#صباح كنجي#
يؤكد علماء التاريخ المعاصرون ، من خلال إستنادهم على المكتشفات الأثرية ، إن الإنسان قد غنى ورقص وعزف قبل ان يبتكر الكتابة أو يعرّف فن الرسم والنحت..
وفي بلاد الرافدين التي شهدت مهد الحضارات الأولى بتراثها الإنساني الغني ، كانت الموسيقى جزءا ً هاما ً من مكونات تلك الحضارة.
لقد دخلت الموسيقى ضمن الميثولوجيا ، كرافد أساسي ، في الطقوس و الشعائر الدينية ونصب أو تجديد المعابد والآلهه ، بالأضافة إلى الشعائر الخاصة بطقوس الموت و الإنبعاث و كل ما يتعلق بالأفراح و الأحزان.
وطالما كان للدين عند سكان العراق القدامى المكانة الأولى و المتميزة في الحياة اليومية ومعتقدات الناس ، لذا فان تأثيره في جميع النواحي و أوجه حضارة العراق القديم ، بما فيها الموسيقى ، كان جليا ً.
وإذا كانت المكتشفات الأثرية تؤكد هذه المعطيات بتفاصيلها الدقيقة ، فأنه من الأهمية دراسة طقوس وعادات الأيزيدية ، كبقايا دين عريق ، له امتداد تاريخي إلى العهد السوري ، حيث يمكن ملاحظة التواصل الحضاري بين الماضي و الحاضر في مجالات عديدة ، و منها الموسيقى ، بإعتبارها مظهرا ً هاما ً من مظاهر الحضارة القديمة في العراق التي صاحبت سكانه عبر كافة العصور على امتداد تاريخ الأقوام التي تواجدت فيه من سومريين وأكديين وبابليين وكاشيين وآشوريين وغيرهم ، وصولا ً للعصر الحالي حيث ما زال العراق المعاصر، تجمعا ً لمجموعات أثنية وعرقية ودينية متنوّعة ، بعضها قديم قدم الحضارات الأولى فيه ، لازالت بقاياه تمارس شعائرها الدينية من خلال تواصل إرثها التاريخي الديني والميثولوجي بما فيه الإرث الموسيقي الذي كان يشغل مساحة من معتقدات وطقوس العراقيين الأوائل.
ويمكن اخذ نموذج الإيزيديون المعاصرون - كمقارنة ميثولوجية - على ذلك ، اولئك الذين يربو عددهم على ( 650 ) ألف نسمه ، والذين حافظوا على عاداتهم وطقوسهم المتميزة ، التي تتداخل فيها الموسيقى على مد ّيات لا يمكن فصلها بتاتا ً، بل يمكن التأكيد إن العنصر الأهم في الميثولوجيا الأيزيدية هي الموسيقى.
وبحود معرفتي لا يوجد طقس أو مناسبه أو إحتفال لا يتم فيه إستخدام الموسيقى من قبل رجال متخصصين لهم منزلتهم الدينية المقدسة.
إن البحث سيكون مركزا ً على الموسيقى ومرادفاتها ، كدراسة مقارنة بين الماضي والحاضر ، بالأضافة إلى المدلولات اللغوية المشتركة في هذا السياق.
وإذا كنا نبغي توضيح الحقيقة عن عراقة الدين الأيزيدي من خلال الميثولوجيا من جوانب عديدة ، حيث تطرقنا في البواب السابقة إلى الأدب الشفاهي والأساطير و الأقوال و اشكال المعابد والأعياد والطقوس ، فإننا سنؤكد هذه الحقيقة من زاوية أخرى ألا وهي الموسيقى في الديانة الإيزيدية . و هو أمر غير مطروق على حد معلوماتنا لحد اليوم من لدن الكتاب والباحثين الذين كتبوا عن الأيزيدية .*
تتم المراسيم والشعائر الدينية عند الأيزيدية بمصاحبة فرق خاصة من الموسيقيين يطلق عليهم ( القوالون ) ، وهم رجال دين يتوارثون هذا الدور أبا ً عن جد ، ويتمركزون في مدينتي بعشيقة وبحزاني و بعض قرى الشيخان وباعذرة في شمال الموصل.
مَنْ هُم القوالون ومن أينَ جاءت التسمية ؟
يعتقد إلى اليوم ، حسب الدراسات التي تناولت الإيزيديه ، إن كلمة ال ( القوال ) مشتقه من كلمة ال (قول) العربية، أي أنها صفة لهم ، بحكم ترديدهم للأقوال ونصوص الأدب الشفاهي الخاص بالأيزيدية في المناسبات المختلفة ، وكذلك التراتيل و اقوال الأرباب والآلهة.
ويمكن تخطئة هذا الرأي بالرجوع إلى العهد السومري ، حيث كان لديهم كهنة و رجال دين موسيقيين يؤدون دورهم في المعبد و خارجه يطلق عليهم إسم ( كالا .. GALA ) وعند الأكديين (كالو .. KALU ) . هل هناك
ثمة ربط بين الطرفين ؟ .. أم إنها مجرد صدفة وترادف كلمات وألفاظ متقاربة ؟!
لو ابتعدنا عن المدلول اللفظي قليلا ً وعدنا إلى تفاصيل هاتين الفئتين من رجال الدين الموسيقيين لدى الإيزيديين المعاصرين والأسلاف السومريين و دققنا في الأمر بلا عصبية ، لما وجد نا إلا فارقا ً طفيفا ً، قد إقتضاه الزمن الغابر الذي مر ّ بين الدورين والذي يقدر بحوالي ( 6000 ) سنه تقريبا ً.
إن ّ بلاد الرافدين منذ مهد الحضارات الأولى ، قد شهدت تلاقح ثقافي بحكم التركيبة الأثنية والدينية المتنوعة فيها ، وهذه حقيقة قلمّا يعترف بها المؤرخون المتعصبون الذين ينظرون للتاريخ من زاوية واحدة، بعد مجيء الديانات الكتابية وبالذات بعض المؤرخين العرب المسلمين الذين حاولوا لوي عنق التاريخ وإعتبروا الأيزيدية فرقة إسلامية ضالة.
ولو عدنا إلى بعض نتائج التلاقح الثقافي في إطار هذا الموضوع تحديدا ً، نرى أن اللغة العربية بإعتبارها من اللغات الحديثة في المنطقة، قد أخذت الكثير من مفاهيم ومصطلحات اللغات السابقة، وهي ظاهرة طبيعية وموضوعية، ابتداء ً من السومرية والأكدية والآرامية وحتى الآشورية، ولو امعنا النظر في اللهجات العراقية المعاصرة الآن، لوجدنا تأثير هذا التلاقح من خلال المئات من المرادفات اللغوية بما فيها كلمة (قال) حيث لازال العراقيون بمن فيهم العراقيون العرب يلفضون الكلمة بالجيم المصرية (كال ... KAL )،وهي في اللغة السومرية ( الصوت) . إذن فان (القوالين) هم المرتلون والمرددون للألحان والتراتيل و الأناشيد الدينية عند السومريين.
نعود لجوهر الموضوع ، هل حدث إختلاف في هذا الدور ، بالنسبة لرجال الدين المنشدين عند الأيزيديه المعاصرين مقارنة بالأسلاف السومريين ؟!
يمكن التطرق إلى تفاصيل ادق واشمل في هذا المجال ، لتاكيد عمق العلاقة بين الطرفين.
فالقوالون عند الأيزيدية :
هم رجال دين متخصصون بإحياء المناسبات الدينية من خلال ترديدهم للأقوال والأناشيد والتراتيل ويتوارثون هذا الدور أبا ً عن جد، بحفظهم لكل ما يمت بصلة للأدب الشفاهي، وعندهم يُحفظ ( الدف والشباب ... defusibab ) المقدسين ، ولهم رئيس يطلق عليه (كبير القوالين) ويعتبر من كبار رجال الدين ، تجري استشارته في الشؤون المختلفة للأيزيدية من قبل المير والبابا شيخ ، و لا يجوز أن يشترك مع القوالين في تأدية هذه المهام إلا ال( كواجك) وفي مناسبات محدودة.
ويمكن تحديد ثلاث درجات لصنف القوالين وهم :
1- كبير القوالين.
2- القوالون الذين يشتركون في تأدية الطقوس ويعتمد عليهم.
3- القوالون العاديون الذين لا يشتركون تأدية الطقوس بشكل فعّال.
لقد زودتنا النصوص المسمارية السومرية بمعلومات قيمة ودقيقة تتعلق بالموسيقيين وأصنافهم وإختصاصاتهم ومراكزهم الوظيفية، ويستفاد من هذه النصوص، إن معظم الموسيقيين في العهد السومري كانوا من الكهنة ورجال الدين التابعين للمعبد ومهنة الموسيقى كانت في العراق القديم من المهن التي يتوارثونها عن الآباء1 . وأثبتت النصوص المسمارية أيظا ً( إن الموسيقيين في العراق القديم كانوا قبل أكثر من 4500سنة مصنفين إلى ثلاث درجات، وكانت الوظائف الموسيقية في المعبد حسب التخصص تقسم إلى قسمين يعرفان في اللغة السومرية بإسم ( كالا ... GALA )والثاني ( نار ... NAR)
وبالأكدية( كالو ... KALU ونارو ... NARU ) 2.
تصرف وتشير الكلمة السومرية (كالا) باللغة الأكدية(كالو) إلى الكاهن الذي يرتل ويعزف الألحان الحزينة عند دفن الموتى وغيرها من المناسبات، ويقسم هذا الصنف الى ثلاث درجات هي :
أ- كالا- ماخ GALA-MAK.
تعني هذه الكلمة السومرية الكاهن الموسيقي الكبير للغناء الحزين وهذا الصنف هو اعلى المراتب ويعود شاغرها إلى طبقة رجال الدين والمعبد.
حول هذه النقطة يمكن القول أن صفة كبير القوالين عند اليزيدية اليوم هي نفسها من حيث الأهمية والدور شكلا ً ومضمونا ً مع سابقتها الموسيقي الكبير عند السومريين.
والملاحظة الثانية إن لفظة( ماخ .. ماك MAK ) بالكردية تحديدا ً وهي لغة الأيزيديين اليوم وتلفظ كما تكتب باللاتينية والأنكليزية (ماك) هي الأم أو العرق الرئيسي ، ولا زال المزارعون الكرد يطلقون على أية عقدة في الشجرة قابلة للقص والزرع والأنبات لفظة ماك = الأم = الأصل.
إذن فإن ال ( كالا ... ماك) هي التسميه المشتركة التي كانت تطلق على اعلى مرتبة عند السومريين وهي نفسها التي تطلق على ( كبير القوالين ) اليوم عند الأيزيديين.
ب- كالا ... GALA
كالا ... KALA السومرية وكالو KALU الأكدية تعني الكاهن الموسيقي والذي يأتي بعد كالا .. ماك.
يشارك هذا الكاهن الموسيقي في شعائر دفن الموتى بإداء وظيفة الغناء والعزف على الآلة الوتريه المعروفة عند السومريين باسم( بالاك ... BALAG )، وبجانب مهامهم الموسيقية فإن هؤلاء الكهنة الموسيقيون يقومون بأداء أعمال أخرى تخص حقول وابنية المعبد وتنظيف قنوات الري لأن القسم الأعظم من اراضي دويلات المدن في العصر السومري القديم يعود إلى ملكية المعبد ، وكان الكهنة الموسيقيون من هذا الصنف يستلمون لقاء اعمالهم المواد والملابس والأصواف والفضة . 3
يوجد تشابه إلى حد ٍ كبير بين الصنفين ، ال( كالو) من السومريين الأسلاف و(القوالين ) من اليزيدية المعاصرين. فالقوالون لا زالوا يؤدون نفس المهام ، حيث إن الأيزيديون يدفنون موتاهم على انغام الموسيقى ( الدف والشباب ) المقدستان التي يعزف عليها القوالون فقط .
وتؤكد الباحثه( ايفلين كينكل) على إن:
( كان الكهنة يعزفون بالآلات الموسيقية الألحان الجنائزية ويتهيئون لإجراء مراسيم الدفن . ويشترك هؤلاء العازفون بأخذ ثمن اتعابهم من الحنطة أو الخبز وبقايا مخلفات الموتى بما فيها الصوف والملابس)4 ، وتضاف اليها الآن عند اليزيديه الحلوى والنقود.
وعند انتهاء اعياد الأيزيديه في وادي لالش الذي يتواجد فيه معبدهم الرئيسي بنفس الأسم- لالش - يقوم القوالون من أهالي بعشيقة وبحزاني مع عوائلهم بإدامة وادي لالش وتنظيفه بعد مغادرة الزائرين له ، وهي مهمة ذات امتداد تاريخي ومتوارثة ميثولوجيا ً رغم البعد السحيق زمنيا ً، اصلها كما ورد سابقا ً، تنظيف قنوات الري في العصر السوري القديم من قبل الكهنة الموسيقيين بحكم عودة ملكيتها للمعبد . 5
وتقع على عاتق القوالين أيظا ً مهمة قطف الزيتون بعد نضجه من البساتين العائدة للمعبد في وادي لالش ، الذي يستخدم زيته في إشعال نيران المصابيح عند رموز الأرباب المتواجدة فيه ليلة كل اربعاء والجمعة وايام الأعياد، ولا يشترك مع القوالين في مهمة قطف الزيتون إلا عوائلهم وابناؤهم فقط ... وهذه المهام ل( كالو) والقوالين لم تتغير في العهدين رغم مرور آلآف السنين بين الطرفين .
ج- كالا- تور GALA-TUR .
تدل هذه الكلمة السومرية على الكاهن الموسيقي الصغير أو المبتدىء أو المتدرب ، وهي شبيهة إلى حد ما لفئة القوالين الذين لا يمارسون مهمة إداء الشعائر والطقوس الدينية ويجري التعامل معهم شكليا ً كونهم من القوالين ويسميهم عامة الناس الأيزيدية : بالقوالين، وتشمل التسمية جميع أهالي بعشيقة وبحزاني سواءً كانوا من القوالين المنشدين فعليا ً أم من المحسوبين عليهم فقط ، بإختصار انه لقب عام لكافة أهالي المدينتين.
ويشترك الإيزيديون مع السومريين في جوانب أخرى اشمل ضمن سياق تأدية الطقوس الدينية ، باستخدامهم للموسيقى حيث كانت مسيرات السومريين لأيصال الآلهة إلى المعبد لا تتم إلا بإشراك رجال الدين والكهنة المنشدين وبعد إتمام طقوس خاصة مقدسة ،تقام وليمة كبرى حيث يغني فيها الكهنه.. وهي تشابه اليوم بمسألة نقل السنجق عند الأيزيديين في من قرية لأخرى أو من مكان لآخر، حيث لا يتم نقل السنجق أو نصبه في أي مكان جديد إلا بمراسيم موسيقية كبرى يؤديها القوالون من خلال فرقة كبيرة على انغام الدف والشباب ، وسط كرنفال جماهيري جميل يحيط به النساء والأطفال والشيوخ من كلا الطرفين، وتُقَبل فيه الآلات الموسيقية المقدسة بملامستها بالأيدي ووضعها على الفم أثناء مرور الموكب الذي يتقدمه القوالون مع بيرق السنجق، ويفتقد هذا التقليد الأيزيدي إلى موضوع الجنس المقدس ، ويبدو أنها المسألة الوحيدة التي لا زالت عالقة في أذهان الآخرين من غير الأيزيدية ، الذين لا زالوا يصفون الأيزيدية بألإباحية الجنسية ، واعتقد إن لهذه التهمه علاقة بتلك الطقوس السومرية التي عفى عليها الزمن بالنسبة للأيزيديين الحاليين.
يقوم الأيزيدية بإحياء إحتفالات لأربابهم العديدة بالتناوب في أيام محدودة من السنة تبدا في فصل الربيع بنيسان وتنتهي في حزيران، في المعابد التي يطلق عليها ( القبب، جمع قبة ) التي تشيد في أطراف القرى أو عند منابع المياه أو فوق التلال المحيطة بالمدن الصغيرة وبعضها في سفوح الجبال والوديان المقدسة كما هو الحال بالنسبة إلى معبد لالش .وتجري هذه الإحتفالات على مراحل حيث يتم اولا ً تجديد المعبد ( تبييضه) وفي اليوم المحدد لإنتهاء التجديد، يجتمع الأيزيديون في باحة المعبد الذي يتوسط الجلوس فيه رجال الدين وبضمنهم القوالين ( المنشدين الموسيقيين) والكواجك ومع الأنغام والأقوال الدينية الخاصة بمناسبة ذلك الرب ( الخودان) التي يؤديها الكورس تتعالى هلاهل النساء المتميزة وصيحات المتجمعين التي تعكس الفرح والإيمان ، وأثناء ذلك يتم تناول الطعام المقدس ، حيث تنصب المائدة الكبرى والطويلة على بساط من الصوف ، وهي حصيلة موائد آتية من كل البيوت ، وكل حسب إمكانياته ، التي تحوي صنوف الطعام من اللحم والبرغل والرز والحلويات ، ويجري تناول الطعام بعد أن يتلو رجل الدين المكلّف في تلك المسية قول ( السماط ) المبارك ، يدعو الجميع للتقدم نحو المائدة المباركة، بعد أن يتناول هو شخصيا ً أول لقمة وسط تعالي أصوات الهلاهل ونقر الدفوف من قبل القوالين .
وبعدها يعلن الأحتفال الجماهيري الكبير على انغام شجيه وحماسية تصاحبها من جديد هلاهل نسائية عالية ومتواصلة وصرخات الرجال والأطفال الجماعية ، ليكون اليوم التالي خاصا ً لطوافة معبد ( الخودان ) المذكور ، وفي اليوم التالي تستمر الدبكات الراقصة الكبيرة وغالبا ً ما يشارك فيها أهالي القرى المجاورة والضيوف والزوار من غير الأيزيديين.
ويستمر هذا التقليد متنقلا ً من معبد ٍ لآخر ومن قرية ٍ لاخرى لفترة تدوم أكثر من اربعين يوما ً تبدأ من نيسان وتنتهي في نهاية حزيران وهو ما يعرف بالطوافات ، التي هي مهرجانات جماهيرية موسيقية راقصة ، تبدأ بأول طوافة للشيخ مهمد في مدينة بعشيقة وتنتهي في قرية الجراحية بطوافة بير مند.
هنا يمكن إن نؤكد على مسالتين هامتين :
الأولى: أن الطقوس الأساسية (الجوهرية ) تتم من خلال رجال الدين المنشدين ( القوالين ) أصحاب الالات الموسيقية المقدسه ( ألدف والشباب ).
الثانية : وهي امتداد للأولى واوسع منها وتأخذ طابعا ً جماهيريا ً، تكون من خلال إحتفالات كبرى يشترك فيها العازفون العاديون من الطبالين وعازفي الزرنه والمزوج.
ولو عدنا إلى العهد السوري ، لوجدنا عندهم المناسبات المهمة التي تقدم فيها الموسيقى وفي المقدمه منها ( عملية بناء المعبد الجديد أو تجديد بناء معبد قديم ) 6
وقد ورد في نص مسماري آخر من زمن الحاكم (كوديا ) الذي حكم بلاد سومر سنة 2100-2080 ق.م. وصف لدور الموسيقى خلال عملية بناء معبد الاله ننجرسون في لكش ، وأن كوديا قدم الهدايا للآله المذكور ومن ضمنهما الالة الموسيقية بإسم (بالاك - BALAG ). وعند قيام كوديا بسكب الماء في قالب اللبن ، عزفت الموسيقى على آلتي ( يسم وآلا) وهي نفس الآلتين التي يعزف عليها في صحن المعبد الأمامي بعد إكمال البناء . كذلك هناك نصوص تؤكد إن الموسيقى الدينيه كانت تقدم في صحن المعبد حيث كان ( كيسال - Kisal) وهو صحن المعبد والمكان المهم للموسيقى في عهد سلالة أور الثالثة سنة 2050-1950) ق . م
وكان يتوج الإحتفال في المعبد السومري بإنشاد قصة الخليقة ، وهو نفس التقليد السائد لدى الإيزيدية اليوم ، حيث لا يخلو أي إحتفال ديني لأي رب من اربابهم هذه ، من تلاوة قصة الخليقة حسب المفاهيم الخاصه للأيزيدية .
وضمن سياق الأرث الموسيقي المشترك بين السومريين والأيزيديه ، تأتي الشعائر الخاصة بدفن الموتى وفكرة الأنبعاث والخلود ، والتي تحتل مكانا ً هاما ً لدى الأيزيدية في المقدمة تلك الطقوس، حيث تشارك الموسيقى بقسط كبير في عملية الدفن ومراسيم التعزية، تبدا من لحظة إخراج الميت من داره إلى المقبرة بمصاحبة القوالين الذين يتقدمون النعش وموكب المشيعين، وهنا تجدر الإشارة إن القوالون يؤدون الموسيقى الحزينة المتميزة الخاصة بالدفن ويتواصل اداؤها من الدار قبل رفع نعش المتوفي والى حين الأنتهاء من الدفن، مع ترديد الأقوال المحفوظة على الميت ومنها قول (سه ره مه ركى Seremerge).
ويستمر العزف يوميا ً مساء ً في دار المتوفي لمدة سبعة أيام متتالية وفي يوم الأربيعين وبعد مرور سنة على وفاته وتتخللها نهارا ً زيارة قبر المتوفي من قبل النساء مع القوالين في أيام الأعياد والمناسبات الدينية وأيام الأربعاء ، وعلى القبور تندمج نواحات النساء وضرباتهم على الخدود والصدور مع انغام العازفين. وتقدم العطايا والحلويات وبعض الأطعمة ، وتشارك إحدى النساء في الأنشاد من خلال ذكرها لمناقب المتوفي وعطاءاته للناس وتقواه أو تشيد بشبابه ورجولته وإنسانيته.... الخ.
ويمكن أن نربط وبدون تردد بين هذه الطقوس المتميزة عن الأيزيديه وإسلوب دفن الموتى في العهد السوري الذي لم يشذ عن هذه الظاهرة ، حيث يؤكد صبحي رشيد بأن الموسيقى كانت تشارك بقسط كبير في الشعائر الخاصة بدفن الموتى ، كما اوضحت لنا الطقوس واللقى الأثرية التي عثر عليها في المقابر الملكية في (اور ) بالأضافة إلى الطقوس الأخرى التي تشير إلى استخدام الموسيقى بعد الموت في عهد الملك السومري اورنامو Uornamo . حيث ورد في هذا النص رثاء الملك اور نامو والحزن الذي استمر مدة عشرة أيام من بعد وفاته والقيام بالنواح بمصاحبة الآلات الموسيقية .
ومن عهد الحاكم اور و كانجا Urukagina ، جاءت نصوص مسمارية تشير إلى علاقة الموسيقى بدفن الموتى ، وان هذه النصوص فرقت بين عمليتين لدفن الموتى وحددت الأجور التي يدفعها أهالي الميت للقائمين بها حسب الغنى والفقر . ويلاحظ تشابه مراعاة الفارق الطبقي عند السومريين والأيزيدية في هذا الموضوع .
حيث يدفن الأيزيدي الفقير من خلال فرقة موسيقية صغيرة مكونة من عازف واحد أو اثنين من العازفين على الدفوف والشباب ، والغني من خلال فرقة موسيقية اكبر ليصل عددهم إلى 6 أو 8 أو أكثر ، وتزداد تبعا ً لذلك العطايا والهبات المقدمه لهؤلاء المنشدين من ذوي الميت ويزداد تبعا لذلك الزمن الذي يجري فيه العزف إكراما ً للميت تناسبا ً مع منزلته وعطاءات ذويه وقد جرت مراعات هذه المسألة بالذات في عهد اورو كاجينا الذي يعتبر مصلحا ً إجتماعيا ً ، حيث أصبحت مكافأة الكاهن المنشد على الفقير نصف كمية الحبوب التي يتسلمها من ذوي الغني الميت.
يتطلب اداء الموسيقى عند الإيزيديين ضوابط فنية معينه أثناء تأدية الطقوس والشعائر الدينية ، وتتواجد فواصل بين الأحاديث والأقوال والتراتيل ضمن ترددات صوتيه منفصلة . وهناك فقرات للموسيقى والعزف منفردة من دون ترديدات صوتيه -كلاميه- وفصول متداخلة بين العزف والأقوال تقدم بحماس وترددات نغمية اعلى ، تزيد من حماس الحاضرين الذين يصلون إلى حالة من الإندماج مع الجو الموسيقي – الديني فيتحولون من سامعين إلى مشاركين بهذه الطقوس بالهلاهل والأصوات المتعالية التي تعكس حالة الإندماج الروحي بين الطرفين ( العازفين والجمهور ).
وهناك ضوابط تحدد أسلوب الأداء بين أفراد المجموعة المنشدة بشكل يحافظ على توزيع الأدوار الفردية والجماعية بلا خلل حسب مقتضيات الطقس والمناسبة ويتناوب أحيانا ً شخصين أو فريقين على تأدية هذه الأدوار .. وتحدد المناسبة أسلوب العزف ، حيث هناك عزف متميز للموتى والمناحات والأحزان وعزف مختلف للمناسبات الأخرى من أفراح ، وتتميز في هذا المجال موسيقى ( عيد ايزيد ) الذي يعقب فيه ما يطلق عليه ال (محتر) في الساعات الأولى من الفجر ويصادف يوم الجمعة ويكون من خلال صعود القوالين إلى الأسطح العالية وتأدية عزف خاص بالمناسبة قد يشترك معهم من مكان اخر عازف الزرنه الذي يؤدي هو أيظا ً لحنا ً خاصا ً ومتميزا ً بالعيد يسمى ( بالميترخانة) وخلال ذلك تتعالى أصوات النساءبالهلاهل ويقوم الرجال بإطلاق العيارات الناريه،لحين إنبلاج الصباح حيث يتسابق الجميع لمعايدة الأهل والأقرباء وتتوجه فيه النساء مع القوالين نحو المقابر لزيارة الموتى مع هداياهم لإستكمال طقوس العيد المهمة.. وهناك أيظا ً موسيقى متميزة بعيد الجماعية في وادي لالش تستمر طيلة أيام العيد يجري خلالها ذ بح الثور وقيادته من معبد الشيخ آدي إلى المذبح الكائن بالقرب من معبد الشيخ شمس وهو ما يعرف ( بالقباغ ) الذي تترافق فيه مع العزف إطلاق العيارات الناريه من قمة الجبل ، بالإضافة إلى الموسيقى المرافقه لنصب تخت ليزيد ( بري شباكي )
وغيرها من المناسبات العديدة .
إن أسلوب إعداد الكهنة الموسيقيين لدى السومريين والأيزيدية متشابهان في كافة الصيغ ويستلزمان توفر نفس الشروط والأمكانيات وأهمها :
1- أن يكون العازف من عائلة المنشديين الدينيين عند السومريين ومن سلسلة القوالين لدى الأيزيدية وكلاهما يتوارثان هذه أبا ً عن جد كأنها مهنة خاصة بهم حقا ً.
2- حفظ النصوص والتراتيل الدينية وقصص خلق الكون والإنسان والأقوال الخاصة ( بالآلهة عند السومريين، والأرباب ، الخودان ، الخاس عند الإيزيديين ).
3- لكل طقس أو عيد أو مناسبه دينيه ، شعائر خاصة وعزف متميز .
4-ضبط أسلوب الأداء ( اللحن ) لعدم وجود نوته موسيقيه مكتوبه من خلال التدريب والممارسة المستمرة ويتولى هذه المهمة المنشدون القدامى في تدريبهم للآخرين في المعابد والأماكن المقدسة .
5- معرفة النص المطلوب من خلال الأداء - اللغة ، والأداء- اللحن ، تلافيا ً لأي خطأ متوقع وهو أمر نادر جدا ً.
6- إجادة العزف على أكثر من آله والتخصص على نوع منها .
7- لا يجوز للعازفين حلق لحاهم وشواربهم ويفضل أن يكونوا بالغي السن من المتجاوزين العشرين عاما ً.
وإذا كان القوالون تابعين للمعبد كالكهنة والعازفين الدينيين عند السومريين فإنهم اليوم باتوا شبه مستقلين يؤدون مراسم العمل من خلال إتفاق مع المير والبابا شيخ وبذلك يحصلون على جزء من واردات الأعياد والمناسبات بألاضافة إلى الواردات العائدة لهم مباشرة من خلال طقوس الدفن وزيارة المقابر، وهذا يتطابق إلى حد كبير مع وضع ( الكهنة الموسيقيين) عند السومريين حيث كانوا تابعين للمعبد بشكل مطلق في العهد السومري القديم ( إلا أن الحال قد تغير منذ العهد السومري الحديث 2100-1950 ق.م. بظهور جماعة من الموسيقيين لا يتبعون المعبد وانما لقصر الملك ) 7
لقد حاولت قد المستطاع أن يكون الموضوع شاملا ً لكل ما يتعلق بمسألة الموسيقى عند الأيزيديه ، لكن الأمر يتطلب دراسات اعمق وأشمل من ذوي الأختصاص ومن المؤكد إن الباحث المتخصص في شؤون الموسيقى سيكشف عمق العلاقة بين السومريين والأيزيديين من خلال الموسيقى وهذا ما وددنا تسليط الضوء عليه عبر جهدنا المتواضع في هذا الميدان..
الهوامش
• الموضوع فصل من بحث يعده الكاتب حول الأيزيديه.نشر في مجلة روز العدد 3
• ألقى د خليل جندي محاضرتين في جامعة كيوركي- اوكومست بمدينة كوتنكن القسم الايراني حول القوالين والموسيقى الدينيه وكيفية تعليم اصول الدين الأيزيدي سوف تنشر هذه الموضوعه باللغة الكرديه في مجلة ( ده نكي ئيزيدان ) للمنتدى الثقافي للديانة الأيزيدية في اولدنبورك ... الملاحظه من مجلة روز.
المصادر:
1- الموسيقى في العراق القديم -تأليف د. صبحي رشيد، اصدارات وزارة الثقافة والأعلام العراقيةبغداد 1988 صفحه76
2- نفس المصدر ص76
3- نفس المصدر ص77
4- رحلة إلى بابل القديمة ..تأليف ايفلين كينكل براندت ، اصدار دار الخليل دمشق 1995 ترجمة د.زهدي الداؤودي
5- الموسيقى في العراق القديم ص77
6- نفس المصدر ص44.
7- نفس المصدرص45.[1]