اللغة هويَّة الشعوب
إعداد : دليل زورو
عندما يتمُّ احتلال بلد ما فإنَّ أوَّل ما يعمل عليه الاحتلال هو محاولة فرض سيطرته الثقافية على هذا البلد وطمس معالم ثقافته، وذلك بعد أن قام بالسيطرة عليه عسكرياً أو بالقوة والإرغام. تُعتبر القوة المحتلَّة المسؤول الأوَّل عن محوِ هويَّة البلاد المحتلَّة وثقافتها؛ كونها المتحكِّم بمقاليد الأمور فيه، فتعمل على تشويهِ لغات الأمم القاطنة والمتعايشة في ذلك البلد، ومنع هذه اللغة من التداول في المداولات الرسمية فيها؛ نرى ذلك جليَّاً في الاحتلال التركي الأخير على عفرين ورأس العين( سركانية)، وتل أبيض((girê sipî. وبعيداً عن هذا الاحتلال التقليدي فإنَّ الاحتلال أو الاستعمار يكون بفرض الهيمنة الثقافية واللغة؛ فما عادت الثقافات العربية مؤخراً تنتج شيئاً سوى أنَّها تقوم بدبلجة المسلسلات التركية والهندية كمثال، بالإضافة الى تقليدها الواضح والمُستوحى من مثل هذه الثقافات الدخيلة إلى مجتمعاتنا. وبالرغم من انتهاء عصر ما يُسمَّى بالاستعمار، الذي طالما عانت منه شعوب عديدة، إلَّا أنَّ آثاره ما تزال باقية؛ فما زالت اللغتان الفرنسية والإنكليزية تُدرَّسان في البلدان التي كانت تحت سيطرة هاتين الدولتين أيامَ انتدابهم على الشرق الأوسط. بالإضافة إلى أنَّه تمَّ تشويهُ لغات هذه الشعوب في سبيل الحداثة التي يدَّعيها حاملو ثقافات الدول المستعمرة؛ وخير مثال على ذلك دولُ المغرب المتأثِّرة بالفرنسية كتونس، الجزائر، المغرب وتونس، واللغة الهندية المتأثِّرة باللغة الإنكليزية بعد الاحتلال البريطاني لها وجلائِه. إنَّ أخطر ما يهدد هوية الأمم وثقافتها هو الاستعمار اللغوي والثقافي. مجتمعات الشرق الأوسط، وخاصة المجتمع الكردي، معرَّض وبشكل ممنهج إلى حملات تشويهٍ تطال كلَّ تاريخه وصولاً إلى الإبادة الثقافية المتمثِّلة باللغة والعادات والتقاليد والأعراف التي تُحدد الهوية الكردية. يتحدث القائد أوجالان عن هذه الإبادة الهادفة لمحو اللغة والثقافة الكردية في مُجلَّده الخامس من كتاب (مانفستو الحضارة الديمقراطية)، مكتوب على غلاف صفحته العبارة التالية: “دفاعاً عن الكرد المحصورين بين فَكَّي الإبادة الثقافية”، وهذا ليس إلَّا محاولات للعودة بهذه الشعوب والثقافات إلى أصالتها.
تهدفُ الهيمنة العالمية اليوم إلى تشويهِ ثقافات مختلف الشعوب في مناهج التعليم، وكما تحاول إضعاف مستوى الأداء اللغوي فيها، لدرجة وصفِ متكلِّمي اللغة الرصينة بصفات كالتخلُّف والقِدَم ومُعاقِي التقدُّم؛ ففي اللغة العربية كمثال اليوم لا أحد يجرؤ على الحديث باللغة العربية الفصحى، أمَّا في اللغة الكردية فكلُّ منطقة تدَّعي أنَّها صاحبة اللغة الرصينة، وإلى اليوم ليس هناك اتفاق مشترك تظهر فيها أصالة وعراقة وقِدم اللغة الكردية؛ فهناك الكثير من التشويه الذي طالها بسبب ما يتسرَّب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة من تراكيب لغوية بعيدة كلَّ البعد عن اللغة الأم؛ الأمرُ الذي يُهدِّد اللغة ويُضعف هويتها، وبالتالي ثقافة متُحدثِّيها.
ترتبط اللغة بالهوية والثقافة ارتباطاً وثيقاً، فاللغة في ارتباطها بالهوية أقوى من معناها اللغوي، كونها رمز للمجتمع الذي تُعبِّر عنه هذه اللغة، بالإضافة الى أنَّها أداة لتفاعله وطريقة أفراده في التفكير والتعبير، إضافة إلى كونها قضيةً اجتماعيةً ذاتَ صِلة وثيقة بهوية الوطن وشخصية مواطنيها، بالإضافة الى كونها عامل تقوية الانتماء والترابط والولاء لديهم، ونجد هذا الترابط بشكل واضح عند السفر ورؤية من يتكلَّم لغتك؛ فعندها يتملَّكك شعور قوي تجاه هذا الشخص، والتواصل معه يكون من الواجبات، بالإضافة الى البهجة المرافقة لهذا التواصل. إنَّ كلَّ من تسمعه يتكلَّم لغةً فإنَّك تعرف هويته، أو عندما يتكلَّم لغة غير لغته الأمِّ فإنَّه يظهر عليه أنَّه لا يتكلَّم لغته الأمَّ؛ فالعربيُّ عندما يتكلَّم نعرف أنَّه عربي، والكردي كذلك؛ وهكذا وهنا يكون ارتباط اللغة بالهوية ارتباطًا وثيقا وغير قابل للفصل.
أظهرتِ الدراسات أنَّ الطفل عليه أن يتعلَّم بلغته الأمِّ في أوَّل ثلاث سنوات من دراسته؛ لأنَّ تغييرها يسبب كسراً في نفسيَّته ونقصاً في شخصيته. ومهما كانت لغتك فإنَّ تفكيرك ولغة التفكير في عقلك مرتبط باللغة التي درست بها أوَّل سنوات دراستك في صغرك. كما أنَّ اللغة هي لسان الجماعة؛ ما يعكسُهُ فكِرُ هذه الجماعةِ تجده في لغتها.
الهوية: مصطلح مشتقٌّ من كلمة “هو”، ويعرِّفه علماء الاجتماع: بأنَّه الشيء الذي يُشعر الشخص بالاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه، والانتماء إليه. ذلك الشعور بالهوية والانتماء، تتضافر من أجل تشكيله مجموعةٌ من العوامل، تقف على رأسها اللغة. والهوية هنا تشمل اللغة فهي أشمل منها؛ لأنَّ للهوية ارتباطات أخرى غير اللغة؛ فبينما تُعدُّ اللغةُ هويةً فإنَّ الهوية ليست لغة.
تُعدُّ اللغة علامة وإشارة إلى الهوية الثقافية والاجتماعية. أكدت العديد من الدراسات على العلاقة بين اللغة والهوية، مثل دراسة (تشو في عام 2000م وبيكر في عام2001م). وعلاوة على ذلك يُقال: إنَّ اللغة الأمَّ لها أهمية خاصة؛ فهي جانب من جوانب الهوية العرقية؛ حيث يُنظر إليها على أنَّها شيء ثابت وموروث منذ الولادة، وكان هذا وفقاً لدراسة أجراها العالم فيشمان في عام1991م.
العلاقة بين اللغة والهوية العرقية والاجتماعية علاقة قائمة بالأساس على الإلمام باللغة الأمِّ والتحصيل العلمي؛ ففي أيِّ مجتمع لا تمثِّل اللغة مجرَّد كلماتٍ وألفاظ، بل هي أشبه بوعاء يحوي مكوِّنات ومعتقدات وخصوصيات ذلك المجتمع؛ الأمر الذي يُفسِّر سببَ اعتزازِ كلِّ شعب بلغته.
أمَّا بالنسبة للثقافة فإنَّ للتراث الثقافي جانبان أساسيان: أحدهما ملموس؛ يتمثَّل في المباني والأدوات والمدن والمدارس؛ والآخر غير ملموس؛ ويشمل المعتقدات والعادات والتقاليد واللغات. وبما أنَّ التراث الثقافي هو الذاكرة الحيَّة لكلٍّ من الفرد والمجتمع؛ فإنَّ الثقافة لا تُنتج إلَّا من خلال اللغة أيَّا كان نوعهما؛ إذ لا يمكن تخيُّل ثقافة لا تحتويها ولا تتفاعل معها أو تساهم في نقلها إلَّا لغة معيَّنة. وقد حَصَرَ المنظِّرون مسألة الهوية وَفْقَ العوامل التي تشكِّلها في اللغة والدين والتاريخ والجغرافيا والتكوين النفسي الثقافي. ومن ثمَّ فإنَّ الثقافة هي الوعاء الذي يتضمَّن كلَّ تلك المعايير؛ ومن هذا المنطلق تُعدُّ الهوية الثقافية تعبيراً في غاية الأهمية؛ إذ تُعتبر الحدَّ المكتسب من التصورات والمعارف المختلفة المحيطة بالفرد. فالهوية الثقافية في أمَّة أو حضارة هي بمثابة القَدر الثابت والجوهري الذي يُميز حضارةَ أمَّة عن غيرها من الحضارات، وهي التي تمنح الشخصية الوطنية قدراً من التميُّز عن غيرها؛ ذلك لأنَّ غلبة اللغة تأتي من غلبة أهلها ومنزلة لغتهم بين اللغات، وبطبيعة الحال يمثِّل ذلك انعكاساً لمنزلة وطنهم بين بقيَّة الأوطان؛ لذا فالحفاظ على التراث الثقافي وبُعْدِه الحضاري واللغة يُعدُّ بمثابة دائرتين متداخلتين لا يمكن انفكاك إحداهما عن الأخرى. فإذا كانت اللغة هي الفكر الذي من خلاله يتفاعل الإنسان مع مختلف المواقف؛ فإنَّ الثقافة هي ذلك الكيان المتشابك وغير الملموس الذي يفرض عليه طُرُقاً محدَّدة في التعامل مع الآخرين، ويُحدِّد استجابته تجاه تلك المواقف.
تُعتبر اللغة أبرز المعالم المساهمة في تحديد هويَّة مجتمع ما. وهناك ضِمن المجتمع نفسه يوجد تفاوت وتحديد لهوية فئة معينة منه؛ فهناك من يتحدث باللغة العامية أو ما تُسمَّى (لغة الشارع)، وهناك فئة الشعراء والكُتَّاب والأدباء. باتت قضيَّة الهوية وصلتها باللغة تُمثِّل قضية محورية وسط صراع يشهده العالم. ومع ظهور اتِّجاهٍ يدعو إلى التعددية والتفاعل الفكري والحضاري وإسقاط مفهوم الهوية والذاتية، وتجنُّب الحديث عن الغزو الفكري والثقافي؛ فإنَّ لغة وهوية الأمم باتت في خطر محتوم ما لم تستفقْ شعوبها وتدرك خطورة الانسياق وراء حملات تشويه لغاتهم بدعوى التحضُّر والتمدُّن. ولو علمت الشعوب أهمية اللغة في تحديد هويتهم التاريخية ومدى قوَّتها، ما تركوها تصل إلى هذا المستوى، وأن تفلُت من بين أيديهم؛ فاللغة إرث اجتماعي، ومن يمتلك اللغة يملك الهوية العقلية والروحية؛ وذلك لقدرة اللغة على الحفاظ على الهوية الخاصَّة بكلِّ فرد، لا هوية أمَمِهم الدينية والثقافية والاجتماعية فحسب. ومن خلال اللغة تعرَّف البشر على العديد من الحضارات القديمة وتاريخها؛ مثل الحضارة المصرية القديمة، والحضارة البابلية، وكذلك الهند واليونان؛ إذ دُوِّنت تلك الحضارات من خلال الرسومات والكتابات التي وُجدَت على جدران آثارها؛ فقد حفظت اللغة هوية تلك الحضارات، إضافة إلى ذلك، فإنَّ اللغة تحمل هموم متكلِّميها وتساهم في تنظيم سلوكهم وتفاعلهم وتعبيرهم عن مشاعرهم وتوحيد انتمائهم، فقيمتها ليست محصورة في طبيعتها كوسيلة للتواصل فقط؛ فهي أكبر من مجرَّد آليَّة للتبليغ، بل إنَّ قيمتها في قدرتها على تجسيد وتصوير الثقافة اللسانية وفكرها، وكونها جامعة بين معبِّر عن الإبداع وحامل للمعرفة ومنتجة لها، ووعاء للفكر والثقافة. علاوة على ذلك، فالتمسُّك باللغة هو السبيل الأوَّل لحماية وتحصين هويةِ أيِّ أمَّة؛ مثلما فعل اليابانيون عندما رفضوا الهيمنة الصينية؛ فقد حافظوا على لغتهم نظراً لمركزيتها في بناء الأمَّة والقومية اليابانية، وإلَّا لانصهرت هويتها وأصبحت جزءاً من الهوية الصينية.
نرى جلياً أنَّ الحفاظ على الذات يَتمكَّن بالحفاظ على اللغة، وهي بالتأكيد تُحدد هوية الشعوب الناطقة بها، ونحنُ ككُردٍ علينا البحث عن ذاتنا من خلال إحيائنا للغتنا الرصينة، والقيام بما هو واجب للحفاظ على اللغة الكردية من الاندثار والتقهقر الذي هي فيه الآن. على الكرد العودة للتاريخ القديم والبحث عن الوثائق في الأرشيفات العالمية عن كلِّ ما يخصُّ الكرد واللغة الكردية، والعودة إلى الأصل الذي انطلقت منه اللغة الكردية، وجمع هذه الوثائق وإعادة قراءتها وتنظيمها، وإطلاق حوارات بنَّاءة في سبيل الوصول باللغة إلى أصالتها؛ وهكذا سنكون قد هيَّأنا للأجيال القادمة لغةً يعتزَّون بها وتاريخاً مشرقاً بنَّاءً.[1]