جكرخوين – للقاص مناف أوصمان
الترجمة عن الكردية: زبير زينال
في ذلك اليوم تناولنا طعام العشاء متأخراً قليلاً, وكانت زوزان قد طبخت لنا طعاماً لذيذاً (البرك) وكانت قد أعدته بشكل نموذجي – لذلك كنا جميعاً نمدح طبخها حتى تطبخ لنا مرة أخرى ولكن والدنا كان أكثر مدحاً والأصح كلنا راضين عنها دائماً. كانت زوزان أصغرنا سناً في البيت وكانت خجولة، تركت محادثاتنا بسرعة خجلاً منا ومدت يدها للتلفاز لتسمعنا الأخبار، وكانت عن الزيارة التاريخية لبريجنيف للصين، وتحول الحديث من الطعام إلى السياسة وكالعادة بدأ الجدال بين أبي وأخي الكبير، وبدؤوا بالمناقشات الحادة عن بريجنيف وماوتسي تونغ وسياستهما ومواقفهما وبعد قليل تحولت المناقشات إلى الوضع الداخلي.
أحدهم كان ينتقد السيد البرزاني والثاني ينتقد السيد الطالباني وهكذا كان دأبهم كل يوم منذ خمس عشرة سنة؛ مع أنهما كانا قد تصالحا، لكن أبي وأخي الكبير لم يتصالحا بعد, وكانا يتناقران دائماً وكل من في البيت كان يكره هذا النقاش العقيم، ومهما فعلنا كان نقاشهم حامي الوطيس دائماً وبكل جدية، وحين ملت زوزان من النقاش تركتهم، وذهبت إلى الغرفة الأخرى وبعد برهة صاحتني، وقالت: “إن همرين تناديك”. وفوراً خرجت لمقابلتها، وبالفعل كانت تنتظرني وقد أخفت كتاباً ودفتراً لها بحضنها، وترتجف من البرد، وتبسمت، وقلت لها: هل هي نفس المادة التي تكرهينها؟
ابتسمت وهزت رأسها مرات عديدة لتقول نعم. كنا نتفق في محبة كل شيء ماعدا تلك المادة أنا وهمرين. لذلك كنت أساعدها في حل الوظيفة وهي تقول: “الحمد لله إنك جاري وأنا مرتاح لذلك”, ومرة قلت لها: “لو لم أكن جارك كنت ستذهبين إلى شخص غيري ليحل لك الواجب”. ولكنها غضبت من هذا الكلام وبقيت أسبوعاً لم تزرنا فيه، وحاولت إرضاءها كثيراً، كما أحاول أحياناً مع أبي حتى رضيت أخيراً وتصالحنا، وبعد ذلك أصبحنا أكثر حباً وشوقاً لبعضنا، وقد تعودنا أكثر على سلوك بعضنا، ومرة ثانية دخلنا الغرفة وجلسنا متقابلين مثل طائرين جميلين أمام الطاولة، ووضعنا أوراقنا ودفاترنا فوق الطاولة، وعيوننا تنظر ملياً لبعضها، ودخلنا في صحبة حامية صامتة وقلوبنا تحترق شوقاً وكأننا في قاعة امتحان، وفعلاً كنا ضائقين، ولكن ليس ضمن الوظائف والدروس. وبالطرق على الباب جفلنا وكأننا استيقظنا من نوم عميق، وبسرعة حمل كل منا أوراقه وجعلها كأنه يذاكر فيها، وكما لو كنا نقوم بجرم شائن وتم القبض علينا، ولكن عندما بدت لنا زوزان من خلال الباب ارتحنا قليلاً وتنفسنا الصعداء. وقلت لزوزان: خيراً إن شاء الله يا أختي؟
زوزان: أحد أصدقائك ينتظرك أمام الباب.
الأخ: من هو؟
زوزان: لم يقل لي ولم أسأله، وإنني لم أره غير هذه المرة.
قمت غاضباً وأنا أشتمه بقلبي وأقول من تكون يبليك الله!.. ألم تكن زيارتك إلا في هذه الليلة، وخرجت لملاقاته بعد أن استمهلت همرين لبعض الوقت، وفي تلك اللحظة لو أنني التقيت بأي شخص كان كنت سأوجعه ضرباً. وكان الشرر يتطاير من عيني وعندما شاهدت صديقي معصوم أمام الباب ذهب كل ما ببالي وانقلبت الأمور رأساً على عقب، وفرحت بلقائه واحتضنته، وقبلت وجنتيه بحرارة وكأننا لم نشاهد بعضنا منذ سنين، وكل من يعرفه يتمنى لقاءه وقد جاء بشخصه إلى بيتي، وكان يكبرني بخمس سنين، وقد أنهى دراسته، وأصبح معلماً في مدرسة ابتدائية. وكانت علاقاته معنا لم تنقطع سياسياً. كان معصوم شجاعاً لا يهاب السلطة العنصرية التي أخافت شبابنا ومن لم يكن يريد أن يكون مقاوماً بطلاً مثل معصوم. وكنت دائماً أقول سأصبح يوماً مثله يفتش عني أصدقائي ويتمنوا لقائي.
ولم يكن قادماً ليطيل الحديث معي وليس من عادته ذلك، ومد رأسه إلي ليحدثني عن شيء وأخذ ينظر حواليه بالرغم من أن الليل كان قد أرخى سدوله وقال:
لقد جلبت لك ذلك الكتاب وأخرجه من عبه وناولني مطوياً وهو يحادثني قائلاً: انتبه عليه سيبقى معك عشرة أيام، ورجعت فرحاً والكتاب بيدي، وتعجبت همرين مني وتنتظر قولي لها: ما الخطب، وما هي القصة المفرحة؟ وهي تقول لي: مرك (تصغير مروان).
ماذا دهاك؟
لم أجب على سؤالها حتى تبقى في هذه الحالة الجميلة التي كنت أحبها وهي مشتاقة ومبتسمة لتسمعني وقلت لها: لا شيء همرك (تصغير همرين) وفي كل مرة عندما كانت تناديني مرك كنت أجيبها بهمرك، والكثير من الكلمات العجيبة والغريبة كانت بيننا، وكنا نتحدث دون أن يعرف أحد ماذا نقصد. وبعد تأخر الليل قليلاً لم تكن تعرف ذلك السر ولم تفهمه. وقامت تودعني وتقول إلى اللقاء مرك بعد أن ندمت لأنني لم أبح لها بالسر وبانقضاء سنين من لقاءاتنا لم نكن نخبئ أي سر عن بعضنا، إلا أن معصوم قد قال لي لا تخبر أحداً قبل أن تعلمني بذلك، مع يقيني أنني سأخبرها بالتفصيل بعد ذلك، وبعد أن نام أهلي قمت بإخراج الكتاب المغطى من تحت اللحاف وشاهدت لونه البني والأصفر، وقد اهترأ كثيراً لكثرة قرائه وإخفائه في أماكن كثيرة خوفاً من الشرطة السرية. كان العنوان واضحاً (Kime ez) ومؤلفه الشاعر جكرخوين، كنت سأطير من الفرح وصرت أقلب الصفحات وأنقله من يد لأخرى؛ كأنني أحمل طفلاً صغيراً وأحضنه كما يحضن الحبيب حبيبته وأنا أحلم بغد مشرق.
كان أبي يقول: “أي كتاب عدا القرآن لو قرأته مرة واحدة لن تكرر القراءة”. وبعد قراءتي لأشعار جكرخوين لم أؤمن بما قاله والدي وكررت القراءة والإنشاء. وكان يكبر في عيني وقلبي الشاعر جكرخوين حتى قسمت قلبي نصفين، نصف للشاعر والنصف الآخر لهمرين. وكنت أتعاطف مرة بالقسم الذي فيه همرين ومرة بالقسم الآخر، ولم أستطع التمييز بينهما حتى أجبرت على تقسيم قلبي إلى شطرين.[1]