القوى المهيمنة.. بين مطرقة الشعوب وسندان أزماتها القاتلة
فوزي سليمان
يا للهول … هل وقعنا في الفخ أم أننا في الطريق القويم ..؟! قبل الإجابة على هذا السؤال، أريد أن أوضح، أو أن أقدم هذا الاقتراح، اعتبرونني السائر على عكس التيار الفكري والأيديولوجي الذي أضحى هوية شعب برمته، مع أنني فرد مؤمن ومتعمق بهما إلى حد ما، وأكاد أكون غير مرئي لأحد، كجندي مجهول لا يزال يكافح بدون صخب وجعجعة ومقابل، ومع ذلك لا بُدَّ من إطلاق بعض (الفقاعات) الإنذارية في زمن اتفق الجميع على تسميتها بالفوضى، لربما تكون صائبة أو خائبة، فإن كانت خائبة؛ فلتُرمى في سلَّة المهملات وكأن شيئاً لم يكن، وإن كانت عكس ذلك، نكون قد وفّقنا في طرح ما هو مفيد، وفي كلتا الحالتين الهدف هو فقط الحرص والخوف على ما تحقق، لا أكثر ولا أقل.
بادئ ذي بدء لا اختلاف حول أن المجتمع الكردستاني من أكثر المجتمعات التي تسعى إلى التغيير، وبنفس الشكل هي القوة الجاهزة، وعلى كافة الأصعدة، لدفع فاتورة هذا التغيير مهما بهظت، لطالما عانوا ولا يزالون من التهميش والتنكيل، وهذا الأمر – التغيير – أضحى في متناولهم مع تبنيهم لنهج واضح المعالم، من خلال منظومة فكرية لها باع طويل في مقارعة الأنظمة الحاكمة التي تسعى بشتى السبل إلى سدِّ الطريق أمام تطلعات هذا الشعب من خلال ممارسة أسوأ ما يمكن أن يتخيله الإنسان، للقضاء على الحقوق المشروعة المعترف بها دولياً وسماوياً. وبنفس الشكل؛ تُدرك القوى المهيمنة على كردستان، أن عملية التغيير الكامنة في الموروث الثقافي الكردي لن تؤثر في بقعة جغرافية محددة محصورة في جزء من الأجزاء (الأربعة لكردستان)؛ بل تتعداها لتشمل شعوب المنطقة برمتها. وبناءً عليه؛ فإنه من البديهيات أيضاً أن نجد الأنظمة الحاكمة، وعلى الأقل في تركيا وإيران والعراق وسوريا، يتفقون، وحتى بلا اتفاق، على معاداة تطلعات هذا الشعب، لدرجة إزاحة خلافاتهم وصراعاتهم التاريخية المعروفة إلى أجل غير مسمّى، رغم ظهورها في العديد من الساحات البعيدة عن حدودها، وحتى التي ضمن حدودها يتم إخراجها إلى الأطراف لمواجهة أي تحرك من شأنه تهديد (هراء الأمن القومي لتلك الأنظمة)، وكما هو معروف، ورغم كل سياسات القمع والقتل التي مورست، ولا تزال، بحق الشعب الكردي خلال المئة عام الأخيرة؛ لم تستطع النيل من إرادته وتطلعاته نحو الحرية والديمقراطية، لا بل قطع الشعب الكردي أشواطاً بعيدة في تنظيم ذاته، ليتحول إلى قوة جاهزة للاستفادة من أية فرصة مواتية له لتحقيق أحلامه، وتجسَّد ذلك في انطلاقة ثورة شعوب الشرق ضد أنظمة الحكم الأوليغارشية والتوليتارية التي أضحت حجرة عثرة أمام عجلة التطور والحرية والديمقراطية، وبإمكاننا القول إن الشعب الكردي كان أكثر جهوزية وتنظيماً مقارنة بالشعوب الأخرى للاستفادة من هذه الفرصة التاريخية، ولكن…!
فلنتفق على تقييم الواقع وبالشكل المجرّد للأحداث؛ بدءاً من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والعراق، ونطرح السؤال التالي: ما الذي استجدَّ على أرض الواقع…؟! وما الذي تغيَّر في هذه البلدان التي جميعها أطلقت شعار التغيير…؟!. هنا وباختصار شديد؛ يمكننا القول إن شعوب المنطقة تدرك وتمتلك الأجوبة على هذه الأسئلة وتستطيع توصيف الأمر أكثر من السياسيين والمحللين ومراكز الدراسات؛ لأنها هي دون غيرها تعايش تفاصيل السياسات المطبقة بكل حذافيرها، هذه السياسات التي أقحمتها في دوامة دائرة مفرغة مشحونة بالعنف والقتل والتهجير والمجاعات والأمراض الفتّاكة. وتدرك في الوقت عينه بأن زمام أمور مستقبلها وحياتها أضحى بيد الغير، تتقاذفها المصالح الدولية وصفقاتها التي يبدو أنها لا نهائية. ومن خلال تكرير وتسليط أنظمة بغيرها دون المساس بجوهر الحاكمية المطلقة المصانة قانونياً ودستورياً التي عفا عنها الزمن، وكأن هذه القوانين والدساتير منزَّلة يُحرم تغييرها، ويبرر ذلك تحت مسمى، لا يمكن تجاوز مصالح القوى المهيمنة على السياسة العالمية، وإن الإضرار بها أو حتى الاقتراب منها، فإن جميع الأوراق ستُختلط لدرجة لا يمكن معها التملص من غضب وجنون المتربعين على عرش حكم العالم. وما الفوضى التي تعصف بالمنطقة إلا خير مثال على ذلك، وهنا يقتصر دور الأنظمة القائمة على لعب دور الوصيِّ لحماية تلك المصالح، والمسلَّطة كسيف ديموقليس على رقاب الشعوب، لتجر العالم إلى نهايات يهابها الجميع، ويعد ذلك نتيجة طبيعية لسياسات الأنظمة القائمة ومن ورائها القوى المهيمنة اللتان تواجهان مطالب الشعوب بالحديد والنار والفوضى.
أجل …! شعوب العالم قاطبة وجهاً لوجه أمام تراجيديا التحضير لحرب كونية مفتعلة بدقة لا متناهية ، في هذه الحرب لا يمكننا الحديث سوى عن فرض سطوة الهيمنة وتحت عناوين ومانشيتات واهية لا معنى لها، وما يجري على الأرض ما هو إلا بمثابة الإحماء وإعادة ترتيب التحالفات والاتحادات والجبهات، كما حدث مع الاتحاد الأوروبي وانسحاب بريطانيا منها، وكذلك إعادة تحريك الخلافات القومية والطائفية حسب الضرورة وفي أكثر من بقعة جغرافية، ورغم ذلك تشير بوصلة التحركات على الأرض إلى أنه يتم العمل على حصر الأزمة في آسيا برمتها، رغم الجعجعة التي تضرب الأطراف، لأن القوى الآسيوية وعلى رأسها الصين وروسيا تحولتا فعلياً إلى قوة اقتصادية تعد من الأقوى عالمياً، وتعمل هي الأخرى على فرض مصالحها في الأسواق العالمية. ورغم ادعائهم بالاشتراكية والديمقراطية؛ إلا أن مقارباتهما من قضايا الشعوب وخاصة الشعب الكردي يفضح زيف تلك الادعاءات، لتتحولا أيضاً إلى قوى امبريالية ولكن بقناع مغاير، ضاربين مصالح وقضايا الشعوب عرض حائط المصالح. وكذلك فإن ما يجري على أطراف أوروبا ، كالحرب الدائرة في أوكرانيا، ما هي إلا بمثابة ضغط مباشر، إن لم نقل تهديد من الأمريكان لإعادتها أي أوروبا إلى بيت الطاعة والولاء، التي يبدو أن العديد من تلك الدول الأوروبية بدأت فعلياً تمتعض من السياسة الأمريكية الفظّة تجاهها، ومن هذا السرد المبسط يبدو جلياً أن الأزمة الحقيقية وكذلك الصراع الحقيقي هو بين القوى المهيمنة على العالم، وفي نفس الوقت إن ما يعمق هذه الأزمة ويطيح من هيبة الهيمنة التقليدية على العالم، هو صحوة شعوب العالم، وخصوصاً شعوب الشرق الأوسط التي تعاني منذ مئة عام بعقد مستعصية تبحث عن حلول لها، حتى أضحت هذه العقد كقنابل موقوتة تنفجر على التوالي وكان آخرها وليست الأخيرة في إيران. لتكون الصورة كالتالي؛ هناك ضغط جماهيري ضخم يهدد شكل الأنظمة القائمة التي لا تتقبَّل التغيير، وأضحت إحدى أدوات الهيمنة العالمية، وهناك ضغوطات مستترة بدأت تظهر للعلن بين القطب أو التحالف الواحد، كما هو الحال مع حلف “الناتو”، والصراعات التي كادت أن تؤدي إلى نشوب حرب بين أعضائها ولا يزال ذلك واردا في أي لحظة، كما هو الحال بين اليونان وتركيا، وكذلك الخلافات العميقة بين فرنسا وأمريكا، وبالإضافة إلى ذلك هو ظهور قوى ناشئة تناطح من أجل الحصول على حصة لها في الأسواق وثبيت موطئ قدم لها فيها. ولكن …! يبدو أن أيّاً من القوى المذكورة أعلاه لا تمتلك مشروعاً واضحاً للحل، بل على العكس من ذلك تماماً، الكل يتجه نحو التصعيد والتكتل المخيف والمرعب الذي تخشاه البشرية من وقوعه، ألا وهو اللجوء إلى الحرب النووية، التي لن يكون فيها منتصر، بل سيكون الخاسر الوحيد فيها هو الحياة.
القوى المهيمنة على العالم قادرة على إيجاد تسوية بأي شكل من الأشكال مع الأنظمة القائمة، وكذلك مع القوى المعارضة والمتناحرة معها، من خلال تقسيم مناطق نفوذ عبر صفقات علنية أو سرية، وهذا ما نشاهده على أرض الواقع في أكثر من جغرافيا، لأن الجميع يسعى إلى مصالحه دون تهميش، وجميعها ورغم الحروب المدمرة التي تديرها بالوكالة أو مباشرة، تسعى إلى تسوية يضمن لها حصتها من كعكة الدم، ولكنها تقف عاجزة أمام مطالب الشعوب المشروعة، إذ لا تقبل الشعوب بتسوية غير الحياة الحرة، وهذا ما يخلط الأوراق ويهدم المشاريع التي تتبناها القوى المهيمنة، لتتحول إلى سياسات أكثر توحشاً من خلال تمزيق الجغرافيا والمجتمعات شر تمزيق، وأمثلة سوريا والعراق واليمن وليبيا تؤكد على ذلك، وهذا الأمر – سعي الشعوب إلى الخلاص –أجبرها على التدخل المباشر وبأشكال عديدة في ساحات التوتر، وتكاد جميعها تكون متشابهة في الأداء، وذلك من خلال تسليط بعبع الإرهاب على الشعوب، لكبح جماح الشعوب، إلا أن هذا البعبع وفي أكثر من جغرافيا خرج من تحت عباءة سيطرة هذه القوى كما هو الحال في سوريا والعراق، والتي أضحت تشكل خطراً يهدد مصالح أسيادها، من خلال الخروج عن السيناريوهات المكلفة على أدائها. وفي هذه النقطة ينعكس المشهد تماماً ليأخذ دوراً مغايراً تماماً – القوى المهيمنة – يتمثل في محاربة الإرهاب ولعب دور المنقذ والمخلص من هذا الوباء، وبأسلوب احترافي – وهو أمر يشهد لها بها – حيث مدت يدها إلى أكثر من قوة تحت يافطة محاربة الإرهاب، وحقيقة هذه القوى كانت بحاجة إلى من يمد العون لها حتى لو كانت هذه اليد ذراع أخطبوط …!
والأمر الأكثر تراجيدية؛ هو أن القوى الناشئة وحتى الدول لا يمكنها إلا أن تصطفَّ إلى جانب معين دون غيره وبنفس الشكل لا تستطيع ان تنتهج سياسة – مهما كانت تسميات تلك السياسات – تجنبها الفوضى التي تجتاح العالم، وهذا ما حدث بالضبط مع الشعب الكردي في (روج آفا) سوريا، إذ تدخلت أمريكا في اللحظات الأخيرة في مدينة كوباني، هذه المدينة التي أذهلت العالم بمقاومتها الأسطورية لجحافل الظلام المسماة “داعش”، هذه الجحافل التي لم تستطع جيوش منظّمة وذات تسليح متطور من الصمود أمام تقدمها، لتسقط أمامها مدن وبلدات على التوالي كأحجار الدومينو وبشكل مخزٍ ومن دون أن تطلق طلقة واحدة، أما في كوباني، وفي الوقت الذي كان شبابها يتخبط بدمائه دفاعاً عن الشعب والأرض، كانت بعض الدول وعلى رأسها تركيا وسوريا قد أخذت وضع المتفرج وحتى الداعم ل”داعش” بشكل مباشر، ليس هذا فحسب، إنما حددت زمن لا يزيد عن الساعات لسقوط كوباني، وهذه كانت أمنيتهم التي لم تتحقق ولن تتحقق. بل على العكس تماماً بدأت بداية نهاية أحلامهم في كوباني؛ لتبدأ مرحلة جديدة أدت إلى إزالة دولتها المزعومة في العراق والشام، وأكثر من أدرك القوة العظيمة الكامنة في الكرد هم الأمريكان وحلفاؤها الغربيون، ليس هذا فحسب، بل القوة التي يمكن الاعتماد عليها والوثوق بها في مواجهة الإرهاب، عبر تحالف دولي معروف.
هذا السرد المقدم أعلاه يدركه الجميع، ولكن لنتخطى هذه اللوحة ونرسم لوحة مغايرة لها، عبر طرح أسئلة مشروعة، ماذا لو أن الغرب قام بمد يده للكرد من خلال سيناريو الإرهاب لكبح جماح الترك في تحقيق أحلامهم وأخذ زمام الأمور المنفلتة بأيديهم …؟! لأن القوى التابعة لها وبشكل خاص الحكومات التركية المتعاقبة لم تكن قادرة القضاء على تطلعات الكرد في الحرية على مدار مئة عام، وهي المهلة التي منحت لهم فعلياً لتحقيق ذلك، رغم قيامها الدولة التركية بحرب إبادة ممنهجة مستخدمة فيها كافة صنوف الأسلحة المحرم استخدامها دولياً وبدعم مباشر وصريح من الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا، والانكى من كل هذا وذاك أضحت الدولة التركية عبئاً ثقيلاً على حلفائها الغربيين وتهدد مصالحها في أكثر من ساحة، من خلال اللعب بملفات عديدة أقحمتها في مآزق لا تحسد عليها، ورغم كل ذلك وعلى العكس تماماً، استطاع الكرد خلال الخمسين عام الأخيرة من تنظيم أنفسهم من خلال تبنيهم لمشروع ديمقراطي وطريق حل ليس فقط لقضاياه، بل حتى لكافة قضايا شعوب الشرق الأوسط، وانتهاج سياسة حق الدفاع المشروع تجاه المشاريع التي تستهدف وجوده أرضاً وشعباً، وقطعوا أشواطاً متقدمة على كافة الصعد. ولكن لا تزال المصالح الدولية الفظّة تشكل عائقاً كبيراً أمام اكتساب الاعتراف الدولي في حق شعب يتجاوز السبعون مليون في تبني هويته الوطنية الخاصة به. وفي هذه النقطة بالضبط؛ لا يمكن لأي أحد أن يحافظ على مصالحه في الشرق الأوسط وفي كردستان بشكل خاص، إن لم يتفهّم حقيقة شعوب المنطقة، وخصوصاً إذا ما أخذ العصر الذي نحن فيه بعين الاعتبار، إذ إن الاقتراب الخاطئ من هذه الحقيقة كما تم التقرب قبل مئة عام من قبل القوى المهيمنة على السياسة العالمية؛ فإنها ستكون وجهاً لوجه أمام تأزيم الوضع أكثر مما هو عليه بالأساس، والتعرض لخسائر لا يرغب فيها أحد، ولذلك فإن الحفاظ على المصالح يجب ألا تتعارض مع مصالح الشعوب المشروعة، وأثبت للمرة المليون بأنه لا يمكن تهميش حقوق الشعوب أو القضاء عليها.[1]