الأدب والفنُّ الثوري كقيمة وجدانية مجتمعية راسخة
إعداد: ياسر خلف
=KTML_Bold=تمهيد:=KTML_End=
متى يغدو الفنُّ ثورة في زمن أمسى (النشاز) يُبجَّل كقدر أسود، أو يسرق ثقافة الشعوب وفنَّها وحضارتها أمام أنظار أصحابها المحبطين المتخبَّطين؟! ألا يعلم المستبدُّون أنَّ الفنَّ لغة الألم التي يتقنها العاشقون ويحسنون إنشادها وترنيمها بلغتها الأصيلة دونما زيف أو شذوذ؛ فهي لغة الأمَّهات التي تهدل بها لصغيرها آناء الليل؛ الحقيقة التي اتقنتها فطرتها الأزلية وهي تقارع الظلام بنور فؤادها المتهجِّد لصراط الاستقامة المخفيَّة بالنار وبارود اللصوص المستعمرين والمحتلَّين.
لم يكن الأدب والفنُّ الثوري في الثقافة والأدبيات الكردية حالة طارئة أو وليدة لفترات مرحلية، لكنَّها كانت ولا تزال حالة ثورية تعبِّر عن الشخصية والتكوين النضالي لشعب مقاوم لآلاف السنين واستمرَّت معه إلى وقتنا الراهن؛ فقد حاولت ولا تزال الدول المهيمنة والمستعمرة لكردستان النيل من إرادة الشعب الكردي من خلال محو ثقافته وفنَّه. فكما هو معلوم في ثقافة الغزاة والمحتلَّين أنَّهم يسعون بشتى السبل لفرض هيمنتهم واستعبادهم على الشعوب؛ من خلال محو ثقافتهم وأدبهم وفنَّهم وصهرها في بوتقتهم بالسياسات العنصرية والقوانين الاستثنائية التي من شأنها إبقاء الشعب الكردي في عوالم الجهل الثقافي والاغتراب الأدبي، والتعبير الفني المهجَّن والمستنسخ حسب قوالب تناسب ذهنيَّاتهم الإقصائية، وتبقي على استمرار سلطتهم الاستعمارية الإنكارية؛ حيث أٌرغِم الشعب على انتهال الأدب والفنِّ من مستنقعات ثقافة التتريك والتعريب و(التفريس: أي السعي لترسيخ الثقافة الفارسية)، وذلك حسب مناهج وأيديولوجيات ومفاهيم مبنية على أسس ومبادئ ومعطيات تاريخية غير صادقة تفتقر إلى حقيقة جذورها وتكوينها.
=KTML_Bold=تعريف الادب والفنِّ:=KTML_End=
الأدب والفن يُعدُّ بحراً واسعاً يشمل الحياة كلَّها؛ يشمل التاريخ والجغرافية والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع؛ فهو مرادف للثقافة ومتمِّمٌ لها.
يعبِّر عن التمايز والسموِّ في الحياة، ويُعدُّ غذاءً للروح ومنهلاً للرقيِّ والإبداع الإنساني والهوية التكوينية للشعوب. وهو الأفكار والأحاسيس والعواطف والمشاعر بصورتها الإبداعية؛ حيث يمكن القول: بأنَّ الأدب والفنَّ هو انعكاس لجميع جوانب الحياة الجمالية والقيمية التي تتناول الواقع وتسعى إلى تغيره نحو ما هو أحسن وأفضل وأجمل. يقول الشهيد حسين شاويش (هركول) في تعريفه للفنِّ:” يقوم الفنُّ بإعطاء الشكل واللون للحياة؛ فلا يمكننا أن نفكِّر بالربيع بدون الأزهار والورود، ولا يمكننا أن نفكِّر في الطعام بدون لذَّة وطعم؛ إذا لا يمكننا أن نفكِّر في الحياة بدون فنٍّ).
=KTML_Bold=ماهيَّة الأدب والفنِّ الثوري:=KTML_End=
فالأدب والفنُّ عبر لغته التعبيرية من أعظم وسائل الإنسان في التعامل مع واقعه وأبرز أدواته للتغلُّب على صعوباته ومشقَّاته، وخاصَّة الأدب والفنُّ الثوري الذي يُعدُّ المتنفَّس الوحيد الذي من شأنه أن يُعبِّر عن حالة الظلم والقهر والاستبداد، والذي سعت النظم المهيمنة جاهدة لمنعه وكبحه عبر سياساتها السلطوية وذهنيَّاتها الإقصائية. وفي هذا المنظور يقول قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان:” يبذل النظام السائد محاولات دؤوبة مضنية وخارقة في سبيل إطالة عمره عبر العلم والفنِّ ليس – كما يُظَن – من أجل تطوير العلم والفن (بما فيهما التقنية أيضاً)، بل في سبيل مواصلة حالته الفانية بقوَّته المتطوِّرة بشكل مذهل. إنَّه يذكِّرنا بالعناية المشدَّدة التي يُلجَأ إليها بوساطة كلِّ الوسائل العلمية والتقنية؛ بغرض معالجة مريض أصبح على شفا حفرة من الموت. حيث يلعب الفنُّ والعلم دوراً مصيرياً لا استغناء عنه في هذه المراحل من سياق الأنظمة؛ أي في فترات الأزمات الخانقة، للتمكُّن من إعادة البناء ثانية وتكوين أنظمة جديدة يمكن إحياؤها والعيش فيها. يؤول احتكار العلم والفنِّ إلى بروز قوَّة فظيعة من الهيمنة والاستعمار؛ بحيث تزوِّد بإمكانية تشكيل الفرد والانتفاع منها كما تشاء. وهي لا تقف عند حدِّ تحويل البنية الذهنية والبراديغمائيات الأساسية بما يتوافق وعالَمها الخاص؛ بل وتقوم بصنع الفرد صاحب “نظارة الحصان والقلب الصفيحة”. وبهذه العيون والأفئدة يُبلَغ بالناس إلى موجودات في حالة قصوى من الضحالة والسطحية، المنفعية، الأنانية، اللامبالاة، الظلم، اللا إحساس، التجريد، والآلية الروبوتية. تضع الرأسماليةُ الفرقَ الأكبر بالنسبة لمفهوم الجنسية في النظام؛ بحيث يكاد لا يبقى أيُّ عضو في المرأة إلا ويُبَضَّع. وهي تقوم بزخرفته بغطاء من الفنِّ عبر الآداب والروايات”.
إنَّ المتمعِّن في سيرة وتاريخ النظم الاستبدادية يدرك حجم الكارثة التي أحلَّتها بشعوبها. وربَّما تكون أكثر صورها تجلِّيا هي (الحالة الكردية)؛ التي حُرمَت من أبسط وسائل التعبير: كاللغة والأدب والفنِّ، ليصل إلى حدِّ إنكار وجوده ونشوئه. ومن هذا المنطلق يُّعدُّ الأدب والفنُّ الثوري مبدئاً وقيمة أساسية للنضال والمقاومة ضدَّ جميع أشكال الاستبداد والذهنيات السلطوية، وأحد أهمِّ وسائل التعبير الأخلاقي السياسي الأيديولوجي المرسِّخة لقيم الحرية والعدالة والديمقراطية في المجتمعات، على عكس ما تُروِّج له النظم الدكتاتورية في جعل الفنِّ والأدب أداة لتمجيد سلطانها وبُوقاً لشرعنة ظلمها واستبدادها. فالأدب والفنُّ الذي ينبت من رحم النظم التسلطية ويترعرع على بهتانها وجورها لا ينفكُّ عن كونه (ماكياجَ) لتجميل قبحها، ومادَّة جوفاء خالية من المبادئ والقيم، تماماً كتاجر مخدرات يستثمر الشرَّ لبناء دار أيتام وهو من ساهم في يُتمهم.
=KTML_Bold=الأدب والفنُّ الثوري كقيمة وجدانية مجتمعية راسخة:=KTML_End=
يُعدُّ الاختيار بين الأدب والفنِّ كقيمة مجتمعية أو أداة ماديَّة جوفاء هو الحدُّ الفاصل بين التسلطية والثورية.
وإنَّ عملية الاختيار هنا لست سهلة؛ كونها مرتبطة بشكل وثيق بالوجدان والضمير. وهنا يمكننا سوق مقولة خالدة في الضمير الإنساني لقائد ثورة الملح الهندية المهاتما غاندي عندما قال:” كثيرون حول السُّلطة، قليلون حول الوطن”. فليس من السهل أن تختار الوطن وتكرِّس روحك وأحاسيسك ومشاعرك وفكرك وقلمك في سبيل رفعة ورقيِّ مجتمعك وشعبك، وربَّما تكون الحالة الثورية في روج آفا كردستان خاصَّة وسوريا عامَّة خير مثال على هذا التناقض الفظيع بين اختيار الوطن كقيمة ومبدأ وبين اختياره كسلعة ومادة مربحة؛ فمنذ انطلاق الأحداث المأساوية في سوريا منذ ما يقارب 12 سنة ونحن نشاهد الكثير من الخلط بين الحالة الثورية والحالة التسلطية؛ حيث يُروَّج في الكثير من الوسائل الإعلامية المأجورة حالات التسلُّط الفكري والأدبي على أنَّها ثورة؛ على الرغم من كونها لا تختلف من حيث التكوين والنشوء الذهني عن النظام التي ثارت عليه، والتي كانت في الأمس القريب جُزء لا يتجزَّأ من هذا النظام السلطوي الاستبدادي، وترعرعت في كنفه، وكانت أحد أدواته الفكرية والفنية والأدبية التي مارست الإنكار والإقصاء بحقِّ الشعب الكردي، ومازالت تُمارسه بشكل أكثرَ تسلُّطاً واستبداداً بعد أن بدَّلت القناع البعثي إلى القناع الإسلاموي الإخواني الأردوغاني؛ ليتحوَّل إلى أحد أكثر وجوه الاستبداد والإنكار القومية الدينية فظاعة وإرهاباً، ربَّما لا يختلف المشهد من هذا المنظور في الساحة الكردية في روج آفا كثيراً عن الحالة السورية بشكل عام؛ فهذا الالتفاف حول السلطة والألقاب والمناصب أصاب الكثير من أصحاب ودعاة الوطنية والقومية؛ الذين تخلُّوا عند أبسط فرصة سنحت لهم عن الشعارات التي نادوا بها سابقاً ليتحوَّلوا إلى مهرولين ومنبطحين صاغرين لإملاءات وأجندات معادية لشعبهم ووطنهم، ومنخرطين في مخطَّطاتهم ومنابرهم الإعلامية والأدبية والفنية الجوفاء الخاوية على عروشها؛ لا تعبر عن الحالة الثورية والفكرية والأدبية والفنية التي تعيشها روج آفا وشمال شرق سوريا. لا يحملون أيَّ مشروع فكري أو وطني، عقيمون وعاجزون عن الإبداع، مبادئهم وشعاراتهم الرنانة تُباع وتسقط في أقرب جولة ومفترق وطني، هوس السلطة والاستحواذ على المناصب سرطان خبيث نخر ضمائرهم وعقولهم.
أمَّا على الجانب النقيض من هذه السقطة الأخلاقية لأصحاب المنافع والسلطة نجد هناك ثوَّاراً حقيقيين كرَّسوا أرواحهم وفنَّهم وإبداعهم الأدبي والفكري إلى عراقة وأصالة نسجوها من معاناة مجتمعهم ووطنهم، وجعلوا من إبداعهم الفني والأدبي والفكري جسراً ومنبعاً للنضال والبطولة والمقاومة، أمثال الشهداء: (فيان بيمان، حسين شاويش وزردشت، عيسى حسو، وأرشين، أرين، عثمان …)
قد يكون النضال مرتبطاً بمدى حبِّك وتضحيتك من أجل وطنك وشعبك، ولكن حينما تغدو الروح والأحاسيس مفعمة بسلاح الفكر ستُسطِّر ملاحم الجمال والبطولة بالأدب والفن الثوري، حينها يمكننا التأكُّد أنَّ ثورة (الموزاييك: نوع من العمل الفني المبهر على الخشب، ويكثر في البيوت الدمشقية القديمة)، من الثقافة المترابطة بأوردة الفنِّ والأدب الثوري تماماً، كما سمعناها أو ورثناها من ملاحم فنية وأدبية بطولية ك (عدولي ودرويش عبدي، ممو وزيني، سيامند وخجي، شيرين وفرهاد …). ولكن حينما يصبح رواد الفنِّ والأدب الثوري ذاتهم ميراثاً ومنهلاً لشعبهم وتتحوَّل مآثرهم إلى ذاكرة قيّمية جمعية مُفعمة بالمعنى، حينها يمكن الجزم أنَّهم أصبحوا أيقونات لا تنطفئ، قبسها كمُلهمٍ مستمرٍّ للحقيقة المجردَّة دون شكٍّ والتباس. فهؤلاء الروَّاد القادة الخالدون، والذين نسجوا بأدبهم وفنِّهم الثوري وأبدعوا وأغنوا بدمائهم الذاكرة الجمعية لشعب يسير على هدى أدبهم وفنِّهم الثوري ليكونوا استمرارية لآلاف من الشهداء الذين سبقوهم، ومن لحقوا بهم ليتحوَّل فكرهم وأدبهم وفنُّهم وملاحمهم ومآثرهم إلى ميراثٍ ومنهلٍ للإبداع والرقيِّ المجتمعي، ليس في روج آفا وشمال شرق سوريا فحسب، بل على الصعيد العالمي، ولتصبح بطولاتهم ومنابع فكرهم وأدبهم وفنُّهم الثوري مصدر إلهام لجميع الشعوب التوَّاقة إلى الحرية والانعتاق من نير الظلم[1]