مؤامرة استنزاف القوة الكردية الصاعدة
السيد عبد الفتاح
“لا صديقَ للكردي سوى الجبل”، يبدو أن هذه الجملة راسخة وثابتة على طول تاريخ الشعب الكردي، تعبّر بدقة عن حاله الذي بات مستقراً أنه مصيره الذي لا فكاكَ منه مهما تغيّرت الأزمانُ والظروف.
فعلى مدار تاريخه الذي كُتب بالمعاناة والدماء والظلم، ظلّ الإنسانُ الكردي يكافح ويناضل لنيل حقوقه لا بل أبسط حقوقه الإنسانية وعلى الرغم من أن نضاله هذا كان سلمياً في جانب كبير منه، سواء بالكلمة أو بالأغنية أو اللحن أو حتى بالصمت، إلا أن الحال لم يتغير ولم يحصل الكردي على تلك الحقوق، فوجد نفسه مضطراً للدفاع عن نفسه في كثير من الأحوال، وللنضال بالسلاح في مرات أخرى.
وكانتِ الجملة “لا صديق للكردي سوى الجبل” راسخةً ومتلازمة مع الكردي في كافة مراحل حياته النضالية والطبيعية، فكم من مرة خدعه الحكّام والقوى الكبرى بإيمانهم بحقوقه المشروعة، وأنهم لن يدخروا وسعاً ولا جهداً لينال تلك الحقوق، وكم من مرة مدّوا له بالفعل يدَ المساعدة وأبرموا معه تحالفات؛ وجد الكردي نفسه مضطرًا إليها، فلم يكن لديه رفاهية الاختيار بالرفض أو القبول، حيث كان يتعرض لحرب إبادة شرسة وضخمة.
وكم من مرة سارعت قوى كبرى إلى مساعدة الكردي في نضاله خاصة المسلح، بصور المساعدة المختلفة، لكنّ الكردي، وكلما وجد نفسه قد اقترب من الانتصار ولاحت أمام عينيه ثمار النصر وعليه فقط أن يقطفها، تصدمه المفاجأة بأن يجد نفسه “وحده في الميدان” وقد تخلى عنه كل من أوهموه أنهم أصدقاء وحلفاء، وتركوه ليواجه مصيره الأسود المؤلم، ليتعرّض لجولة جديدة من الإبادة والمذابح والتدمير والتخريب والطرد والمطاردة وغيرها.
حدث هذا كثيراً في تاريخ الشعب الكردي وفي الدول التي تم “تقطيع كردستان عليها” سواء في تركيا أو العراق أو إيران أو سوريا، تعرضت له الحركات النضالية في كل مراحلها، وذاقت مرارته جمهورية مهاباد، وانخدع به الكردُ في تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك “أبو الأتراك” الذي أوهم الشعبَ الكردي بمنحهم حقوقهم فسارعوا إلى الانخراط في حروبه التي ظنوا أنها لإقامة وطنٍ يحترمهم ويحتويهم، بينما هي في الحقيقة معارك لتثبيت دولته التي يريدها والتي لا مكانَ فيها للشعب الكردي بأي صورة من الصور، ولا اعتراف له بأي خصوصية أو نيلٍ لأبسط الحقوق.
ومرت بها الحركة النضالية الكردية في العراق أكثر من مرة، كما مرت بها مؤخرًا عندما مارس الشعبُ الكردي في العراق أبسطَ حقوقه في تنظيم استفتاء يقرر فيه مصيره، فقط مجرد استفتاء سلمي لم يرفع فيه بندقية أو يطلق خلاله رصاصة ضد غيره.
وتتواصل المأساة / المؤامرة لتتضح بأجلى صورها في “روجافا” أو الشمال السوري، فواقعُ الحال يؤكد أن هناكَ تجربة ديمقراطية نجح الكردُ في إقامتها بدمائهم وأفكارهم وعرقهم وجهودهم، تجربة تُعلي من قيمة الإنسان، تؤمن بالمساواة بين جميع البشر، لا فرق بين عربي وكردي وأشوري وكلداني وشيشاني وغيرهم، ولا فرق بين رجل ومرأة، ولا غني ولا فقير، الجميع سواء.
تجربة تشاركت فيها جميعُ القوميات والطوائف والمذاهب والأفكار لبناء مجتمع يسع الجميع، مجتمع يحترم الجميع، ويشارك الجميع في بنائه والدفاع عنه، ويتحمل فيه الجميع ويتمتع فيه الجميع.
طوالَ سنوات، ومنذ أن أطلّ تنظيم داعش بوجهه القبيح اللا إنساني، دفع الشعبُ الكردي أغلى ثمن وضحى بأعظم ما يملك، سالت دماء شهدائه ومصابيه وأبطاله دفاعًا عن الأرض، ودفاعًا عن الإنسانية كلها التي كان خطر داعش سيقضي عليها دون رحمة.
تمكن الشعبُ الكردي- ومعه شعوب المنطقة- من التصدي لجحافل التنظيم الإرهابي بترسانته المسلحة وأمواله المليارية والدعم الضخم من قوى دولية وإقليمية تتقدمها تركيا في ظل نظام رجب طيب أردوغان، ورغم ذلك كله انتصرَ الحقّ والعقيدة والإيمان الراسخ، وتم دحر الدواعش، ثم بدأت المرحلة الثانية بعد الدفاع وهي التحرير، تحرير الأرض من دنس داعش ومن خلف داعش، وتخليص الشعوب من عبودية التنظيم الإرهابي.
بعدها جاءت المرحلة الثالثة والتي في الحقيقة كانت مستمرة منذ اللحظات الأولى وهي مرحلة البناء والتشييد والعمران- ومثلما تحقق النجاح في الحرب حصد الناس ثمار البناء والتعمير والاستقرار والأمن والأمان.
أمام كل ما سبق كان من الطبيعي ألا ترتاحَ القوى الكبرى لمثل هذه المكاسب، ولا تقبل بأن يكون هناك أرضٌ تنعم بالاستقرار ويعيش أهلها في أمن وأمان، لهذا تحركت هذه القوى لاسيما بعد اندحار “صبيانها” وأدواتها من التنظيمات والجماعات المرتزقة، وقررت تلك القوى أن تتدخل بشكل مباشرة في المعركة بعدما كانت تفضل التحرك بشكل غير مباشر.
هذا بالضبط ما صنعته تركيا أردوغان، لتأتي الحربُ على عفرين حلقة من حلقات الصراع التركي الكردي، وهو صراع شنته وأشعلته الأنظمة الحاكمة المتعاقبة في تركيا، ووجده الشعب الكردي مفروضًا عليه دون اختيار، وليس أمامه إلا النضال والدفاع عن وجوده وبقائه.
ويخطئ من يعتقد أن الحربَ على عفرين هي حربٌ تركية بالأساس، فالحقيقة أنها حربٌ من القوى الاستعمارية والإقليمية التي تختلف في كثير من الملفات والمصالح والميادين، إلا أنها تتفق في موقفها من الشعب الكردي، حتى وإن اختلفت حدة هذه المواقف، من عدو إلى متواطئ إلى صامت، فالجميع في النهاية سواء، يستوي من رفع السلاح في وجه الكردي وأطلق رصاصه إلى صدره، ومن ساعد هذا المعتدي أيًا كانت المساعدة، ومن صمت وتعامى عن هذا العدوان. الجميع مجرمون في حق الشعب الكردي.
ومنذ اللحظة الأولى التي أبدى فيها أردوغان رغبته في شنّ الحرب على عفرين، وما قبلها من مراحل وخطوات تمهيدية لهذا العدوان، عادت جملة “ليس للكردي من صديق سوى الجبل” لتطل علينا من جديد وتفرض نفسها، فالعدوان التركي الأردوغاني لم يكن ليتمّ وتنطلق أولى رصاصاته دون “ضوء أخضر” من القوى الكبرى الدولية والإقليمية، الولايات المتحدة وروسيا وإيران والنظام السوري، ولم يكن يجرؤ أردوغان على التفوّه بحرف واحد من أوامره للجيش التركي بالتحرك صوبَ عفرين وشن الحرب عليها، لولا أنه “اتفق” مع هذه القوى على القضاء على التجربة الكردية الديمقراطية الناجحة، وعلى وأد القوة الكردية المتصاعدة.
والثابت أن هذه القوة الكردية المتصاعدة تشكل هاجسًا كبيرًا يقلق القوى الكبرى، ويتقاطع ويعرقل مخططاتها الخاصة بالمنطقة.
ولهذا لم يكن غريبًا أن نجد الطائرات التركية تخترق أو “تتهادى” في المجال الجوي السوري الذي يفترض أنه في حماية النظام السوري وروسيا والتحالف الدولي، ولم يكن غريبًا كذلك أن تسحبَ روسيا قواتها من عفرين قبل شن الغزو، وعلى نفس المنوال لم يكن غريبًا أن تعلنَ الولايات المتحدة أن منطقةَ عملياتها لا تضم عفرين. هنا الجميع قدم الكرد على المذبح.
ومع توالي أيام الحرب التركية على عفرين، وتزايد القصف وتساقط الشهداء من المدنيين العزل والأطفال، إلا أن الصمت الدولي مازال “مطبقًا” والعيون مغمضة عن عمد حتى لا ترى بشاعة المشهد في عفرين.
كل هذه القوى لديها مصلحة من الحرب التركية على عفرين وعلى الكرد، فليس أردوغان إلا رأس الحربة في تلك الحرب، وليس إلا مجرد “منفذ” بينما هناك أبطال حقيقيين متورطون في هذه الحرب والمؤامرة على الشعب الكردي.
الكل لا يريد للكردي أن يرفعَ رأسه ويبني تجربته ويتمتع بحقوقه المشروعة، الكل يريد في أحسن الحالات للشعب الكردي أن يدور في فلكه ويأتمر بأوامره، بينما هذا الشعب العريق الأبي لا يقبل بذلك، ولن يحني رأسه، وبالتالي كان القرار، قطع هذه الرأس !
على الشعب الكردي والرفاق الذين يقودون النضال المسلح والسياسي أن يدركوا جيدًا أنه لا صديق للشعب الكردي من بين تلك القوى الكبرى، لأن هذه الأخيرة لديها مصالح تتعارض مع مصلحة الشعب الكردي، وما تحالفها أو تعاونها مع الكرد إلا “مرحلة” سرعان ما تعود بعدها إلى سيرتها الأولى مع الشعب الكردي.
إن ما يجري في عفرين وغيرها ليس إلا “استنزاف” للقوة الكردية المتنامية، وفي نفس الوقت استنزاف للطرف التركي. فالقوى الكبرى “تتمتع” بمشاهدة ومتابعة الصراع التركي الكردي بتلذذ عظيم. وستعمل هذه القوى على إطالة أمد هذا الصراع لتحقيق أقصى مكاسب تريدها.
لذا أتوقع أن تستمر الحرب التركية على عفرين والكرد، وأن تتبارى القوى الكبرى في صبّ الزيت في نيران هذه الحرب، هي لا تريد في هذه الحرب منتصراً أو مهزوما، تريد أن تستنزف الحرب طرفيها فيخرج منها كل طرف وهو “عاجز” وبالتالي يكون أكثر “مطاوعة ومرونة” . كل الأطراف مستفيدة من الحرب على عفرين.
يتصور الأتراك أنهم بهذه الحرب يدافعون عن أمنهم القومي ومن قال أن الأكراد خطرٌ على الأمن القومي التركي ويتصورون كذلك أنهم بالحرب يستطيعون القضاء على تطلعات الشعب الكردي، لاشك أنهم مخطئون فليس هناك شعب يتخلى عن حقوقه ونضاله طوال حياته.
ويتصور النظام السوري أن الحربَ بين الأتراك والأكراد تضعف من قدرتهما وبالتالي تعطل تحقيق خططهم الخاصة بسوريا، يتصور نظام الأسد أن الحرب تشغل الطرفين عنه ما يعطيه الفرصة لتجميع شتاته وتنظيم صفوفه واستعادة قوته طمعًا في يوم يستطيع فيه أن يعوض ما خسره منذ قامت الثورة السورية. هو واهم لا محالة.
ويعتقد الروس أن حربًا بين الأتراك والأكراد كفيلة بإطالة عمر النظام السوري الذي تدعمه موسكو، وعرقلة المطامع التركية في الأرض السورية، والقضاء على الطروحات الكردية الخاصة بسوريا الجديدة، سوريا الفيدرالية التي يتساوى فيها كل الشعوب. كما يظن الروس أن مثل هذه الحرب تؤثر كثيرًا على أجندة عدوهم الأكبر الولايات المتحدة الخاصية بسوريا، ويتضعف من يعتقدون أنه الحليف الأمريكي الكبير في سوريا وهو الكرد. وطبعًا هذه التصورات الروسية مخطئة.
ويخطئ الإيرانيون عندما يحلمون بأن الصراع التركي الكردي يصب في مصلحة النظام الإيراني، ويدعم إيجابيًا تصوراته لسوريا وتحالفها مع النظام السوري، ويشغل القوة التركية وما تمثله من منافس إقليمي قوي، وإضافة لما سبق فإن ذلك الصراع سوف ينعكس سلبيًا على القضية الكردية في إيران، ونضال الشعب الكردي في جمهورية الملالي للمطالبة بحقوقه.
وأخيرًا يتصور الأمريكيون أن صراعًا كهذا كفيل بأن “يقلم” أظافر الشريك والحليف، الشريك التركي الذي بات يغرد خارج السرب الأمريكي ويحلق بعيدًا عن فلك واشنطن ويلاعبها بالتقرب وبالتقارب من روسيا. وكذلك الحليف الكردي الذي ساعدها في التخلص من خطر داعش. وبالتالي فإن استمرار هذا الصراع سيسرع من عودة “ذليلة” من الأتراك والأكراد إلى الحضن الأمريكي. هي مخطئة دون شك في تصوراتها.
يبقى أن نؤكد على ثقتنا في النصر الكردي في تلك الحرب وذلك الصراع، وأنه ليس هناك من يكتب النهاية لكل هذه التصورات المخطئة إلى الشعب الكردي بنضاله المصيري منفردًا كما كان وكما سيكون .[1]