أنقرة – يعتبر مراقبون أتراك للمسار السياسي والأيديولوجي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن الزعيم التركي نجح وحزبه، حزب العدالة والتنمية، في بدايات ارتقائهما إلى الحكم في إخفاء أيّ أعراض نافرة تتجاوز قواعد وأعراف وثوابت الدولة التركية الحديثة بحدودها التي رسمتها#معاهدة لوزان# في عام 1923. انتهج الرجل ومنظّر الحزب أحمد داوود أغلو خصوصا خطابا متسقا مع أبجديات تركيا العلمانية وتولّت عقيدة “صفر مشاكل” طمأنة العالم والجوار بالأجندة الحقيقية للتيار الإسلامي الحاكم في البلاد.
سقط قناع النظام التركي بالنسخة الأردوغانية عند اندلاع “الربيع العربي” في المنطقة عام 2011. خيّل لرجل تركيا القوي أن الظروف الدولية التي فرضت معاهدة لوزان قد تبخّرت، وأن مناخا آخر يشي بإمكانية استعادة تركيا العثمانية المنقرضة التي تنهل قوتها مما تستطيع أنقرة تحقيقه من اختراقات داخل العالم العربي.
في تلك اللحظة بالذات أفصح حزب العدالة والتنمية عن إسلاموية نافرة، فيما راح أردوغان يحج إلى عواصم “الربيع” مسوّقا النسخة الأردوغانية للإسلام السياسي الزاحف إلى حكم المنطقة.
سقطت عقيدة “صفر مشاكل” نهائيا. أزيح داوود أوغلو “منظّر السلطان” لاحقا، لكن قبل ذلك باتت حواضر تركيا ملاذا لتيارات الإسلام السياسي وقياداته، وبدا أن الإسلاموية بالنسخة الداعشية وسيلة تبررها غايات أنقرة في إعادة غزو الولايات العثمانية التي سقطت بسقوط السلطنة في بدايات القرن الماضي. وللمتفحص لخارطة عمل أردوغان وصحبه في المنطقة أن يكتشف بسهولة أن “سلطان” اليوم كان يجول داخل إمبراطورية عثمانية متخيلة طامحا إلى إغراق أوراق “لوزان” داخل بحر الدماء الذي فاض في المنطقة.
الاستثمار التركي في الخارج يخفي تنامي الاستياء الداخلي من تحول تركيا إلى مركز قلاقل يحج إليه جهاديو العالم، الذين تسربوا بكثافة باتجاه العراق وسوريا
مقاربة شعبوية
خلّصت معاهدة عام 1923 اليونان وبلغاريا والمشرق العربي ودول أخرى من اللبس الجغرافي الذي علق بأشلاء الدولة العثمانية المنهارة. تعهدت تركيا بالتنازل عن مناطق عديدة بما في ذلك قبرص ومصر والعراق والسودان وليبيا، وأعيد ترسيم الحدود مع سوريا بضم مناطق سورية تشمل مرسين وطرطوس وأضنة وعنتاب وديار بكر وماردين… إلخ. وإذا ما أمعن المراقب النظر بما “اقترفته” لوزان بحق المنطقة لصالح تركيا، سيكتشف حوافز أردوغان في فرض عثمانيته الجديدة التي تثبّت ما نالته تركيا الجديدة وتسعى للفوز من جديد بما خسرته من مناطق أخرى في “لوزان”.
جال أردوغان بعد سيطرة الإخوان المسلمين على مصر وتونس عارضا على القاهرة والعاصمة التونسية نموذج تركيا الإسلاموي. كان أردوغان يستفيد من “بركة” غربية راجت بعد عام 2011 تبشر بالنموذج التركي بديلا لأنظمة الحكم الساقطة في المنطقة، ومن سياسة “صفر مشاكل” التي لم تكن قد انتهت صلاحيتها بعد، للادعاء بحمل الترياق النهائي لعلل الشرق الأوسط. أراد رجل تركيا أن يكون صدى من أصداء أعداء تركيا الحديثة في تركيا ومنهم المؤرخ والكاتب التركي الشهير قدير مصراوغلو الذي هاجم في كتابه “معاهدة لوزان، انتصار أم خدمة؟” المعاهدة والقابلين بها في تركيا معتبرا أن الأتراك تخلوا من خلال التوقيع على المعاهدة عن قيادة الأمة والاكتفاء بوطن محدود.
غير أن مقاربة أردوغان العثمانية تشبه ما تعج به الحملات الانتخابية من شعارات جوفاء مخصبة بشعبوية انتهازية لا تستند على منطق ولا تستقيم داخل إطار عقلاني رصين. فأن تنشر أنقرة قواعدها العسكرية في قطر أو الصومال أو السودان، فذلك لا يصدر عن دولة قوية كتلك التي كانت السلطنة العثمانية قديما نموذجا لها، بل عن بلد يعاني ارتباكا شاملا على المستويين الداخلي والخارجي تجعله متوسلا التوازن ما بين غرب يبتعد وشرق لا يمكن الركون إليه. ثم إن أردوغان يتجاهل أن المنطقة منذ عهد الاسقلالات خرجت من العثمانية بالمعنى العقائدي وخاضت تجارب حوّلت العثمانية إلى تاريخ لا عودة إليه.
ويجمع الاستراتيجيون على اعتبار الحراك الأردوغاني شكليا لا يغير شيئا من التوازنات الدولية حتى في حقبة تحولاتها الحالية الغامضة، ويرى هؤلاء أن قواعد تركيا العسكرية هنا وهناك لن تحوّل تركيا إلى دولة كبرى، وأنه من السخف اعتبار أن تلك القواعد الدونكيشوتية تمثل تهديدا استراتيجيا لمصر ودول الخليج وغيرها من المناطق.
ويضيف الخبراء أن التوازن الإقليمي يعتمد على حقائق دولية كبرى تخطها معاهدات ما بعد الحربين الأولى والثانية، والتي لم تهتز حتى في عصر الحرب الباردة واندثارها، بما في ذلك معاهدة لوزان الشهيرة التي لن يستطيع أردوغان المس بثوابتها وخلاصاتها.
مناورة أردوغان للمس بمفاعيل اتفاقية عام 1923 قد تنقلب ضد تركيا نفسها من قبل الدول التي تعتبر نفسها مغبونة
مناورة أردوغان
وتجمع مصادر دبلوماسية غربية على أن مناورة أردوغان للمسّ بمفاعيل اتفاقية عام 1923 قد تنقلب ضد تركيا نفسها من قبل الدول التي تعتبر نفسها مغبونة من تلك الاتفاقية لصالح تركيا. وتقول هذه المصادر أن دولا مثل روسيا واليونان قد تتذكر ما خسرته جراء ترسيم الدول الكبرى لحدود تركيا ما بعد العثمانية وتفتح على أنقرة أبوابا تم إيصادها منذ عقود، ثم إن المؤرخين قد يعيدون نبش كتب التاريخ التي تهز أركان قصة تشكل إسطنبول الحديثة وحكاية إزمير ومدن أخرى انتهى بها التاريخ لتكون جزءا من تركيا الأتاتوركية.
وتعتبر مصادر تركية معارضة أن أردوغان سعى من خلال مصر “الإخوان” إلى استعادة حكم تركيا البائد لمصر ومن خلال تونس “النهضة” بعد ذلك للإطلالة على شمال أفريقيا التي رحلت عنها العثمانية، لعل في تلك الإطلالة استعادة لماضي السلطنة في الجزائر وليبيا وتونس.
فيما يبدو واضحا أن مطالبة أردوغان للرئيس السوداني عمر البشير بمنح تركيا مؤقتا جزيرة سواكن هي عودة لخرائط عثمانية قديمة في ذلك البلد. لكن هذه المصادر تسخر من سلوك أردوغان الذي شبهته بالتجوال داخل متحف، حيث كل ما هو معروض ينتمي إلى التاريخ ولا علاقة له بالحاضر في واقعه وقواعده وتوازناته وقواعده في السياسة والأمن والاقتصاد.
ويرى محللون أن قواعد تركيا العسكرية في قطر والسودان والصومال تقوم بناء على شروط ظرفية قد ينال منها تبدل هذه الظروف.
ويضيف هؤلاء أن أردوغان يزرع حقولا بعيدة عن تركيا لحاجة مؤقتة في الصومال وقطر والسودان وليس بناء على تحالف استراتيجي طويل المدى. ويؤكد هؤلاء أن القوة العسكرية والاقتصادية لتركيا لا تتيح لها أن تتمتع بهامش مستقل عن مراكز القرار في الغرب كما في الشرق، وأن أي إعادة تحوّل في الميزان الدولي سيحوّل قوة تركيا إلى قوة رديفة لهذا الغرب أو لهذا الشرق بما لا يتوافق أبدا مع طموحات أردوغان العثمانية المفخِّخة لمعاهدة لوزان.
ويقول خبراء أوروبيون في الشؤون التركية أن التمدد التركي الذي يأخذ ذلك الشكل العسكري يمثل استفزازا لذاكرة العالم العربي المعادية للفترة العثمانية تاريخيا، كما أن الاستثمار التركي في الخارج يخفي تنامي الاستياء الداخلي من تحول تركيا إلى مركز قلاقل يحج إليه جهاديو العالم الذين تسربوا بكثافة باتجاه العراق وسوريا، ومن تراجع سمعة تركيا في العالم ولا سيما لدى الاتحاد الأوروبي، ومن تدخل بلدهم في شؤون بلدان المنطقة، بما في ذلك الانخراط العسكري الفاعل في سوريا وقبل ذلك في العراق وذلك الكامن في قواعد البلد الخارجية، بما يزعزع أمن البلد ويشرع أبواب عدم الاستقرار على مستقبله.
ولا يستبعد بعض المتخصصين في الشؤون التركية من تأثر الداخل التركي بتطورات الداخل الإيراني ويرون في تجربتي البلدين قواسم مشتركة تهدد الركائز العقدية للنظامين السياسيين. فأنقرة كما طهران يحكمها نمط من أنماط الإسلام السياسي، ويقدمان رعاية لجماعات وتيارات إسلاموية جهادية سنية وشيعية، ويتمددان داخل دول المنطقة في سعي خبيث لتوطيد نفوذ يتواجهان أو يتواطآن من خلاله.[1]