ينشر هذا المقال ضمن ملف يتناول الثقافة الشفوية في سورية، بالتعاون والشراكة مع موقع حكاية ما انحكت، في محاولة لفهم جذور الطائفية والقومية وغيرها في سوري
لفت انتباهي عنوان هام ومثير لمادة منشورة عبر موقع، حكاية ما انحكت، السوري، بعنوان عن صورة العرب في الموروث الشفاهي الكردي، للأستاذ بيروز بريك، والحق يقال أنني، وبعد قراءة المتن لأكثر من مرة، لم أوفّق للوقوف
على هذه الصورة في الموروث الشفاهي الكردي بقدر ما كانت عملية إجراء حوكمة لصورة مسبقة في ذهن الكاتب حاول الاستدلال عليها بالابتعاد عن جوهر الموضوع، باتجاه سياق التأريخ لحالة اجتماعية وفق معلومات حملت
مهند الكاطع
مغالطات جسيمة، أرى أنّه من الضرورة تصحيحها والوقوف عندها. لستُ بصدد عرض قراءات متعجّلة الآن أو أحكام مسبقة لصورة الكرد في الموروث الشفاهي العربي أو العكس، لكني سأكتفي فقط بتسليط الضوء على المغالطات التاريخية التي احتلت الجزء الأكبر من مادة الأستاذ بيروز.
=KTML_Bold=اختلاف ثقافي أم تطابق؟=KTML_End=
(1): ادعاء الكاتب بأنه: على المستوى الثقافي هناك اختلاف بين العرب والكرد لجهة أنماط المعيشة والحياة الاجتماعية في الجزيرة، هو غير مطابق للتاريخ الاجتماعي لهذه البقعة الجغرافية من سورية، فالحياة الحضرية في الجزيرة حديثة جداً، وأهل المنطقة من عرب وأكراد يتشابهون في أنماطهم المعيشية وحياتهم الاجتماعية، وزيادة على ذلك لهم ذات العادات والتقاليد، وحتى القيم الاجتماعية لديهم واحدة، ربما نجد هامشا بسيطا من الاختلاف في الإطار الفلكلوري من حيث موسيقى الأعراس أو اللغة، لكن تبقى هذه جزئيات ضمن ثقافة المنظومة القيمية التي تسود المجتمع الجزراوي. حتى ادّعاء تحديد النسل عند الأكراد وزيادته عند العرب هو أمر غير واقعي، فهذه المسألة يمكن تمييزها بين الريف والمدينة، نتيجة ثقافات بيئية اجتماعية لا علاقة لها بالبعد العرقي، وينسحب ذلك على كل سورية أيضاً.
(2): يقول الكاتب: كان ميل الكرد أسرع في الانتقال من حالة البداوة إلى العيش في حواضر (قرى ومدن) بينما تأخر العرب نسبيا في ذلك، وهذا جعل من الكرد متطورين في الزراعة وتربية الدواجن والأبقار بينما بقيت تربية قطعان الغنم أكثر التصاقا بالعرب. وحتى الآن نرى قرى الكرد أكثر اخضراراً وتشجيراً من قرى العرب.
نجد هنا مغالطة في سياقها التاريخي، ففي منطقة الجزيرة السورية حصراً، وحتى بداية القرن العشرين كانت جميع قبائل الجزيرة العربية والكردية تنقسم بين نمطين اجتماعيين فقط لا ثالث لهما (قبائل رحّل بدويّة، قبائل أنصاف رحّل شاويّة)، فكانت شمّر وعنزة من نمط القبائل الرحّل التي لها نُجْعات (النُجْعة: طَلَب العُشْب ومَسَاقط المَطر) طويلة وتعتمد على الإبل (الجمال)، ومنها جاءت تسميتها قبائل آبلة، فيما كانت باقي العشائر العربية والكردية من أنماط أنصاف الرحّل التي تعتمد على الأغنام (الشاة)، ومن هنا جاءت تسميتها شاويَّة. فعندما يقول الكاتب بأنّ الكرد باتوا متطورين في الزراعة وتربية الدواجن والأبقار بينما بقيت قطعان الغنم أكثر التصاقاً بالعرب فهو يستعرض حقيقة مجتزأة في هذا التصنيف العجيب، وسيفهم القارئ بأنّ الأكراد يمارسون الزراعة والعرب يمارسون الرعي والترحال، وهذا غير صحيح، والواقع أنّ تربية الدواجن والأبقار والأغنام والزراعة موجودة لدى العرب والأكراد على حد سواء. ومع الاستقرار الزراعي، اختفى حتى نمط القبائل الرحل وأنصاف الرحل عند العرب والأكراد على حد سواء، وباتت جميع القبائل الكردية والعربية مستقرة في الأرياف في ذات الفترة الزمنية. والمواسم الزراعية الأساسية في الجزيرة هي القمح والشعير والقطن، ويزرعها العرب والأكراد على حد سواء. بل وتشير الوثائق التاريخية إلى ممارسة العشائر العربية للزراعة في الجزيرة قبل وجود الأكراد في هذه البقعة التي باتت تسمّى الجزيرة السورية، ينقل ذلك الآثاري البريطاني، أوستن هنري لايارد، في كتابه مكتشفات أطلال نينوى وبابل (دار الكتب الوطنية، أبو ظبي 2014، ص381) عن قبيلة الجبور مثلاً وزراعتها القمح على ضفاف الخابور حين زراها في النصف الأول من القرن التاسع عشر سنة 1848م. وكذلك في عهد التنظيمات العثمانية، تمّ توزيع خاقانات عثمانية لكل من عشائر الجبور والشرابيين والبقارة والمعامرة في الجزيرة لزراعة واستصلاح الأراضي. وبالنسبة لتربية الأغنام، فقد كانت ولا تزال موجودة عند العرب في الأرياف وكذلك عند الأكراد، بل نجد أنّ للكرد تاريخاً عريقاً في تجاوز العرب في تربية الأغنام حتى باتت عشائرهم مصدراً للأغنام التي تغطي الموصل ودير الزور وحلب والأناضول أيضاً. أما مسألة الاستدلال بالخضرة والتشجير، فالواقع أنّ جميع القرى الكردية تقع في الشريط الحدودي في منطقة ما يسمّى خط العشرة أو منطقة الاستقرار الأولى (مناطق الاستقرار هو تصنيف جغرافي للمناطق السورية بحسب معدلات هطول الأمطار، وتعتبر منطقة الاستقرار الأولى المناطق الأعلى في معدلات هطور الأمطار، وتقع جميع القرى الكردية في محافظة الحسكة ضمن هذه المنطقة، وهي شريط محاذي للحدود التركية)، وهي المناطق الأعلى في معدلات هطول الأمطار، وتوفر المياه، والخدمات والآبار أيضاً، وبالتالي نجد بأنّ قرى هذه المنطقة، العربية والكردية، تمتاز بالخضرة والتشجير المنزلي بدرجة أكثر من تلك التي لا تتوفر فيها مياه حتى للشرب في جنوب خط اّلعشرة، ومعظمها هناك قرى عربية.
=KTML_Bold=مقارنة انتقائية=KTML_End=
(3): يقول الكاتب أيضا، إن المجتمع الكردي، مجتمع زراعة وإقطاعات بينما كان المجتمع العربي مجتمع مضارب وخيام و صيد وتربية إبل وغنم، ... وفي الوقت الذي كانت نخبة المجتمعات الثقافية هي الملالي ورجال الدين كانت هذه النخبة معدومة لدى عرب المنطقة، وكانوا يلجأون للشيوخ والملالي الكرد في قضايا الدين والتحكيم الشرعي.
التعقيب: تكمن المغالطة هنا مجدداً بمقارنة انتقائية لمجتمعين في فترتين مختلفتين، فلا يجوز أن نقارن وضع العرب قبل مئة عام بوضع الأكراد بعد الاستقرار الزراعي حالياً، فالمقارنة تكون في ذات الفترة الزمنية، فعشائر الكوجر والملية والكيكية والآليان والخلجان والشيتية وغيرها كانت عشائر رعوية من أنماط الرحّل وأنصاف الرحل، لها مصائف ومشاتي، وبقيت على هذا الوضع حتى الأربعينات من القرن الماضي كما يصفها الكاتب والباحث والرحالة وصفي زكريا (خبير استشاري زراعي شركسي سوري، تخرج مهندساً زراعياً من أسطنبول سنة 1912م) في كتابه عشائر الشام (دار الفكر المعاصر، بيروت، ط2 سنة1983، ط1 سنة 1947، ج2، ص659-670). وكذلك كانت العشائر العربية في جنوبي منطقة طور عابدين. أما الاستقرار في المدن الناشئة حديثاً في الجزيرة السورية، فحتى الخمسينات من القرن الماضي كان مقتصراً بالدرجة الأولى على العوائل السريانية والأرمنية واليهودية، وبدرجة أقل على العرب والأكراد. لكن بالمقابل، كانت حواضر الجزيرة قبل رسم الحدود السورية الحديثة هي ماردين والموصل ودير الزور، وهي عربية! وبالتالي فالموضوع يخضع هنا لاعتبارات أغفلها الكاتب واقتطعها من سياقها التاريخي والجغرافي الطبيعي.
اما مسألة الملالي ورجال الدين من الأكراد، فلا يخفى على أحد بأنّ الطريقة النقشبندية التي طغت على جميع الطرائق الصوفية الأخرى كان موطنها الأساسي المناطق الكردية في تركيا. ومع وصول دفعات كبيرة من المهاجرين الكرد من أبناء القرى الكردية في تركيا (اللاعشائريين بمعظمهم)، وصل عدد من هؤلاء الملالي، ولا شك أنهم شكلوا المرجعية الدينية لأهالي المنطقة التي كانت طيلة قرون تعتمد على مشايخ (سادة) آخرين لا يمتلكون العلم الشرعي، ويتخذون مكانتهم من خلال الكرامات التي يدعونها. طبعاً هذه الحالة لم تكن مقتصرة على الجزيرة، فمعظم علماء دمشق وتركيا أيضاً كانوا من الأكراد.
=KTML_Bold=الأمثال الشعبية وتفسيرها=KTML_End=
(4): يقول الكاتب: لا تقل للعربي مرحبا فسيجلس على عباءتك، هو مثل دارج بين كرد الجزيرة، يأتي في سياق توصيف حشرية شخص ما، أو تعدّيه على الخصوصيات مستغلا كرم الشخص المقابل أو اهتمامه.
التعقيب: المثل هذا بالفعل موجود، ويمكن تناوله أيضاً في سياق آخر، يتناول أنثربولوجيا المجتمع الكردي ذاته في القرية التي تخضع لسلطة الآغا. وهنا يبرز فرق بين العرب والأكراد في التعامل مع الضيف، فعابر السبيل الذي يمر في القرى العربية يمر بأقرب منزل يجده، فيتم إكرامه بأقصى ما يستطيع، فالتقصير بذلك يجعله سبة بين عشيرته، في حين أنّ عابر السبيل الذي كان يمر بالقرى الكردية، فقد كان صاحب الدار غالباً يعتذر عن استقباله ويرسله لبيت الآغا أو المختار. وهذا الأخير الذي يفرض ضرائب على أفراد عشيرته، يمتلك مضافة تقدّم فيها القهوة العربية المرّة، جرياً على تقاليد العرب، ويقدم فيها الطعام للضيف المستطرق وعابر السبيل.
(5): يقول الكاتب: يستعمل الكرد تعبير عربي بازار، أي صفقة عربية في وصف الصفقات السريعة وغير المحددة بمقاييس، والتي يصفها أهل مناطق سورية أخرى ب المشايلة.... ، ويدخل هذا المثل أيضا في خدمة تعزيز صورة البدوي (الشاوي) الذي يفتقر للدقة في معاملاته، ويميل للحالة السليقية البسيطة في البيع والشراء.
التعقيب: الواقع أنّ استخدام هذه العبارة هي ضمن التصنيف الإيجابي، والصورة التي عرضها الكاتب من خلال شرحه للمثل هي مجافية لحقيقة استخدام المثل، فصاحب الرزق كما يعلم الجميع من مصلحته أن يتم شراء ما تبقى من بضاعته كوترا أو دفعة واحدة، والعربي اعتاد عند النزول للأسواق، وخاصة إذا كان قادماً من الريف، على شراء البضائع والخضار والزيت وغيرها من المواد بالجملة، خاصة وأنه يأخذ بعين الاعتبار ضيوفه وليس عائلته فقط. وبالتالي يقوم الكرد باستخدام تعبير عربي بازار للتعبير عن حالة الشراء بالجملة، ولا أعتقد أن للموضوع علاقة بمسألة الفوضى أو عدم الدقة في سياق عرض صورة العربي بعيون الأكراد.
(6): يقول الكاتب: ومن الطريف أن هنالك نوع من الاستحمام لدى الكرد يسمّى استحمام عربي، وهو عبارة عن غسل الرأس للعنق فقط دون غسل باقي الجسد، ويأتي أيضا في سياق التدليل على عدم اهتمام البدو أو الشوايا بالنظافة، واكتفائهم باغتسال سريع بموجب ظروف حياتهم التي كانت محكومة بالتنقل وعدم الثبات في أرض معينة، قبل أن يستقروا في قرى ومدن مع أواسط القرن المنصرم. (عرب المنطقة هم من البدو الذين سكنوا الأرياف مؤخرا ووصول الكرد للتعليم كان أكثر حتى ثمانينيات القرن الماضي، حيث تركزت الشهادات العلمية في يد الكرد وأبناء الطوائف المسيحية، وما يزال أغلب الأطباء والمهندسين من الكرد، مع أنّ تحسنا كبيرا طرأ على نيل العرب للشهادات وإقبالهم على الجامعات مؤخرا).
التعقيب: اتهام العرب بعدم النظافة هو أمر محدث لا ينتمي للموروث الكردي لسبب بسيط يتعلق بالنمط المشترك للعيش والبيئة بين العرب والأكراد الذين تقاسموا حياة التنقل والرعي، وكذلك حياة الاستقرار بالقرى مؤخراً منذ الثلاثينات. والأقرب برأيي هو أن أي شيء زاد عن حده أو نقص وخرج عن المعهود، بات يتخذ صفة النسبة للعرب الذين شلكوا مثالاً للمقارنة عند الكردي لقرون طويلة في كل شيء، فالحصان الأصيل الجيد يقال عنه عربي، والقهوة عربية، والزي عربي، ومجاراة الكرم عربية، فتجد مثلاً بأنّ آغا عشيرة الدوركيين من آل عباس (الآغا الملقب بالمصطفج هو الآغا محمد عباس رئيس عشيرة الدوركيين. المصدر: حفيده برزان عز الدين المصطفج، الصفحة الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي، تاريخ النشر 14 شباط 2017)، قام جرياً على عادة العرب بصنع وليمة كبيرة حاول من خلالها إثبات قدرته على إطعام جميع ضيوفه من العشائر التي قام بدعوتها بالجملة، فأطلق عليه العرب اسم المصطفج فافتخروا بذلك وبات لقبهم الذي يفخرون به حتى يومنا هذا. ونجد أيضاً بأن الكاسكا من عشائر الشيتية، أطلق عليهم العرب لقب العدلات فافتخروا باللقب وبات ملاصقاً لهم إلى يومنا هذا. وكذلك ينطبق على باقي العشائر الكردية التي جارت العرب في نخواتها والنخوة هي صيحة الحرب، فبات زعماء عشيرة المليّة يلقبون ب أخوة نورة، بينما لقب زعماء الخلجان بأخوة زرقة...الخ. وكلها ألقاب عربية لهم حملوها وافتخروا بها، وبالتالي يدخل هذا المثل (عربي بازار)، (حمام عربي) في إطار المسألة الخارجة عن سياقها الطبيعي.
أما سبق الأكراد في مسألة التعليم فهي مسألة صحيحة، والأمر كان له علاقة مباشرة بمسألة المد الشيوعي الذي وجد له موطئ قدم بين أكراد الجزيرة منذ نهاية الثلاثينات، الأمر الذي استفاد منه الأكراد لاحقاً، وتخرج عدد مهم من الأطباء والمهندسين من المبتعثين الشيوعيين إلى الاتحاد السوفيتي. وهذا ساهم في زيادة الوعي بأهمية التعليم بين الأكراد، خاصة مع انتعاش المد القومي بعد حركة البرزاني، في الوقت الذي لم تبرز خلاله هذه الأهمية عند العرب إلا بعد الثمانينات وصولاً إلى الوقت الراهن الذي نجد فيه بأنّ عدد المحامين والحقوقيين العرب في الحسكة بات يزيد على 65% من مجموع المحامين، وبات الأطباء العرب يغطون جميع التخصصات الطبية في المحافظة ناهيك عن التخصصات العلمية والتربوية الأخرى.
=KTML_Bold=حول الموسيقى=KTML_End=
(7): يقول الكاتب أيضا: يتغنّى الكرد دوما بموسيقاهم وتراثهم في العزف على آلات موسيقية بعينها مثل الطنبور وأنواع الدبكات الكردية المتعدّدة، وكثيرا ما يضيفون الدبكة العربية لأعراسهم، أو يتشاركون رقصها مع العرب في أعراسهم ولا يخفون تهكمهم في أنّ أعراس العرب تقتصر على نوع دبكة وحيد، ويخترعون لتلك الدبكة اسما ساخرا الدحدح (معنى كلمة دحدح بالعربية القصير كبير البطن، والتسمية هنا تسخر من دبكة العرب) بل أن هنالك مثلا كرديا قديما يضع استعمال العرب لآلة الطنبور في موضع الغرابة المطلقة. ما للعرب والطنبور!!.
التعقيب: الآلة الموسيقية الوحيدة التي كانت متداولة في الجزيرة السورية الحالية كانت الربابة الملائمة للعشائر البدوية العربية والكردية على حد سواء، أما الطبل والزرناية (آلة موسيقية شبيهة بالمزمار وترافق الطبل) فقد كانت بادئ الأمر مقتصرة على عشائر النور مثل البولاتية، أما البزق كآلة موسيقية فقد كان مشهوراً في ماردين كتراث فلكلوري عربي، وكذلك في ريف ماردين عند قبيلة المحلمية العرب في مناطق طور عابدين، وكذلك بين الأكراد المجاورين لهم والمتأثرين بهم، والذي بات مؤخراً من أشهر آلاتهم الموسيقية، والعود (الطنبور) للعرب باع طويل فيه منذ الحقبة العباسية ولسنا بصدد استعراضه، لكن الموسيقى والأغاني كانت من سمات الحياة المدنية، والمدن والبلدات لم تنشأ في الجزيرة السورية الحالية منذ العهد التتري إلى غاية مجيء الفرنسيين، بل كانت مقتصرة على بعض الحواضر ومعظمها في تركيا والعراق الحالي.
أما الدبكة أو الأهازيج العربية، فهي غير مقتصرة على النمط الوحيد كما تفضل الكاتب، والدحة وليس الدحدح هي نمط للأهازيج البدوية التي يتمايل فيها الأشخاص مصفقين بأياديهم ومردّدين أهازيج شعرية يتخلّلها وقفات تتضمن ترديد عبارة داحيه. كما أنّ أنماط الشعر والغناء الفراتي عند عرب الجزيرة متنوع بشكل كبير، يتضمن (العتابا، السويحلي، الموليا، النايل ..الخ). كما أنّ أعراس العرب تتضمن عادات وتقاليد أخرى كانت منتشرة ومشهورة مثل سباق الخيل، وضع نياشين وإطلاق النار عليها، إقامة الولائم من لحوم الضآن على خبز الصاج ولا تزال حاضرة.
(9): يقول الكاتب: كان أبناء عشائر كردية بذاتها يتباهون بلبس الكلابية والعقال وكانوا يصفون الأشخاص ذوي المهابة والأناقة بأنهم يشبهون شيوخ العرب.
التعقيب: الواقع أنّ العرب كانوا مثالاً يحتذى به في الموروث التاريخي الكردي، وكان القياس على ذلك تشريف لا انتقاص، وقد كان الادعاء السائد بين زعماء الأكراد كما يشير البدليسي في كتابه شرف نامه في القرن السادس عشر ميلادي، يقوم على ادّعاء النسب العربي، لذلك نجد أنهم كانوا حتى بدايات القرن العشرين يحرصون على تزويج بناتهم من العرب، بل وفي كثير من الأحيان يمتنعون أن يزوجوا بناتهم لأفراد عشائرهم كما ينقل لنا مارك سايكس (انظر: مارك سايكس، القبائل الكردية في الأمبراطورية العثمانية، ترجمة: أ.د. خليل علي مراد، مراجعة: أ.د. عبد الفتاح البوتاني، دار الزمان، ص 78-79) عن زعماء الكيكية مثلاً! . وبالنسبة للباس العربي، فقد كان لباس جميع العشائر الكردية على الإطلاق. ومنذ نهاية الأربعينات بدأ اللباس الأوروبي (البنطال والقميص) بالظهور بين الأكراد والعرب على حد سواء، ومع زيادة مظاهر الحياة المدنية طغى اللباس الحديث على جميع العرب والأكراد في المدن وبشكل خاص بين الشباب، فيما لا يزال كبار السن الأكراد وزعماء العشائر الكردية يرتدون اللباس العربي التقليدي والعقال حتى يومنا هذا.
(10): يقول الكاتب أيضا: الشكل الأبرز للتراث الشفاهي الكردي هي الأغاني الملحمية.
التعقيب: هذه مغالطة كبيرة جداً لا يجدر أن تصدر من شخص مهتم بجانب الموروث الشعبي، فالأغاني المحلمية هي أغاني عربية خالصة وجزء من الثقافة الماردينية التي تشترك بها مع الموصل أيضاً. في هذا الإطار، نجد أغاني مثل يا دلهو، صبية جزراوية، صبيحة، خالة زكو، هل بنت تجنن، مدللتي، قومي طلبيلي ... الخ) وكلها أغاني عربية. فكيف يمكن القول بأنّ الشكل الأبرز للتراث الشفاهي الكردي هي الأغاني المحلمية؟
المعذرة على هذه الإطالة، لكن المغالطات التي لم تخلوا منها فقرة في عرض الكاتب كان لا بد من توضحيها من وجهة نظري الشخصية، والتي أجد فيها إغناء للشق التاريخي والاجتماعي لهذا الموضوع المهم.[1]