د. عصام عبد الشافي
في الرابع والعشرين من شهر يوليو/تموز عام 1923، تم توقيع معاهدة لوزان في مدينة لوزان السويسرية بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وعلى رأسهم بريطانيا وفرنسا، من جانب، وحكومة الجمعية الوطنية الكبرى التركية، من جانب آخر.
وتم توقيع المعاهدة في أعقاب حرب الاستقلال التركية ضد الحلفاء، وتم من خلالها تسوية أوضاع منطقة الأناضول التركية والقسم التركي الأوربي من أراضي الدولة العثمانية، وذلك بعد إلغاء معاهدة سيفر التي كانت الدولة العثمانية قد وقعتها في العاشر من أغسطس/آب 1920، تحت ضغوط الحلفاء.
واشتملت #معاهدة لوزان# على 143 مادة في أقسام عدة رئيسية، تناولت المضائق التركية، التي تم تعديلها بعد ذلك من خلال معاهدة مونترو عام 1936، وإلغاء التعهدات بشكل تبادلي، وكذلك تبادل السكان بين اليونان وتركيا، فضلًا عن الاتفاقيات المشتركة المُوقعة بين الطرفين، وغيرها، كما تضمنت نصوصًا بشأن استقلال تركيا وتحديد حدودها، كما نصت كذلك على حماية الأقليات المسيحية اليونانية الأرثوذكسية في تركيا، وكذلك حماية الأقليات المسلمة في اليونان.
وقد أثارت الاتفاقية جدلًا إعلاميًّا وسياسيًّا كبيرًا خلال السنوات الخمس الماضية، وتحديدًا بعد التحولات السياسية التي شهدتها الدولة التركية، والتحول من نظام برلماني إلى رئاسي، بعد تعديلات دستورية تمت عام 2018، وقد أسهم فريق من الكتّاب، بوعي أو بدون وعي، سواء كان ذلك عن علم أو جهل، في بناء هذه الحالة من الجدل، وللأسف الشديد أن كثيرًا من المشاركين في هذه الحالة لم يقرأوا الاتفاقية كاملة، أو يضطلعوا على النص الكامل لها.
صخب إعلامي دون قراءة دقيقة
ومن الجدير ذكره هنا، أنني عندما وقفت على الكثير من المبالغات التي ترقى إلى درجة التضليل الكامل، وخاصة من جانب عدد من السياسيين والإعلاميين والناشطين العرب في تركيا، بحثت عن النص الكامل للاتفاقية باللغة العربية على شبكة الإنترنت، فلم أجد إلا إشارات في ثنايا بعض النصوص أو المقالات، ولذلك قمت بتكليف وحدة ترجمة بإحدى المؤسسات البحثية بترجمة النص الكامل، وتمت بالفعل الترجمة والنشر في أغسطس 2020.
ومع أهمية الاتفاقية، وبمناسبة اقتراب الذكرى المئوية لتوقيعها، وتَوافُق هذه الذكرى مع انتخابات رئاسية وبرلمانية ينظر إليها الكثيرون على أنها ستكون حاسمة في تركيا عام 2023، تأتي ضرورة القراءة الدقيقة في نصوص هذه الاتفاقية، وما الذي ترتبه من حقوق والتزامات على أطرافها، وهل هناك بالفعل رغبة من بعض هذه الأطراف أو كلها في تعديل هذه النصوص أو إلغائها؟
في بنية الاتفاقية وهيكلها
انقسمت الاتفاقية إلى ديباجة عامة عن الغرض منها ومفوضي الأطراف المُوقعة عليها، ثم خمسة أجزاء أساسية تضم 143 مادة، توزعت بين 16 قسمًا، وفي بداية الديباجة جاء النص على النحو التالي: “حيث إنه قد اتحدت رغبة كل من الإمبراطورية البريطانية، فرنسا، إيطاليا، اليابان، اليونان، رومانيا، صربيا، كرواتيا، وسلوفينيا (من جانب) وتركيا (من جانب آخر) في إنهاء حالة الحرب بينهما التي كانت موجودة في الشرق منذ عام 1914، وإذ يحرص الطرفان على إعادة تأسيس علاقات الصداقة والتجارة التي تُعَد ضرورية للرفاهية المتبادلة لشعوبهما، واعتبار أن هذه العلاقات يجب أن تقوم على احترام استقلال الدول وسيادتها، فقد قررا إبرام معاهدة لهذا الغرض، وعيّنا مفوضين لهما لإتمام ذلك”.
ثم ذكرت نصًّا أسماء مفوضي الطرفين الأول والثاني بمناصبهم ومسمياتهم الرسمية في ذلك الوقت، وقد تضمّن وفد تركيا كلًّا من السادة عصمت باشا وزير الخارجية نائب أدرنه، والدكتور رضا نور بك وزير الصحة نائب سينوب، وحسن بك الوزير السابق نائب طرابزون، مفوَّضين عن حكومة الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا.
ثم جاء الهيكل العام للاتفاقية من حيث الأجزاء والأقسام والمواد على النحو التالي:
الجزء الأول: البنود السياسية (45 مادة)، وشمل قسمين، القسم الأول، البنود المتعلقة بالأراضي (من المادة 2 إلى المادة 29)، والقسم الثاني، الجنسية (من 30 إلى 36)، والقسم الثالث، حماية الأقليات (من 37 إلى 45)
الجزء الثاني: البنود المالية (18 مادة)، وتوزع بين قسمين، القسم الأول، الدَّين العام العثماني (من 46 إلى 57)، والقسم الثاني، بنود متنوعة (من 58 إلى 63).
الجزء الثالث: البنود الاقتصادية (37 مادة)، وتوزع بين ستة أقسام، القسم الأول، ممتلكات وحقوق ومصالح (من 64 إلى 72)، القسم الثاني، العقود والدعاوى والأحكام (من 73 إلى 83)، القسم الثالث، الديون (المادتان 84 و85)، القسم الرابع، الملكية الصناعية والأدبية والفنية (من 86 إلى 91)، القسم الخامس، محكمة التحكيم المختلطة (من 92 إلى 98)، القسم السادس، المعاهدات (المادتان 99 و100)
الجزء الرابع: الاتصالات والمسائل الصحية (18 مادة)، وضم قسمين، القسم الأول، مجال الاتصالات (من 101 إلى 113)، القسم الثاني، المسائل الصحية (من 114 إلى 118)، بينما تناول الجزء الخامس أحكامًا متنوعةً (25 مادة)، على ثلاثة أقسام، القسم الأول، أسرى الحرب (من 119 إلى 123)، القسم الثاني، المقابر (من 124 إلى 136)، القسم الثالث، الأحكام العامة (من 137 إلى 143).
ومن واقع هذا التقسيم، نجد أن الجزء الأول بشأن البنود السياسية شكّل 31.5% من إجمالي عدد مواد الاتفاقية، ثم الجزء الثالث بشأن البنود الاقتصادية وشكّل نحو 25.8% من إجمالي المواد، أي أن البنود السياسية (45) والاقتصادية (37) شكلتا معًا 82 مادة بنسبة 57.3% من مواد الاتفاقية، وهو ما سيتم تناوله تفصيلًا.
المادة الأولى وتأسيس السلام
نصت المادة الأولى من اتفاقية لوزان 1923 على أنه “بمجرد دخول المعاهدة الحالية حيز التنفيذ، سيتم بكل تأكيد إعادة تأسيس حالة السلام بين الإمبراطورية البريطانية وفرنسا وإيطاليا واليابان واليونان ورومانيا والدولة الصربية الكرواتية السلوفينية من جانب، وتركيا من الجانب الآخر، وكذلك بين رعاياهما. وستُستأنف العلاقات الرسمية بين الجانبين، وسيلقى الممثلون الدبلوماسيون والقناصل في الأراضي المعنية -دون الإخلال بالاتفاقات التي قد تُبرم في المستقبل- معاملة وفقًا للمبادئ العامة للقانون الدولي”.
ومع هذه البداية التأسيسية، جاءت باقي النصوص لتتناول كل القضايا والإشكاليات التي تضبط العلاقات بين هذه الأطراف، مع مراعاة أن بعض هذه الأطراف شهد تحولات جذرية خلال المئة عام التالية لتوقيع الاتفاقية، سواء في أطرافه أو حدوده أو طبيعة أنظمته السياسية، بل في أسماء هذه الأطراف ذاتها التي تغيرت كذلك مرات عدة، ومنها على سبيل المثال: الدولة الصربية الكرواتية السلوفينية التي تحولت في مرحلة من المراحل إلى الاتحاد اليوغوسلافي، ثم عادت إلى أسمائها التي تضمنتها الاتفاقية بعد انهيار هذا الاتحاد وتفككه عام 1992 إلى ست جمهوريات في العام التالي الذي تفكك فيه الاتحاد السوفييتي إلى 15 جمهورية (1991).
تساؤلات مطروحة
ورغم ثبات الدولة التركية على حدودها التي نصت عليها اتفاقية لوزان، فإنها شهدت تحولات جذرية في بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذلك في مكانتها ودورها الإقليمي في المناطق الجغرافية المتشابكة معها، لكن هل هذه التحولات يمكن أن تكون دافعة لتركيا إلى إعادة النظر في بنود هذه الاتفاقية، فإلى أي مدى ترتبط رؤية النظام السياسي التركي للاتفاقية بنتائج انتخابات 2023؟[1]