د. عصام عبد الشافي
في الجزء الرابع من هذه السلسلة نتناول البنود الاقتصادية التي تضمنتها اتفاقية لوزان التي تم توقيعها في يوليو 1923، بين تركيا والدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وقد جاءت البنود الاقتصادية للاتفاقية في (37 مادة)، وتوزعت بين ستة أقسام، القسم الأول، ممتلكات وحقوق ومصالح، والثاني، العقود والدعاوى والأحكام، والثالث الديون، والرابع الملكية الصناعية والأدبية والفنية، والخامس محكمة التحكيم المختلطة، والسادس المعاهدات.
لوزان ورد الأصول والممتلكات والمنقولات
نصت المادة (67) من الاتفاقية على “تتعهد اليونان ورومانيا والدولة الصربية الكرواتية السلوفينية من جهة، وتركيا من جهة أخرى بتسهيل البحث عن أراضيها عن طريق التدابير الإدارية المناسبة وتسليم جميع الوثائق المتعلقة بها، ورد الممتلكات المنقولة من جميع الأنواع التي تم الاستيلاء عليها أو مصادرتها أو حجزها من قبل جيوشها أو إداراتها في أراضي تركيا، أو في أراضي اليونان، أو رومانيا، أو الدولة الصربية الكرواتية-السلوفينية على التوالي، والتي تقع بالفعل داخل الأراضي المذكورة”.
و”سيجري هذا البحث والاسترداد أيضا فيما يتعلق بالممتلكات ذات الطبيعة المشار إليها أعلاه التي استولت عليها أو احتجزتها الجيوش أو الإدارات الألمانية أو النمساوية المجرية أو البلغارية في أراضي اليونان أو رومانيا أو الدولة الصربية الكرواتية – السلوفينية، والتي تم تحويلها لتركيا أو لمواطنيها، وكذلك للممتلكات التي استولت عليها أو حجزتها الجيوش اليونانية أو الرومانية أو الصربية في الأراضي التركية، والتي تم تخصيصها لليونان أو رومانيا أو الدولة الصربية الكرواتية-السلوفينية أو لمواطنيها. ويجب تقديم الطلبات المتعلقة بهذا البحث ورد الحقوق في غضون ستة أشهر من بدء نفاذ هذه المعاهدة”.
وجاءت المادة (72) من الاتفاقية لتعزز من صلاحيات الدول المتحالفة على حساب الحقوق والممتلكات التركية، فنصت على أنه “في الأراضي التي لا تزال تركية بموجب هذه المعاهدة، فإن الممتلكات والحقوق والمصالح التي تعود لألمانيا والنمسا والمجر وبلغاريا أو لمواطنيها، والتي كان الحلفاء قد استولوا عليها أو احتلوها قبل دخول المعاهدة حيز التنفيذ تبقى في حوزة هذه الحكومات حتى إبرام الترتيبات بينها وبين الحكومات الألمانية والنمساوية والمجرية والبلغارية أو رعاياها المعنيين. وإذا تمت تصفية الممتلكات والحقوق والمصالح المذكورة أعلاه، يتم إقرار هذه التصفية”.
وأضافت: “في الأراضي المنفصلة عن تركيا بموجب هذه المعاهدة، يكون للحكومة التي تمارس السلطة هناك، سلطة تصفية الممتلكات والحقوق والمصالح التي تعود إلى ألمانيا والنمسا والمجر وبلغاريا أو لمواطنيها، في غضون سنة واحدة من دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ، وتُدفع عائدات التصفية، سواء تم إجراؤها بالفعل أم لا، إلى لجنة التعويض المنشأة بموجب معاهدة السلام المبرمة مع الدول المعنية، إذا كانت الممتلكات التي تمت تصفيتها تخص الدولة الألمانية أو النمساوية أو المجرية أو البلغارية. وفي حالة تصفية الملكية الخاصة تدفع حصيلة التصفية للملاك مباشرة. ولا تنطبق أحكام هذه المادة على الشركات العثمانية المحدودة. ولن تكون الحكومة التركية مسؤولة بأي حال من الأحوال عن التدابير المشار إليها في هذه المادة”.
أي أن النص نزع عن الحكومة التركية أية حقوق من ناحية، وأية مسؤولية عن تدابير نقل الملكية إلى الدول المنتصرة من ناحية ثانية، وكأن هذه الحكومة منزوعة الصلاحيات، وللمنتصرين أن يقرروا ما يرونه، تملكاً وتنفيذاً.
المنتصرون يتحكمون في القضاء التركي عبر المحاكم المختلطة
فرض المنتصرون إرادتهم، ليس فقط على الأوضاع السياسية والاقتصادية داخل الأراضي التركية بموجب نصوص اتفاقية لوزان، ولكن أيضاً على الأوضاع القانونية والقضائية عبر إقرارهم بفكرة المحاكم المختلطة التي تتكون أغلبيتها من أعضاء من الدول المنتصرة، فقد نصت المادة (92) على “في غضون ثلاثة أشهر من تاريخ دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ، يتم إنشاء هيئة تحكيم مختلطة بين كل دولة من دول الحلفاء من ناحية وتركيا من ناحية أخرى، تتكون كل من هذه المحاكم من ثلاثة أعضاء، يعين اثنان على التوالي من قبل كل من الحكومات المعنية، ويحق لهما تحديد عدة أشخاص يختارون من بينهم، وفقاً للحالة المعنية، عضواً ليعمل كعضو في المحكمة. ويتم اختيار الرئيس بالاتفاق بين الحكومتين المعنيتين، وفي حالة عدم التوصل إلى اتفاق في غضون شهرين من بدء نفاذ هذه المعاهدة، يتم تعيين الرئيس، بناءً على طلب إحدى الحكومات المعنية، من بين مواطني الدول التي ظلت محايدة خلال الحرب، وذلك من قبل رئيس محكمة العدل الدولية الدائمة في لاهاي، إذا لم تعين إحدى الحكومات المعنية عضوا لتمثيلها في المحكمة، خلال فترة الشهرين المذكورة، فسيكون لمجلس عصبة الأمم سلطة الشروع في تعيين هذا العضو بناء على طلب الحكومة الأخرى المعنية”.
أي أنه وفقاً لهذا النص الأولوية في التعيين والاختيار تكون للدول المنتصرة، فإذا لم تتفق تكون لمحكمة العدل الدولية، فإذا لم تتفق الدول، يصدر القرار من عصبة الأمم، مع تغييب أي دور للحكومة التركية في عملية الاختيار، وزاد الأمر سوءاً مع ما نصت عليه المادة (94) التى ذكرت أن هيئات التحكيم المختلطة المنشأة تفصل في جميع المسائل التي تندرج ضمن اختصاصها بموجب هذه المعاهدة، وتتخذ القرارات بالأغلبية، وتوافق الأطراف السامية المتعاقدة على اعتبار قرارات هيئات التحكيم المختلطة نهائية وحاسمة، وجعلها مُلزمة لرعاياها، وضمان إنفاذها في أراضيها بمجرد إخطارها بقرارات المحكمتين، دون أن يكون ذلك ضرورياً لإعلانها تنفيذية، وتتعهد الأطراف السامية المتعاقدة كذلك بأن تساعد محاكمها وسلطاتها مباشرة هيئات التحكيم الثابتة بكل طريقة ممكنة، ولا سيما فيما يتعلق بنقل الإشعارات وجمع الأدلة”.
وهو ما يعني أن القرارات التي ستتخذ بالأغلبية ستكون على حساب المصالح التركية، لأنها الحكومة التركية، وفقاً لنصوص تأسيس هذه المحاكم لا تتمتع بأية أغلبية، وتضمن الأطراف السامية المتعاقدة إنفاذ القرارات ونقل الإشعارات وجمع الأدلة، وجعلها ملزمة لرعاياها.
أين التنقيب عن الثروات الطبيعية والموارد المعدنية ومصادر الطاقة في الاتفاقية؟
قبل خمس سنوات ثارت حالة من الجدل الإعلامي، كان أغلب المروجين له عدد من الناشطين السياسيين والإعلاميين العرب المقيمين في تركيا، حول أن البنود الاقتصادية في اتفاقية لوزان تمنع تركيا من الاستفادة من ثرواتها الطبيعية ومواردها المعدنية، وتمنعها من التنقيب عن مصادر الطاقة.
إلا أنه بالعودة لنصوص الاتفاقية، وبالقراءة الدقيقة للبنود الاقتصادية التي تبدأ من المادة (64) إلى المادة (100) لم أقف بالمطلق على أي بند يتناول هذا الأمر، بل إن الاتفاقيات الإضافية التي نصت اتفاقية لوزان 1923 على ضرورة التزام تركيا ببنودها ونصوصها، لم تتطرق لمثل هذا الأمر من قريب أو من بعيد.
ففي المادة (99) الخاصة بالاتفاقيات الدولية التي كانت سارية قبل توقيع اتفاقية لوزان أكدت على أنه “من لحظة دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ ورهناً بأحكامها، تدخل المعاهدات والاتفاقيات والاتفاقات المتعددة الأطراف ذات الطابع الاقتصادي أو التقني حيز التنفيذ بين تركيا وتلك الدول المتعاقدة الأخرى الأطراف فيها”.
وهي اتفاقيات تناولت حماية الكابلات البحرية؛ وتعميم التعريفات الجمركية وتنظيم اتحاد دولي لتعميم التعريفات الجمركية؛ وإنشاء المكتب الدولي للنظافة العامة في باريس، وإنشاء معهد زراعي دولي في روما؛ والاستخدام الحر لقناة السويس، ومعاهدات واتفاقيات الاتحاد البريدي العالمي، والاتفاقيات الدولية للبرق، وتداول السيارات على الصعيد الدولي؛ وختم شاحنات السكك الحديدية الخاضعة للتفتيش الجمركي، ولوائح التصادمات والإنقاذ في البحر؛ إعفاء سفن المستشفيات من المستحقات والرسوم في الموانئ؛ ومحاربة تجارة الرقيق الأبيض؛ ومحاربة المطبوعات البذيئة.
بل إن اتفاقية لوزان قد أعطت لتركيا ميزة نوعية، حيث أكدت في المادة (100) على ضرورة التزام الدول الأطراف في الاتفاقية باتفاقية 13 أكتوبر 1919، التي تنظم الملاحة الجوية، شريطة أن تحصل تركيا، بموجب بروتوكول 1 مايو 1920، على أي استثناءات قد يجعلها وضعها الجغرافي ضرورية”.
وهو ما يعني في التحليل الأخير، أن مروجي مثل هذا المقولات حول نصوص غير موجودة، إما أنهم أكثر علماً من الحكومة التركية، أو أنهم لم يتابعوا عمليات التنقيب والاكتشافات التي قامت بها تركيا خلال الأعوام الماضية سواء في البحرين الأسود والمتوسط، أو التنقيب على الثروات الطبيعية، في عموم الأراضي التركية، والتي زادت معدلاتها ونتائجها منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في عام 2002.[1]