قراءة كردية للتاريخ الإسلامي ... ملي كرد
دخل الكرد في الإسلام عام 18 ﮪ بوساطة الصحابي الجليل عياض بن غنم في عهد الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقاوموا في البداية الدين الجديد مساندين حلفاءهم الفرس الساسانيين، كما أود ذلك الكاتب الإنكليزي المعاصر (ديفيد ماكدويل) في كتابه (تاريخ الكرد الحديث) The new history of Kurds ترجمة الأستاذ راجال محمد.
حيث نوّه الكاتب بالعشائر الكردية التي ساندت القوات الساسانية ضد جيوش الفتح الإسلامي وأضاف أنّ الكرد لما رأوا الفرس قد تضعضعوا وتراجعت مقاومتهم سالموا الفاتحين وتخلّوا عن الساسانيين. وقال البلاذري المؤرخ في فتوح البلدان: إن معظم قلاع بلاد الجبل قد فتحت صلحاً لا عنوة وهذا يؤكد أن الكرد آثروا الصلح على السلاح وقرأوا الوضع المستجد على الساحة قراءة منطقية صحيحة، كما يؤكد أمراً آخر بعكس ما يشاع أن الفرس كانوا مهيمنين هيمنة كاملة على الكرد، فها هم الكرد لهم قلاعهم وبلادهم (بلاد الجبل) في العرف التاريخي القديم، ولهم قرارهم السياسي والعسكري ولهم دورهم الذي لا ينكر في الأحداث الزمنية في تلك الفترة.
الكرد في عصر النبوة
برز اسم صحابي واحد في الأدبيات الإسلامية وهو الصحابي جابان الكردي وهو الاسم المعرَّب ويقابله بالكردية (كافان) أي راعي البقر. واسم ابنه ميمون الكردي التابعي العالم الذي روى عن أبيه حديثاً واحداً في مهر المرأة، وأورد ابن حجر العسقلاني هذا الاسم في كتابه (الإصابة في تمييز الصحابة).
لم يشر التاريخ إلى نشاط كردي في عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم سوى هذا الخبر عن جابان وابنه ميمون وذلك لأن الفرس كانوا هم القوة الضاربة المتصدرة وكانت الشهرة لهم، بينما اعتبر الكرد –على الأقل في الأدبيات الإسلامية– أعراب الفرس. ونوّه العديد من مفسري القرآن من أمثال الطبري وابن كثير للحضور الكردي عند تفسير آيات تتعلق بسيدنا إبراهيم الخليل كهذه الآية الكريمة: قالوا حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين
واتفق المفسرون جميعاً على أن الشخص الذي اقترح إحراق سيدنا إبراهيم هو رجل من بدو الفرس أي الكرد واسمه (هيزن أو هينون أو هدير). وتتكرر هذه المعلومة عند تفسير هذه الآية الكريمة من سورة الأنبياء ويعتبر المفسرون أن الكرد هم من الفرس، ويشير ذلك إلى أن الفرس هم أصحاب الحضارة في تلك الفترة وهم أهل المدنية والسلطة والإدارة، أما الناس في الجبال والأرياف البعيدون عن مراكز الإدارة الفارسية فقد تم اعتبارهم من بدو الفرس.
أرسل الرسول الكريم (ص) بعد صلح الحديبية رسالة إلى كسرى عظيم فارس لم يذكر فيها اسم الكرد ما يؤيد ما ذكر.
ويروى أن كسرى لما قرأ رسالة النبي الكريم استشاط غضباً ومزقها قائلاً: أيقول لي هذا وهو عبدٌ من عبيدي (ثم أرسل إلى عامله باذان باليمن أن يرسل إلى يثرب رسولين يأتيان بخبر هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي) ولما التقيا بمحمد (ص) قال لهما: قد قتل ملككم الليلة الماضية واستولى ابنه شيرويه على العرش. مما يوحي بأن دعاء النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال (مزّق الله ملكه) قد استجيب من الله تعالى. والكرد يتداولون هذه الحكاية كأسطورة يستخلصون منها ان الرسول صلى الله عليه وسلم دعا على الكرد بأن لا يصيروا دولة واحدة طول الزمان، وهذه الخرافة لا أصل لها.
إن حضور الكرد في العصر النبوي الشريف حضورٌ واهٍ ضعيف، أمام الحضور الفائق للفرس خاصة عندما يسلم سلمان الفارسي (روزبه أصفهاني) ويضع خبرته في خدمة الإسلام ويرفد الحركة الإسلامية المتنامية بثقافته العريقة وتجربته العميقة حيث كان من العلماء المعمرين الربانيين، وهو الذي أشار على النبي بحفر الخندق الذي سهّل على المسلمين صد اجتياح قريش، وكلمة خندق جاءت عن طريق سلمان الفارسي ودخلت قاموس اللغة العربية.
ورد في القرآن الكريم ذكر بعض الملوك بدون توضيح منابتهم العرقية، كالذي ورد في قصة العبد الصالح مع النبي موسى عليه السلام في الآية الكريمة من سورة الكهف: وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً حيث يذكر محمد أمين زكي في كتابه (خلاصة تاريخ الكرد وكردستان) أن اسم الملك هو هدد بن بدد من القبيلة الهذبانية الكردية، وأشار المقرّي إلى ذلك في كتابه (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب). كما أن الجودي الوارد ذكره في سورة هود جبل كردي والكلمة معربة عن المرادف الكردي (كوتي Goti) وهو اسم لعشيرة كردية قديمة أسست الدولة الكوتية المعروفة.
الكرد في عهد الخلفاء الراشدين
يبدأ دور الكرد في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دخلوا الإسلام على يد الصحابي عياض بن غنم عام 18 ﮪ، كما يذكر أن خالد بن الوليد فتح قلعة ماردين. ونعود لقول البلاذري: إن معظم القلاع في بلاد الجبل قد فتحت صلحاً لا عنوة. وذلك عندما لاحظ الكرد أن الدولة الساسانية قد بدأت تتراجع وبنيانها أخذ يتهاوى بعد انتصار المسلمين في معركة القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة، وفرار يزدجرد آخر ملوك الفرس في معركة نهاوند وأسر بناته الثلاث وسبيهن في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث اقترح علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بعدم بيعهن لئلا يتفرقن وهن أخوات فتزوجت إحداهن الحسين فولدت له زين العابدين وأخرى تزوجت عبد الله بن عمر فولدت له سالماً والثالثة تزوجت محمد بن أبي بكر فولدت له القاسم. وكان الأزواج الثلاثة لبنات يزدجرد علماء المدينة وفقهاءها.
ويذكر ديفيد ماكدويل أن الكرد في العهد الراشدي تمردوا عدة مرات حين كانت تسنح لهم الفرصة أو يرون مصالحهم مهددة في ظل الدولة الجديدة. ويذكر الشاعر والمؤرخ الكردي جيكرخوين في كتابه (تاريخ كردستان ج 1) أن معظم الكرد والفرس ساندوا الخليفة الرابع علي كرم الله وجهه في حروبه. ويذكر الدكتور أحمد حسين يعقوب في كتابه (النظام السياسي في الإسلام) أن علياً ساوى بين العرب والعجم في العطاء(الرواتب) ولعل هذا كان السبب في مساندة العجم له. إلا أن أميراً كردياً هو الخريث بن راشد الكردي استمر في تمرده على الخليفة علي بن أبي طالب الذي تمكن من قمعه بحملة قوية.
الكرد ما بعد العهد الراشدي
بدأ التململ الكردي والفارسي يتفاقم ويشتد لأن الأموين اتبعوا سياسة التمييز المطلق ضد العجم، يقول الجاحظ العباسي عن الدولة الأموية: الدولة الأموية دولة عربية أعرابية وهذه الرعونة الأموية أثارت النزعة الشعوبية المعروفة والتي تفاقمت مع الأيام وتحولت بدورها إلى نزعة متطرفة تنكر كل مآثر العرب وتجعلهم صفراً من الفضائل. والشعوبيون كانوا يسمون أنفسهم في البداية بأهل التسوية، دون الطعن في العرب كشعب أو قوم، ولكنهم في ذروة الاستلاب استشهدوا بالآية الكريمة من سورة الحجرات يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (الحجرات 13) مقللين من شأن العرب بدعوى أن الآية قدمت الشعوب على القبائل، فسموا أنفسهم الشعوبيين.
وأقول مؤيداً كلام ديفيد ماكدويل: إن نجم الكرد بدأ يلمع وبدأت شخصيتهم تتبلور وتستقل عن الفرس في ظل الإسلام، وهذا الأمر قد حدث بشكل عفوي غير متعمد، فطبيعة الاستقلال التاريخي واللغوي للكرد سمحت لهم بذلك إضافة للجغرافيا.
كما ذكر المؤرخ الإنكليزي أرنولد توينبي في كتابه قصة الحضارة أن الكرد بدأوا يتميزون عن الفرس في ظل الإسلام فقد صار معظمهم من أهل السنة بينما تحول الفرس ليصبحوا شيعة. مع أن التشيع الكردي ملحوظ من خلال التصوف الكردي عبر المشربين النقشبندي والقادري، فالنقشبندية تتكئ على شخصيتين مرموقتين في الإسلام عموماً ولدى الشيعة خصوصاً وهما سلمان الفارسي وجعفر الصادق. بينما يتكئ المشرب القادري مباشرة على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. كما يتوضح التصوف الكردي السني والإقرار بالخلفاء الراشدين الثلاثة الذين سبقوا علياً رضي الله عنهم أجمعين، فهذا أحمد خاني المتصوف النقشبندي مؤلف نوبهار يقول في مقدمة منظومته:
خليفة چارن هرچار الخلفاء أربعة
إمامن أي مسلمان الأربعة أئمة يا مسلمون
ژچاران ياك أبو بكر الأول أبو بكر
عمر عثمانه إي دي عمر وعثمان والأخير
علي يه بي تكلُّف علي
كو بو خاتم ژبو وان خاتم الخلفاء الأربع
وهكذا يستمر في تقرير مقولات أهل السنة فيذكر العشرة المبشرين بالجنة بأسمائهم واحداً واحداً حيث يقول:
مبشَّر بونه ده كَس المبشرون عشرة أشخاص
ژ أصحابان بِتعيين وهم من الصحابة
كودي بچنه بُهُشتي مبشرون بالجنة
خودي مزكيني دا وان الله أعطاهم البشرى
يتمثل التشيع الكردي السني في احترام أهل البيت النبوي واتخاذهم رموزاً روحية لا سياسية حسب النصوص الواردة والموثقة، وهذا هو الفرق بينهم وبين الفرس، فالتشيع الكردي ليس مسيساً وإنما هو روحي لا زمنيا.
ظهر الكرد ظهوراً قوياً في العصور الإسلامية المتعاقبة، فها هم يؤسسون الدولة الدوستكية في ديار بكر(آمد) وما حولها، ووهاهم يؤسسون الدولة الأيوبية القوية التي دوخت الفرنجة وحققت أعظم انتصار في تاريخ الحروب بين الشرق والغرب في معركة حطين بقيادة الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي وعمه شيركوه (أسد الدين) وها هو يأسر ملوك أوربا ويسقيهم أكواب الماء أماناً لهم، ويطلق سراحهم شهامة ونبلاً، وها هم بذلك يؤسسون عشرات الإمارات في بدليس وشهرزور وهكاري وبوطان وبهدينان وسوى ذلك.
وفي العهد العثماني كانت الإمارات الكردية مستقلة ولها قيادتها وعملتها الخاصة في بعض الأحيان، واشتهر في هذه الفترة أعلام كرد من أمثال إدريس البدليسي وشرفخان البدليسي وملاي جزيري وسيداي خاني وعلى حريري وسواهم. ولما ضعفت الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر واشرأبت النزعة القومية بأعناقها تململ الكرد وشعروا بأن إماراتهم ستضمحل بزوال الدولة العثمانية فقاموا بثورات عديدة منها ثورة آل بدرخان 1843م -وثورة عبيد الله النهري 1890 م وثورة الشيخ سعيد بيران 1925م.
الخاتمة
والكرد اليوم يقفون بأمل وألم متوازيين أمام حالة الاستلاب التاريخي المزمن، يخوضون مع الشعوب المجاورة معركة الحرية والوصول إلى شاطئ الحق والعدل والسلام، جنباً إلى جنب مع العرب والترك والتركمان وسواهم ليحققوا نموذج الأخوة والتعدد، ويبنوا الحياة الحرة الكريمة التي لا ظالم فيها ولا مظلوم.[1]