحال لم تحل دون تشكّل صور نمطية وقاموس لفظي وقصص وأمثال ومحكيات تنحو في مدلولاتها المباشرة والمضمرة نحو تكريس صور نمطية عن الآخر، فهنالك محكيات للكرد حيال العرب وأخرى للعرب تجاه الكرد، وهي في عمومها سلبية وقاسية، ففي غالب الأحيان لا يغدو محتوى الموروث الشفاهي المصاغ منطبقا على واقع الحال بشكل كلي، فقد تكون بعض المحكيات ولا سيما الأمثال قد دخلتا لقاموس الموروث الشعبي الخاص بشعب أو طائفة ضمن ظرف خاص، أو نتيجة حادثة معينة لا علاقة لها بنظرة سلبية شاملة، أو بتنميط متعمد ودائم التأثير، كما أن العكس يصح في أوقات كثيرة ويكون المقصد سلبيا، وهو إظهار التفوق أو التميّز أو التقليل من شأن الآخر، بالاعتماد على وصم أنماط عيشه، أو طرائق تفكيره، أو هيئته، أو معالجاته لمسائل الحياة بنعوت صادمة ومباشرة، تدل على الشخص دون مواربة.
جغرافياً، وفي السياق السوري، يشير مصطلح الجزيرة السورية إلى مناطق محافظة الحسكة و الجزء الشرقي من محافظة الرقة وجزء صغير من محافظة دير الزور.
في منطقة الجزيرة في سوريا، في المستوى الثقافي، هناك اختلاف بين العرب والكرد لجهة أنماط المعيشة والحياة الاجتماعية، إذ يميل الجيل الجديد من الكرد إلى تحديد النسل والاكتفاء بعدد محدود من الأطفال إلا أن العرب ما زالوا يكثرون من إنجاب الأطفال، وهناك تشابه من جهة أخرى.
وفيما يخص الديناميات، فقد كان ميل الكرد أسرع في الانتقال من حالة البداوة إلى العيش في حواضر (قرى ومدن) بينما تأخر العرب نسبيا في ذلك، وهذا جعل من الكرد متطورين في الزراعة وتربية الدواجن والأبقار بينما بقيت تربية قطعان الغنم أكثر التصاقا بالعرب. وحتى الآن نرى قرى الكرد أكثر اخضرارا وتشجيرا من قرى العرب . أيضا، إن المجتمع الكردي، مجتمع زراعة وإقطاعات بينما كان المجتمع العربي مجتمع مضارب وخيام و صيد وتربية إبل وغنم، وما تزال رواسب الثقافة المختلفة تنعكس على طرائق التفكير وأنماط الحياة والمعيشة. وفي الوقت الذي كانت نخبة المجتمعات الثقافية هي الملالي ورجال الدين كان هذه النخبة معدومة لدى عرب المنطقة، وكانوا يلجأون للشيوخ والملالي الكرد في قضايا الدين والتحكيم الشرعي.
يوجد موروث شفاهي متداول وغني بين كرد منطقة الجزيرة على وجه الخصوص، يشكل العرب مادته وقوامه. وهنا يقصد بالعرب عرب المنطقة الذين يطلق عليهم وصف الشوايا (هم البدو الذين تحضّروا مؤخرا على عكس العرب الذين عايشوا الحياة المدنية في الحواضر المعروفة كدمشق وحلب. ومنهم من يفتخر بشاويته بينما يجعلهم أهالي المدن مادة للنكات كما الصعايدة في مصر. الكلمة لا تنطوي على معنى الرجعية بقدر ما تفيد البساطة والسذاجة والعيش الفطري غير المتكلف ويشوب ذلك قدر من الجهل بمعالجة بعض الأمور)، ويدخل هذا الموروث في باب تعيين دلالات أو استدعاء مواقف بذاتها، وأغلبها تصب في المنحى السلبي الساعي إلى ترسيخ فكرة التفوق والتدليل على جهل الآخر، وافتقاده لمقومات التحضر، وكثيرا ما تستند المحكيات على إرث التناحر والصراع القبلي أو العشائري القديم في المنطقة، التي باتت تسمّى مؤخرا (شرق الفرات)، فحين يبكي طفل كردي أو يتألم من مرض أو إصابة على سبيل المثال تحاول أمه ثنيه عن البكاء، وتضيف إلى عبارات التحبّب المعهودة عبارة رديفة هي: فلتشب النار في خيام العرب. تتصنع الأم هنا متسبّبا مفترضا لبكاء طفلها، وتنتقم منه لفظيا بالدعاء عليه، وتظهر للعلن الحساسية المنقولة عبر الأجيال من خيام العرب، والتي تعود لتلك الحقبة التي كان فيها أجداد ذلك الطفل يخوضون صراعات على المراعي ومناطق النفوذ ضد البدو الذين صارعوهم على الأرض والكلأ والماء، علما أنّ الكرد عملوا في الزارعة والرعي، وبعضهم زاول التجارة ودخلوا الجامعات وعملوا في المهن المختلفة.
في الغالب تمرّ العبارات مروراً سريعاً وربما تكون قد أفرغت من مضامينها الفعلية غير أنّها تنطوي على تنميط واضح لصورة العربي البدوي أو ( الشاوي) وهو عالق في ذهن الكردي والوجه السلبي يبقى أكثر ثباتا وديمومة في محكيات الشعوب وتراثها الشفوي المغرق في تسفيه الآخر والاستعلاء عليه، علماً أنّ الكرد في عمومهم يتحدثون العربية، عدا بعض كبار السن الذين لم يتسنَ لهم مخالطة العرب أو الدراسة في المدارس ذات المنهاج العربي المفروض من قبل الحكومات العروبية المتعاقبة. واللهجة الكردية المحكية في سوريا وتركيا هي اللهجة الكرمانجية ويحكيها بعض كرد العراق وايران، بينما غالبية كرد إيران يحكون الكرمانجية الجنوبية أو ما تسمى بالسورانية.
لا تقل للعربي مرحبا فسيجلس على عباءتك، هو مثل دارج بين كرد الجزيرة، يأتي في سياق توصيف حشرية شخص ما، أو تعديه على الخصوصيات مستغلا كرم الشخص المقابل أو اهتمامه، ولا يأتي هذا المثل في وصف العرب وحدهم بل قد يستعمله كردي ما في الحديث عن كردي آخر.
يستعمل الكرد تعبير عربي بازار، أي صفقة عربية في وصف الصفقات السريعة وغير المحددة بمقاييس، والتي يصفها أهل مناطق سورية أخرى ب المشايلة، أو الكوترا (كلمة غربية)، كأن يعرض زبون ما على بائع الخضار أن يبيعه ما تبقى في سحارة البندورة بسعر مخفّض دون وزن أو حساب، و يدخل هذا المثل أيضا في خدمة تعزيز صورة البدوي (الشاوي) الذي يفتقر للدقة في معاملاته، ويميل للحالة السليقية البسيطة في البيع والشراء.
ومن الطريف أن هنالك نوع من الاستحمام لدى الكرد يسمّى استحمام عربي، وهو عبارة عن غسل الرأس للعنق فقط دون غسل باقي الجسد، ويأتي أيضا في سياق التدليل على عدم اهتمام البدو أو الشوايا بالنظافة، واكتفائهم باغتسال سريع بموجب ظروف حياتهم التي كانت محكومة بالتنقل وعدم الثبات في أرض معينة، قبل أن يستقروا في قرى ومدن مع أواسط القرن المنصرم. (عرب المنطقة هم من البدو الذين سكنوا الأرياف مؤخرا ووصول الكرد للتعليم كان أكثر حتى ثمانينيات القرن الماضي، حيث تركزت الشهادات العلمية في يد الكرد وأبناء الطوائف المسيحية، وما يزال أغلب الأطباء و المهندسين من الكرد مع أن تحسنا كبيرا طرأ على نيل العرب للشهادات وإقبالهم على الجامعات مؤخرا).
يستخدم الكرد مثلآ آخر في معرض حديثهم عن شخص فجعان أو نهم فيقولون مثل عربي وقع نظره على جبنة طرية، في إشارة واضحة إلى فقر المطبخ البدوي، ونهم العربي الشاوي للأكل الغريب عن بيئته. وفي هذا المثل أيضا نزعة استعلائية تحاول التدليل على تحضّر الكردي مقابل بداوة العربي وبساطته.
يشار إلى أنّ الأجيال السابقة من الكرد كانت لديهم عادة إطلاق تسمية عرب أو عربو على المواليد السمر البشرة، كما كان دارجاً لدى العرب تسمية أطفالهم البيض البشرة بأسماء ك كردي وكردية. وانحسرت عادة تسمية المواليد الكرد بأسماء عربية منذ بداية السبعينيات، وسرى هذا الهجر الحاد حتى على الأسماء ذات الخلفية الدينية في محاولة من الكرد لإظهار تمايزهم القومي، ونبذ التبعية الفكرية للثقافة العربية، بعد أنّ كانت بعض العشائر الكردية تسمّي أولادها بأسماء عربية موغلة في البداوة وتحرص على تبادل الزيارات والولائم وفي كثير من الأحيان تحدث مصاهرات وزيجات.
يتغنّى الكرد دوما بموسيقاهم وتراثهم في العزف على آلات موسيقية بعينها مثل الطنبور وأنواع الدبكات الكردية المتعدّدة وكثيرا ما يضيفون الدبكة العربية لأعراسهم، أو يتشاركون رقصها مع العرب في أعراسهم ولا يخفون تهكمهم في أنّ أعراس العرب تقتصر على نوع دبكة وحيد، ويخترعون لتلك الدبكة اسما ساخرا الدحدح (معنى كلمة دحدح بالعربية القصير كبير البطن، والتسمية هنا تسخر من دبكة العرب) بل أن هنالك مثلا كرديا قديما يضع استعمال العرب لآلة الطنبور في موضع الغرابة المطلقة. ما للعرب والطنبور!!.
وعلى عكس ما سبق من أمثلة لا يخلو الموروث الشفاهي الكردي من مضامين إيجابية إزاء العرب الذين يعيشون معهم في بيئة واحدة، إذ يقول المثل الكردي أيها العربي النافع، أنت أفضل من الأب والأخ.
كان أبناء عشائر كردية بذاتها يتباهون بلبس الكلابية والعقال وكانوا يصفون الأشخاص ذوي المهابة والأناقة بأنهم يشبهون شيوخ العرب أو شيوخ شمر (قبيلة عربية كبيرة وذات نفوذ ولها امتداداتها في العراق والأردن والسعودية أيضا، وعلاقاتها كانت مميزة مع الكرد).
الشكل الأبرز للتراث الشفاهي الكردي هي الأغاني الملحمية والشفاهيات المغناة والمواويل الكردية القديمة، وفيها يتردّد التغزل بالفتيات العربيات من ذوات القامات الممشوقة والعيون الكحيلة وليس أجمل من صوت المغني الكردي شاكرو (من أشهر مغني الفلوكلور الكردي المحكي، له أداء انفعالي ذو طبقات صوتية متعددة. هو من كرد تركيا، وأصوله من منطقة سرحدا غير أنه استقر في ديار بكر لفترة طويلة) وهو يصدح في واحدة من أشهر الأغاني الفلوكلورية واصفا محاسن (عربه) وجمالها. كما يرد ذكر الخيام العربية المصنوعة من شعر الماعز كثيرا في تلك الأغاني والمواويل التي رافقت الكرد في حلهم وترحالهم، ويرد ذكر مدن العرب وحواضرهم في هذا الشكل من التراث الشفاهي.
تحتل شخصية حاتم الطائي العربية (شاعر عربي جاهلي وأمير قبيلة طيء، توفي 605 م، اشتهر بكرمه واشعاره و جوده)، وشخصيات أخرى شهيرة مكانة مهمة في المرويات الكردية، حتى أن أشهر قصائد الكرد التي ألفها أحمدي خاني، وهي أولى الدعوات الواضحة للقومية الكردية، يوازي فيها الشاعر الكردي الأبرز، كرم الأمراء الكرد بكرم حاتم الطائي.
يتطلب التراث الشفوي للشعوب المتجاورة منهجية دقيقة في التوثيق والجمع، ولن يكون بمقدر أي كاتب أن يجمل مرويات عقود وقرون في مقالة أو ورقة، فمن المؤكد أنّ لدى عرب المنطقة أيضا ما يروونه بشأن الكرد سلبا وإيجابا، ومن الضروري أن تظهر الصورة دوماً دقيقة وجريئة، وأن يستدرك ما فات دون توثيق بتشجيع أكبر على التوثيق والتسجيل الصوتي للمعمرين الذين يعدون منجماً حقيقياً للمرويات والقصص والأمثال المتضمنة نظرة أجيال من الناس حيال بعضهم البعض.
[1]