مسيرة الهجرة وجنة أوروبا الموعودة
#حسين عمر#
الهجرة قديمة قِدمَ الإنسان، ظهرت مع تشكّل التجمّعات البشرية الأولى وأصبحت أسلوباً ووسيلة للإنسان كي يحسّن وضعه المعيشي، ويستوطن أرضاً يحمي نفسه فيها من كوارث الطبيعة وكائناتها التي رفضت التأقلم في بداية ظهور الإنسان معه.
كانت الهجرة بالنسبة للتجمّعات البدائية قضية حياة أو موت, لأن البقاء في بقعة معينة (كهفاً كان أو ظلاً أو شجرة)؛ تعرّض هذه التجمّعات لفقدان متطلبات الحياة بعد فترة, كما كانت تتعرض للهجوم من المجتمعات الحيوانية وخاصة المفترسة آكلة اللحوم, بعد أن ينكشف أمر تواجدها, ولم تكن حينها أدوات الحماية وآلياتها متوفرة لدى المجتمع البدائي, فكان يعتمد على غريزة البقاء وحماية الذات من المخاطر التي تهدده، لهذا كانت الهجرة آلية إنقاذه كما هي حالها الآن, مع الفارق في تطور العقل البشري وتراكم تجاربه التي دفعته للتفكير واستخلاص النتائج من تجاربه, وابتكار أدوات يستطيع بها حماية وجوده وفرض سيطرته على البقعة التي يستوطن بها ضد الأحياء الأخرى. لقد كانت الاكتشافات المتتالية إحدى أهم التغيرات التي أدت إلى أن يفكر الإنسان بالاستقرار في بقعة معينة يرسم لها الحدود التقريبية ويحميها في مواجهة التجمعات البشرية الأخرى, وكذلك الخطر الذي كان يهدد حياة التجمع من قبل قطعان الحيوانات البرية وخاصة المفترسة منها, وفي تلك الشروط أيضاً كانت بعض التجمعات لا بل أغلبها بحاجة إلى تحسين حياة أفرادها, من خلال الانتقال أو الهجرة إلى مناطق أكثر وفرة للغذاء والصيد والماء. ومع تزايد أعداد البشر في التجمعات ازدادت معها الحاجة إلى الهجرة من مستوطنة إلى أخرى، وظهرت حاجة بعض المجموعات داخل التجمعات الكبيرة إلى ترك التجمع والهجرة لتأسيس مستوطنة جديدة خاصة بها، ومع تراكم التجارب التي ساهمت في تحفيز الخلايا العقلية /المخ/في توثيق أولوية الحاجات التي تتطلبها معيشة الإنسان؛ وبالتالي التفكير في الأساليب الممكنة استناداً إلى تراكم التجارب المتكررة لتامين تلك المتطلبات؛ كانت هذه بداية عهد الهجرات المنظمة والتي بدأت تحصل ليس فقط لتامين لقمة العيش، بل لتخفيف المخاطر والمصاعب التي كان يعانيها الإنسان من أجل استمراريته في الحياة.
لم تبدأ الهجرات المنظمة من العبث أو الرفاهية كما يمكن نعتها، بل كانت حاجة وما زالت لتحسين الأوضاع المعيشية في البداية, ومن ثم بعد ظهور تراتبية “السلطة، الزعيم ، الشيخ، القائد، … إلخ” والتي بدورها أسست لبداية صراع مخطط له بين التجمعات, فإن نتيجة تلك الصراعات قد كدّست عند بعض التجمعات مستلزمات الحياة أكثر من تجمعات أخرى, ما أدى إلى ظهور الصراع التناحري الذي أدى بدوره إلى نوع جديد من الهجرة وهي الهجرة من أجل الأمان, وتطورت لتتحول بعد ذلك أشكال السلطة إلى الهجرة السياسية والثقافية, وهو ما نعيشه في المرحلة الحالية والتي تحصل فيها أكثر الهجرات كثافة من الدول والمناطق الفقيرة والتي ترزح بالصراعات الداخلية والحروب, التي تجبر السكان الذي يعيشون ويلاتها للبحث عن طريقة يستطيعون فيها الهروب إلى دول ومناطق تنعم بالاستقرار والسلام والأمان والعمل, أو ما يمكن تسميته “مصادر العيش المريح”.
مع تطور ملكة التفكير لدى البشر وتراكم التجارب على مرّ القرون، بدأ الإنسان يختار وجهته نحو الأماكن الأكثر خصباً وأمناً من جهة, ومن جهة أخرى بدأت الهجرات نحو المناطق المجهولة رغبةً في تحسين الوضع الاقتصادي وزيادة الثروة ولو على حساب التجمعات البشرية الأخرى, والتي لم تحصل من دون حروب وحشية, بل راح مئات الآلاف من البشر ضحية نهم وجشع الزعماء أو القادة الذين ظهروا في تلك المراحل، لا بل تشكلت على مراحل مختلفة اتحادات بين تجمعات /قبائل – عشائر/ للزحف نحو مناطق مسكونة لتستولي عليها وتبيد أغلبية سكانها, ومنها الهجرات المغولية نحو الجنوب والجنوب الغربي وهجرات الأوربيين نحو أمريكا اللاتينية.
في الوقت الراهن أوروبا الوجهة الأكثر بريقاً للمهاجر, فهي غنية بما فيه الكافية من جهة, إضافة إلى وجود قوانين تحمي الإنسان, ولم يكن سكان الشرق الأوسط بمنأى عن الهجرة, فقد جرى فيها كما بقية المناطق المأهولة بالبشر، لكنها برزت على الساحة الدولية كأحد أهم المناطق التي تستمر عملية الهجرة فيها بوتيرة عالية, بسبب حالة عدم الاستقرار والصراعات الداخلية والحروب البينية التي أدت في السنوات العشر الأخيرة, إلى حصول هجرات داخلية وخارجية بعشرات الملايين.
إنّ البحث عن الأمان ومصادر العيش أحد أهم أسباب الهجرات في العصر الحديث، وتأتي بعدها الأسباب السياسية، وهي حالات فردية غالباً، لهذا استغلت الدول الاوربية موجات اللجوء للرفع من منسوب ادعاءاتها بخصوص الدفاع عن حقوق الانسان، واستغلال قضية الهجرة نحو تلميع صورتها الاستعمارية والاحتكارية الحالية، وقد نفع استقبال المهاجرين أنفسهم الذين وجودوا بيئة آمنة وإحساس بالاستقرار على الرغم من الضغوط النفسية التي يتعرضون لها يوميّاً؛ لأسباب تتعلّق باختلاف الثقافة والسلوك والتقاليد والعادات التي تتناقض في معظمها مع ما يجب أن يعايشه في المجتمع الجديد الذي قرّر الانضمام إليه، وهو ما يشكل عائقاً كبيراً أمام العديد من المهاجرين في التأقلم مع الحياة الجديدة، لهذا يتذمرون ويشتكون من نظرة المواطنين لهم، أو بعض التصرّفات العنصرية التي يبديها البعض ضدهم، وهو ما يشكل ثقافة جديدة لديه وهي ثقافة محاولة مقاطعة المجتمع، والتقوقع ضمن مجتمعه الصغير الذي تتشكّل من العوائل المهاجرة، والتي تشبهه في القيم والأخلاق كما يتم الادعاء.
وحديثنا حتى هذه اللحظة عام، يخصّ المهاجرين ذوي الأفكار والميول الدينية وخاصة الإسلامية منها، أمّا بالنسبة للمهاجرين الكرد، فمعظمهم يتأقلمون في المجتمعات الجديدة، وينخرطون في الحياة الاجتماعية، وكذلك في سوق العمل دون وضع عوائق دينية أو أخلاقية – إذا شئتم تسميها – وهم الأقل عرضة للمشاكل في المجتمع مقارنة مع بقية المهاجرين المنتسبين إلى مختلف الأقوام الشرقية والإفريقية، وهذا ما يخلق لدى المهاجر الكردي ازدواجية في الشخصية، فهو متناقض في الداخل بين الانتماء القومي الذي يدغدغ مشاعره ويحرك عقله، وبين الانتماء المجتمعي والوطني الجديد الذي وجد فيه نوعاً من الاعتراف بكينونته الإنسانية والقومية، ولهذا يحاول الانطلاق في حياته الجديدة التي تتطلب منه اهتمامات تبعده عن ارتباطاته بموطنه الأصلي.
يجدر بنا هنا أن نستعرض حالة الاغتراب التي يعيشها اللاجئ في دول اللجوء وخاصة الأطفال والشباب، والتي تدفعهم إلى أن يعيشوا وهم يمارسون حياتهم الشخصية بأسلوبين؛ أسلوب يتقاطع مع الأهل في البيت، والأسلوب الآخر هو أسلوب المجتمع الذي يعطيه مجالاً أوسع نحو تحقيق رغباته دون قيود، وهذا ما يدفعه الى اللامبالاة، وعدم الإحساس بالمسؤولية، وحتى عدم الاهتمام بتحصيل العلوم أو إكمال الدراسة الجامعية، وخاصة إذا عرفنا أنّ المجتمعات التي يعيش فيها تحتاج الى اليد العاملة أكثر من أصحاب الشهادات، ويلاقي الطالب في مراحله الأولى كمية كبيرة من مفردات التشجيع على العمل وتصعيب الاستمرار في تحصيل الشهادة، لا بل يتم دفع طلاب المرحلة الثانوية إلى العمل، وهو مسموح به عندما يبلغ الشاب/ة السادسة عشرة من عمره/ها، وعند انخراطهم في سوق العمل، وحصولهم على أموال أكثر مما يحصلون عليه من الأهل يزدادون تمسكا بالعمل، ونفوراً من إتمام التحصيل العلمي، ولهذا ترى نسبة قليلة من الأطفال في المجتمعات الغربية يتمّون دراستهم؛ لأنّ سوق العمل بحاجة إليهم أكثر، وهذا باعتقادي أحد أساليب الرأسمالية التي تعمل دائماً على تحويل المجتمع الى أدوات إنتاج تزيد من أرباحها.
هناك المئات من أصحاب المواهب العلمية تسوقهم التربية الرأسمالية هنا الى آلات لتنفيذ رغبات صاحب العمل وتنفيذ أوامره مع إعطاء بعض الحوافز التي يعتقد الشاب/ة بأنها تحقّق أمنياته، والحقيقة هي عكس ذلك، فهي تحقّق رغبة صاحب العمل على دفعه للانخراط أكثر وأكثر في العمل والاقتناع بأنّها فرصته الوحيدة في الحياة، وهو ما يفرغه من طاقاته الإبداعية، وحتى ارتباطاته القومية والوطنية والعائلية /هذا الموضع شائك ويحتاج الى مادة خاصة/.
والسبب الأهم لاستقبال أوروبا اللاجئين /المهاجرين / هي حاجتها الدائمة الى اليد العاملة بشكل دائم لأسباب تتعلق بطبيعة مجتمعاتها قليلة النمو، والذي يشكل كبار السن والمتقاعدين نسبة كبيرة منهم، ولهذا لا ينتهي نهمها لليد العاملة، ولن يتمكن من إيجادها إلا عن طريق المهاجرين، ولهذا ترى أبواب الهجرة مفتوحة، ألمانيا التي استوعبت منذ عشر سنوات أكثر من خمسة ملايين لاجئ ما زالت حسب وزاراتها المختصة بحاجة إلى مليون ونصف من العمالة الماهرة في السنوات القليلة القادمة، إنّ أطفال المهاجرين الذي وصلوا مع أهاليهم، أو ولدوا في أوروبا تعتبرهم الحكومات الاحتياطي المهم وأدوات مهمّة لسوق العمل في السنوات القادمة، ولهذا تستوعب الدول الأوروبية الهجرات المتتالية من الشرق الأوسط، وأفريقيا نحو بلدانها ضمن خطة مدروسة بسبب حاجة سوق العمل إليهم.
هؤلاء المهاجرون يتحوّلون كما السكان الأصليين إلى أدوات إنتاج تحرّك اقتصاديات الدول, كما أنها تشارك في تصريف المنتجات أيضاً من المردود الذي يحصلون عليه لقاء عملهم, وبذلك يتحرك دولاب الاقتصاد إنتاجاً واستهلاكاً. ويجدر هنا أن نذكر أن المهاجر والمواطن في الاتحاد الأوربي على سبيل المثال, لهم نفس الحقوق والواجبات ضمن الأطر القانونية، ويستفيد المهاجر في بداية وصوله إلى أوروبا من مساعدات اجتماعية تعادل راتب عامل، إذ تساعده الدولة في إيجار البيت وكذلك في دفع الفواتير والتي تُعتبر في أوروبا ضخمة نسبة إلى رواتب العمال، ولهذا ترى العديد من المهاجرين يحاولون التملص من الدخول إلى سوق العمل لأنه يفقدهم الكثير من الامتيازات الاجتماعية.
من الناحية القانونية لا فرق بين المهاجر والمواطن ولكن هناك بعض المنغّصات الاجتماعية التي يتعرض لها المهاجر من الجماعات المناهضة للجوء, وكذلك الشخصيات الفاشلة في المجتمع والأحزاب اليمينية المتطرفة, والتي ترى أنّ اللاجئين هم سبب المشاكل التي تظهر في مجتمعهم.
لقد استوعبت أوروبا خلال عشر السنوات الماضية أكثر من عشرة ملايين مهاجر من مختلف أصقاع العالم، وأغلبيتهم العظمى من دول الشرق الأوسط وأفريقيا، ولكن الأوكرانيين أيضاً بعد الهجوم الروسي دخلوا إلى أوروبا بالملايين, وحسب الإحصاءات الرسمية فقد هاجر أكثر من أربعة عشر مليون أوكراني, واستقر معظمهم في دول الاتحاد الأوربي الذي قدّم لهم تسهيلات كثيرة بحجة أنهم مؤقتين وسيعودون إلى بلدهم حين انتهاء الحرب, لكنهم بدؤوا ينخرطون في الحياة اليومية الأوربية بسبب تقارب العادات والتقاليد والبنية الفكرية, وانخرط قسم منهم في سوق العمل ولاقوا سهولة أكبر في التعامل والاستقبال وتقديم الخدمات من المهاجرين الآخرين, وهذا يعود إلى سبب واحد هو أنهم حسب الرأي الرسمي أنهم أوروبيين, ولكن السبب الرئيس يعود إلى أنهم ينتقمون من روسيا.
لقد خلق وصول الأوكرانيين إلى الدول الأوروبية والاهتمام الرسمي والشعبي بهم ومساعدتهم, حالة من النفور بين المهاجرين الآخرين بسبب إحساسهم بالفروقات الشاسعة في عملية التعاطي معهم ومع الأوكران, ولكن هذا الأمر – أمر الاهتمام الزائد – تراجع مع ازدياد أعدادهم وظهور بعض المشاكل التي سببوها, ولهذا انطفأ بريق شعلة الأوكران في المجتمع الأوربي, وأصبحوا مثل بقية اللاجئين في الشارع, ولكن من قبل الجهات الرسمية بقيت لهم امتيازاتهم الخاصة.
هناك ملاحظة مهمة وهي أن الأحزاب المناهضة للهجرة في أوروبا قد رحّبت بقدوم الأوكرانيين ودعمت الجهات الرسمية والشعبية في استيعابهم, وهذا بعكس بقية المهاجرين الشرقيين والجنوبيين ، وهذا أيضاً شكّل أحد المنغصات التي تعانيها المجتمعات الغربية والتي تدفع المهاجر إلى التراجع إلى الخلف قليلاً في قضية الاندماج المجتمعي. إن مسالة الاندماج مهمة جداً لا بل مطلوبة في الأدبيات الرسمية للدول كهدف أولي في مسالة اختلاط المهاجرين بالمواطنين, ولكن لا يتحقق ذلك الهدف إلا في أحوال نادرة, وهناك جاليات مهاجرة منذ عشرات السنين ترفض الاندماج بل تحاربه, وهنا نقصد النسبة الأكثر منهم مثل الجالية التركية التي لا تنخرط إلا بأعداد تعدّ على الأصابع في المجتمعات الأوربية, ثم تأتي الجالية المغاربية, وهاتان الجاليتان تشكلان أكثر من أربعين بالمئة من نسبة المهاجرين في دول الاتحاد الأوربي.
هناك شرخ يحصل في المجتمعات الأوربية مع تصاعد الخطاب الشعوبي واليميني المتطرّف, وخاصة الخطاب الموجّه ضدّ اللاجئين والذي يلاقي صدى لدى الشارع الأوربي, وخاصة الفئات ذات الدخل المحدود الذين يرون في المهاجرين عالة يعيشون على الضرائب التي يدفعونها للدولة, والتي تقوم بدورها أي الدولة بتقديم المساعدات العينية على شكل رواتب ثابتة لهم دون أن يبذلوا جهداً أو يعملوا, ولهذا تصاعدت الحملة المعادية للمهاجرين الذين لا يرغبون بالعمل, وترتفع المطالبات بعدم قبول دفعات جديدة منهم على الرغم من الحاجة الماسّة لليد العاملة, ويبدو أن موجة الأحزاب الشعبوية تزداد قوة وتستولي على الحكومات الأوربية واحدة تلو الأخرى, ولهذا هناك توقعات بأن يزداد ما بين أعوام 2023 و2025 انتشار الحكومات الشعبوية في أغلبية الدول الأوربية, ما يعني إمكانية تغيّر التعامل مع المهاجرين وتغيير القوانين المسهلة لمساعدتهم أو قبولهم, كما ستكون هناك إمكانيات واقعية لطرد وإعادة المئات من المهاجرين الذين لم يحصلوا على الجنسيات الأوروبية إلى بلدانهم, وهو مطلب لتلك الأحزاب الآن حتى قبل أن تستلم الحكم.
وهنا من المفيد التذكير بان الشعوب الاوربية ليست مهتمة بالأخبار اليومية ولا بما يتعرض له بقية الشعوب وخاصة المهاجرة إلى دولهم، فهم لا يفكرون بذلك بل كل تفكيرهم منصب على حياتهم اليومية والمخططات الفصلية أو السنوية التي يقررونها للترفيه عن أنفسهم وهو ما يدفعهم إلى التشكيك بأحقية اللجوء من رفضها وهذا ما يناسب الأحزاب الشعبوية المناهضة للهجرة وتستغل هذه الخاصية بشكل كبير من خلال البروبوغاندا التي ينشرونها عن اللاجئين وتأثيرهم السلبي -حسب مزاعمهم- على الوضع الاقتصادي.
إنّ وضع اللجوء إلى أوروبا يتعرّض للعديد من النقاشات داخل البرلمانات والأحزاب والحكومات هناك, وثمة موجة شعبية تناهض اللجوء, وهذه الموجة تكبر سنة بعد أخرى وتجد أتباعاً ضمن صفوف مختلف فئات الشعب, وما يزيد من حدّة هذه الموجة الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها هذه الدول, ولهذا تقوم الحكومات بتقليص الامتيازات التي تحققت بعد الحرب العالمية الثانية عن طريق الحكومات الاشتراكية الديمقراطية التي وصلت إلى الحكم في أغلبية الدول الأوربية, ونفذت خططاً اقتصادية واجتماعية لتحسين الوضع المعيشي للطبقات الفقيرة, وتقديم المساعدات الاجتماعية لهم وهو ما تحقق في فترة صعود المدّ الثوري والاشتراكي العالمي, وكانت تلك الإصلاحات سبباً رئيساً في منع التحركات الجماهيرية الثورية في أنحاء أوروبا حتى انهيار الاشتراكية المشيّدة, والتي ارتدّت على الوضع العام في أوروبا, فبدأت الحكومات بسبب الإجراءات الرأسمالية العديدة إلى محاولة تقليص تلك الامتيازات لإزالة خوف القوى المتحكمة بالاقتصاد والسلطة من التمرّد الجماهيري, كما أن فترة السبعين سنة الماضية قد غيرت الشخصية الأوربية من شخصية فاعلة اجتماعياً إلى شخصية سلبية ذاتية التفكير والنفع, وهو ما خططت له باعتقادي الليبرالية ومن ثم تتوّجت المرحلة ب “النيو ليبرالية” التي حولت الإنسان إلى آلة يتحرك حسب البرنامج الموضوع له, دون معارضة تذكر, لا بل أصبح يردد ما تقوله السلطة دون أن يعارض أو أن يحاول فهم الحقيقة. ولهذا فإن السنوات القادمة ستكون صعبة على المهاجرين في أوروبا, وخاصة الذين لا يحصلون على جنسية تلك الدول التي استوطنوا فيها, وقد يؤدي هذا إلى ظهور مشاكل اجتماعية تؤدي لصراعات لا يمكن التنبؤ بها حالياً.
خلاصة القول؛ صحيح أنّ الدول الأوربية تحاول الإظهار بأنّها ضد الهجرة، ولا تقبل المهاجرين، لكن ولأسباب إنتاجية كما ذكرنا لا تستغني عن قبول المهاجرين، بل هي بشكل ما تشجّع على الهجرة لاستمرارية تشغيل المعامل والمصانع، ليس حبّاً في اللاجئ، ولا خوفاً على حياته، لكن أعتقد أنّ السنوات القادمة، وبسبب الركود الاقتصادي والتضخم ووصول الأحزاب المناهضة للهجرة الى الحكم سيلاقي المهاجرون الجدد صعوبات كبيرة في قبولهم، خاصة كما ذكرنا منذ الآن أغلبية الدول الأوربية تلغي القوانين القديمة التي كان المهاجر يستفيد منها في بداية وصوله، تلك القوانيين التي ستصبح عائقة أمام الهجرة الواسعة كما الآن، وهناك بعض الدول تحاول وتفكر في إعادة قسم من المهاجرين إلى دولهم، أو دول أخرى تتفق معها مع حالة بريطانيا التي اتفقت مع دولة بروندي لنقل المهاجرين غير المرغوبين إليها، او كما الدنمارك التي وضعتهم في جزيرة منعزلة. لن تبقى أوروبا الجنة التي يحلم بها المهاجر بعد سنوات قليلة، والمؤشرات على ذلك بادية ظاهرة، من خلال الأزمة الاقتصادية التي ستدوم، والصراعات العالمية التي تستنزف مواردها، وسيطرة الاحتكارات على كامل مفاصل مؤسساتها.[1]