العمارة الطينية في شمال وشرق سوريا
رستم عبدو
من المتعارف عليه لدى الباحثين في مجال علم الإنسان وعلم الآثار أن الجنس البشري منذ ظهوره خلال فترة العصر الحجري القديم (الباليوليت) بمراحله الثلاث وصولاً حتى العصر الحجري الوسيط (الميزوليت) (أي الفترة الواقعة ما بين 2,300,000 و12000 سنة) كان يتخذ من الكهوف الطبيعية التي تشكلت بفعل الزلازل والبراكين، وكذلك من الحفر والبروزات الصخرية والغابات الكثيفة ملجأ له، وكان يعتمد في حياته على الصيد والتقاط الثمار، وبالتالي كانت هذه الأماكن لاسيما الكهوف هي اماكن الاستقرار الأول للإنسان، يعيش فيها ولو بشكل مؤقت ويحاول من خلالها تأمين الحماية لنفسه من العوامل والظروف البيئة والجوية المختلفة، وكذلك من الحيوانات المفترسة ومن هجمات الأعداء.
العشرات من الكهوف الواقعة في جبال زاغروس وطوروس والعائدة لتلك الحقب المختلفة ك كهف شيواتو في منطقة مهاباد غربي إيران وأيضا كهوف بردا بلكا وشانيدار وهزار مرد وزرزي في شمال العراق وكذلك كهف دودريه في شمال سوريا وبعض الكهوف في فلسطين كانت شاهدة على اتخاذ الإنسان لتلك المواقع مساكن له.
وقد بدأ الانسان خلال الألف العاشر قبل الميلاد بترك الكهوف والنزول باتجاه السهول وحواف الجبال وضفاف الأنهار والوديان في محاولة منه للاستقرار وكانت تلك نقطة تحول مهم اعتبرت بداية تشكيل المجتمع البشري المنظم في إنشاء ما يعرف بمستوطنات الصيد (معسكرات) في مرحلة عرفت بمرحلة ما قبل الاستقرار السكني في القرى.
تشير المصادر كما ذكرها د. أزاد علي في كتابه “قرى الطين” (1) إلى وجود منطقتين شهدتا نشاطاً عمرانياً:
– الأولى: تشمل منحدرات أودية جبال طوروس الشرقية وجبال زاغروس القريبة من الكهوف التي استوطنها الإنسان في مراحل سابقة.
– والثانية: تشمل المناطق المحاذية لشواطئ البحر الأبيض المتوسط بدءاً من فلسطين ووصولاً حتى سوريا، وكان بالتحديد على مقربة من ضفاف الأنهار ومنها الفرات والليطاني والعاصي .
كما اعتبرت سوريا واحدة من أكثر البلدان الملائمة التي جرت فيها عمليات التحول من مرحلة عدم الاستقرار إلى مرحلة الاستقرار، ولعل منطقة وادي الفرات الأوسط ورافديه الخابور والبليخ كانا أكثر البقع في سوريا ملائمة لذلك التحول. حيث ظهرت في تلك الفترة في مناطق وادي الفرات الأوسط ومحيط جبل سنجار منازل دائرية أهليلجية ليعد أول تخطيط اتخذه الإنسان لبناء مسكنه، وكانت منازل طينية على شكل حفر دائرية محفورة في الأرض أو منقورة في الصخر بعمق يتراوح ما بين 50 حتى 70 سم، لها جدران طينية من طين وحجر أو طين وأغصان الشجر، وكان استخدام الطين في البداية ككتل غير منتظمة الشكل يوضع بعضها فوق البعض حتى تشكل جداراً. (2)
كذلك ذكر د. أزاد علي في كتابه “أنماط العمارة الطينية في الجزيرة الفراتية” (3) بأنه استناداً على المعطيات التاريخية ونتائج عمليات التنقيب الأثري التي جرت في سوريا فأن الجزيرة الفراتية كانت السباقة في إنشاء أولى المساكن الطينية وتبلورت فيها أولى التجمعات السكانية، كما شهدت أراضيها تشكل أولى القرى.
عثرت البعثات الأثرية العاملة في سوريا على نماذج عديدة للمنازل الطينية الدائرية والتي غالباً ما كانت مسقوفة بمواد خفيفة (أغصان أشجار) ومغطاة بالطين عائدة للألف السابع ق.م كما في “الجرف الأحمر” و”المريبط” ، تلك المنازل تطورت فيما بعد إلى الشكل المستطيل كما في “أبو هريرة” و”الشيخ حسن” في مراحل لاحقة من الألفية نفسها ثم تدرجت في التطور إلى أن تحولت إلى الشكل المعروف بنوع “تولوس” كما في “حلف” و”الصبي أبيض” على ضفاف الخابور والبليخ .
كان المنزل الحلفي العائد لفترة الألف الخامس ق.م، يتألف من غرفة داخلية تغطيها قبة ضخمة تتقدمها غرفة مستطيلة الشكل ذات سطح مثلث، مبنية من الطين على أساسات حجرية.
يقول د. أزاد علي: “إن تقنية استخدام اللبن المجفف تحت اشعة الشمس بدأت في حلف التي اعتمدت النموذج الدائري (تولوس) وأضيفت لها الوحدة الإنشائية ذات المسقط المستطيل وأدمجته في الشكل المستدير في صيغة اتحاد وظيفي معماري جديد… إن هذه النقلة النوعية في التطور العمراني التي شهدتها حلف قد اعتمدت على تحسين مادة الطين لرفع أدائها الإنشائي وجاء استخدام الحجر والخشب ليدعم الطين في عملية الإنشاء”.
كما يقول “ان موقع حلف ترك عمارة واضحة المعالم إلى درجة أن الشكل المعماري السكني الجديد بنمطه كان قفزةً نوعيةً في مجال العمارة وذلك عبر الانتقال من الأكواخ البسيطة نحو عمارة مخططة ومنظمة تعبر عن خلفية فكرية أولية وثقافة تقنية جديدة”.
ثم ظهر المنزل الطيني المستطيل والمربع ليتماشى التطور الحضاري والتوسع السكاني، حيث أن هذا التحول الهندسي جاء ليواكب بداية تشكل الأسر الكبيرة التي أصبحت تعيش في عدة غرف متجاورة ضمن مسكن عائلي مشترك. فعمارة الألف الرابع ق.م في سوريا كان بشكل عام يتألف من غرفة مستطيلة تحيط به صحن الدار وكانت جدرانها الطينية ترتكز على أساسات حجرية.
وقد أضيفت لهذه المنازل خلال الفترات التاريخية وتحديدا الألف الثالث والثاني ق.م عناصر معمارية جديدة كالفسحات الداخلية (الحوش) وغرف مخصصة للدواب وغرف للتخزين وكانت مساحة هذه التجمعات صغيرة في البدء ثم اتسعت فيما بعد.
أيضا ظهرت خلال تلك الفترة المنشآت الضخمة (القصور والمعابد) ذات تقنية البناء العالية المشيدة من اللبن ولعل أهمها قصر أوركيش (تل موزان) العائد للألف الثالث ق.م والذي يعد أحد أكبر القصور في سوريا الرافدية بحسب جورجيو بوتشيلاتي(4) وكذلك قصر ومعابد نابادا (تل بيدر) العائدة لنفس الفترة وأيضا قصر زمري ليم ملك ماري (تل الحريري) العائد للألف الثاني ق.م الذي يمثل أجمل القصور في العالم وأكبر القصور الشرقية بحسب د. حسان عبد الحق في دراسة منشورة له بعنوان “العمارة الملكية في بلاد الرافدين وسورية في المدة الممتدة من نهاية الألف الثالث قبل الميلاد حتى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد”(5) حيث بلغت مساحته هكتارين ونصف الهكتار وكان القصر قد شيد بوساطة الجدران الحاملة المكونة من اللبن الطيني بسماكات كبيرة .
حافظت العمارة في الجزيرة الفراتية على خصوصيتها في مراحل تاريخية لاحقة حتى خلال الفترة الرومانية والبيزنطية التي ربما سعت إلى فرض ثقافتها لاسيما فيما يتعلق بالمجال العمراني، وبالتالي لم يتغير نمط البناء وشكله فيها بشكل جوهري بل ظلت مشابهة لتلك التي في العصور السابقة، وهو ما دفع بالباحثين الأثريين إلى تسمية حضاراتها بحضارة الطين، كما أن مواد البناء المستعمل فيها لم تتغير هي الأخرى، فقد بقي اللبن المصنوع من الطين والمجفف بأشعة الشمس المادة الأساسية في البناء إلى جانب استخدام المونة الطينية أو الجص، كما أن أشكال السقوف بقيت تقريباً هي نفسها.
وما تزال هذه الثقافة، التي تعتمد على مواد بسيطة وتشيّد دون الاعتماد على المخططات أو الدراسات الهندسية المسبقة، موجودة ومستمرة حتى الوقت الراهن في معظم القرى والبلدات والمدن الواقعة في هذه البقعة الجغرافية الواسعة على الرغم من انتشار المبان الأسمنتية في الآونة الأخيرة (العقدين الأخيرين) على حساب المبان الطينية لاسيما في المدن الكبيرة منها .
بالعودة لمادة الطين نجد أنها من أقدم مواد البناء التي عرفها واستخدمها الإنسان في عمليات البناء، وقد شاع استخدام هذا النوع من المواد بشكل خاص ضمن المستوطنات العمرانية الواقعة بالقرب من بطون الأودية وسفوح الجبال ومجاري الأنهار ووسط الواحات وذلك ضمن البيئة التي تتوافر فيها هذه المادة. (6)
وقد استخدمت هذه المادة منذ القدم كما ذكرنا أعلاه وبشكل واسع في بلاد ما بين النهرين ومصر وشمال أفريقيا والخليج العربي، كما أنها لاقت رواجا في الهند وأمريكا اللاتينية، حيث أن هناك الكثير من المواقع والمدن حول العالم التي ما تزال شاهدة على أهمية هذه المادة ودورها في البناء والأصالة كمدينتي شبام وصعدة في اليمن ومراكش في المغرب وأدرار وغرداية في الجزائر وغدامس في ليبيا (7) والمدن الفراتية في شمال سوريا والواحات في مصر والذي أساسه مادة الطين التي تناسبت وطبيعة المناخ الجاف في تلك المنطقة (8).
يتميز الطين بأنها مادة سهلة الاستعمال والمزج والتعامل، ناهيك عن سهولة تشكيله في البناء والتكيف بأشكاله، كما أنه بالإمكان تدويرها بسهولة وإعادة استخدامه من جديد، كما أنها تتمتع بخاصية تجعلها تتأقلم مع الظروف الجوية كالحرارة والرطوبة حيث يقول “بيتر أكريمانس” (9) الذي عمل في موقع الصبي أبيض “إن الجدران المبني من الطين يمتلك خاصيات ممتازة بحيث أن خاصية الوصولية والحرارة فيها منخفضة جداً وكعازل حراري هي أفضل بكثير من الحجر”، إلى جانب أنها أقرب للطبيعة وملائمة للبيئة وصديقة لها كما أنها متوفرة بكثرة .
وقد أدى التطور الكبير الذي رافق العالم منذ منتصف القرن العشرين لا سيما في مجال البناء وأساليبه الحديثة بالإضافة إلى التوسع في شبكات الطرق والمواصلات شيئاً فشيئاً إلى الابتعاد عن البناء بالمواد التقليدية، كما كان له الأثر السلبي في تراجع هذا الصنف من البناء. أما في المناطق الفقيرة فقد حافظت المجتمعات على هذه الخصوصية لا سيما في بلدان العالم النامية وذلك لما تتميز به هذه العمارة من ميزات مثل: رخص سعرها، ووفرة المواد الخام (الطين) في مواقع إنشاء هذه المباني وتوفير الطاقة، واستجابة المباني للتفاوت في المناخ نتيجة الظروف البيئية المختلفة. كما تعمل العمارة أيضاً على توفير نمط بناء لا يقل أهمية عن المباني الحجرية مثل القناطر والأقواس والقباب والأسقف بدون الاستعانة للألواح الداعمة.
في عام 1969 صدر كتاب بعنوان “عمارة الفقراء” للمصري حسن فتحي (10)، حيث يتحدث فيه المؤلف عن بناء قرية في منطقة القرنة بالأقصر بطابع تقليدي وبطريقة تشاركية من مادة الطين، حيث استبدل مواد بناء غالية التكلفة مثل الحديد والصلب والإسمنت بمواد من البيئة المحلية وهي بطبيعتها مواد منخفضة التكلفة مثل الطين والطوب والخشب.
وكانت تقنيات البناء الطيني كما ورد في كتاب “أنماط العمارة الطينية في الجزيرة الفراتية” ل د. أزاد علي التي تناول بيئة الجزيرة الفراتية هي:
1 استخدام الطين كمادة بناء أساسية لمعظم المنشآت المكتشفة
2 الجدران تبدأ بأسس من الحجر والطين في أغلب المواقع المكتشفة.
3 الجدران كان من الطوف (كتل غير منتظمة) ثم تحول إلى اللبن الطيني المقولب (اللبن المجفف بأشعة الشمس) بأبعاد وأشكال وقياسات مختلفة ثم الطين المقولب المشوي (الطابوق أو الطوب المشوي) والذي استخدم في البدايات في رصف الأرضيات.
4 الأسقف كانت من المواد الخفيفة (أغصان الزل والقصب) وكان في الغالب تغطى بطبقة من الطين.
5 اللياسة أو الأكساء كان من مادة الطين، وأيضاً استخدمت إلى جانب الطين الكلس والجص لاسيما في الجدران والأرضيات.
وقد ذكرت منظمة اليونسكو UNESCO (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) أن ما يقارب ثلث سكان العالم يعيشون في مبانٍ أُنشئت من الطين أو على الأقل قسم منها على الرغم من تنوع أساليب البناء به إما باستخدام الطين لوحده أو مع الكتل الوحلية، وأن عملية البناء هي فعلياً تعمل على المحافظة على تراث الأسلاف، حيث قامت معظم الحضارات على استخدام هذه المادة الخام فيما عدا عن أن المباني المبنية بالطين تُشكل ما يقارب ال 20 % من المواقع الأثرية التي أدرجتها هذه المنظمة للحفاظ عليها.
=KTML_Bold=المصادر:=KTML_End=
(1)- د. آزاد أحمد علي، قرى الطين .. دراسة تاريخية هندسية، وزارة الثقافة السورية، دمشق، الطبعة الأولى 2002م.
(2) د. نجيل كمال عبد الرازق، الخصائص التخطيطية والتصميمية للمباني والمستوطنات الطينية في العراق”، دراسة، مجلة المخطط والتنمية الصادرة عن جامعة بغداد، العدد 17، 2012م. ص 93-111.
(3)- د. آزاد أحمد علي، أنماط العمارة الطينية في الجزيرة الفراتية، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى 2010م.
(4)- جورجيو بوتشيلاتي: عالم آثار إيطالي، اشتهر باكتشاف مدينة أوركيش القديمة (تل موزان الحديثة) عاصمة الهوريين (الخوريين) في سوريا .
(5)- د. حسان عبد الحق، العمارة الملكية في بلاد الرافدين وسورية في المدة الممتدة من نهاية الألف الثالث قبل الميلاد حتى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، ورقة بحثية، مجلة جامعة دمشق، المجلد 30، 2012م.
(6)- د. منصور بن عبد العزيز، عمارة الطين في البلاد العربية والغربية: طرق البناء ومحاولة التطوير المقترحة ، مجلة “المدينة المنورة”، مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة, كانون الأول 2003م، ص 107 – 138.
(7)- جميلة الهادي الحنيش وأكرم محمد الجامع، عمارة الصحراء (العمارة الطينية)، ورقة بحثية، جامعة الزاوية – ليبيا، مجلة دراسات الإنسان والمجتمع، العدد الأول- شباط 2017م.
(8)- د. محمود عبد الحافظ ، الإرث المعماري الطيني في الواحات المصرية- المخاطر وسبل الحماية والارتقاء، دراسة، كانون الثاني 2015م.
(9)- بيتر أكريمانس هو مدير تنقيبات موقع (ﺘل ﺼﺒﻲ ﺃﺒﻴﺽ) الأثري الذي ﻴﻘﻊ ﻋﻠﻰ ﺒﻌﺩ 65ﻜﻡ ﺸﻤﺎل ﺍﻟﺭﻗﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻀﻔﺔ ﺍﻟﻴﺴﺭﻯ ﻟﻨﻬﺭ ﺍﻟﺒﻠﻴﺦ.
(10)- عمارة الفقراء (بالإنكليزية (Architecture of the Poorهو كتاب للمعماري المصري حسن فتحي، يتناول رؤيته الخاصة حول العمارة البيئية وتجربته في مصر وبالأخص قرية القرنة. والكتاب بالإنجليزية. صدرت طبعته الأولى تحت عنوان “القرنة: قصة قريتين” في طبعة محدودة من اصدارات وزارة الثقافة المصرية عام 1969 بالقاهرة. نُشِر الكتاب بعد ذلك في الولايات المتحدة عام 1973 بواسطة جامعة شيكاغو ثم نشر في مصر عام 1989 بواسطة الجامعة الأمريكية بالقاهرة. صدرت ترجمته العربية عام 1993 من قبل د. مصطفى إبراهيم فهمي بمبادرة شخصية منه وقد صدر عن كتاب أخبار اليوم وأعيد طبعه في سلسلة مكتبة الأسرة عام 2000.[1]