“#كوباني مملكة الماء والغرانيق# ” مدينة تولَد مرتين
عبد الرحمن محمد
“ليس للبدء بدء ولا للختام ختام!”، هنا في المسماة – كوباني- تتداخل الأقدار والمصائر والأزمنة والولادات والأعمار والقرى المتناثرة كابتهالات العجائز في قسوة شتاءات الشمال وأغبرة الصيف اللافحة، في سهل سروج – دشتى سروجه، تلك البقعة المنسية والمنقسمة بقوة السياسات الغاشمة لا بقوة مراسيم الجغرافية الإلهية”.
لعلنا نستطيع الولوج من هاهنا، من كلمات جاءت في فاتحة كتاب “كوباني …مملكة الماء والغرانيق” للكاتب “حسين محمد علي” إلى عالم كوباني وفضاءاتها اللامتناهية، والمترامية الأفكار كما دواخلها، فكوباني عصية على القراءة الأولى وصعبة الفهم من الثانية وربما تدرك شيئاً يسيراً من قصة نشأتها التي لا تتجاوز بالعد والقياس قرناً من الزمن في قراءة ثالثة، لكنها تختصر تاريخاً وقصصاً ربما تصبح رواية للأجيال التي تروم الخوض في قصص التاريخ، جمعت قلوب العالم حولها وشدَّت مشاعرهم وناظرهم إليها بعد أن أراد لها غربان الظلام الموت الزؤام.
ما بين مشوار مسائي في حَواري كوباني وأزقتها، ودندنات الصبايا على طريق النبع في ساعات الصباح، وحكايات الليالي الجميلة على شرفات مقاهي كوباني، يجول بنا الكاتب حسين محمد علي، وهو يطلعنا على تفاصيل تعبق منها رائحة تاريخ يمتد لآلاف السنين في أيام كوبانية الرائحة بجغرافيتها وتاريخها ومفرداتها التي تسرد قصص وعبر من أدبها وتراثها العريق، فكوباني كان لمخاضها وولادتها شواهد وتاريخ كُتب بالعرق والحديد:
“ليس للمدن في هذا العالم شهادات ميلاد واضحة، وقلما تربط الولادة بتواريخ في هذا الشرق، وحدها كوباني كانت على موعد مع الزمن فتحت عينيها – كما يقال – على إيقاع طبول الحرب الأولى حيث الدول الضاربة بسياساتها الكونية الكاسحة تشحذ أنيابها، في فورة الدم القادم مع الحرب”.
قد تكون التفاصيل مملة في قصة ما، وقد تجلب الرتابة حيناً آخر، لكن الكاتب حسين محمد علي يجعلنا نسابق الصفحات للوصول إلى الحدث في أسلوب جميل يجذب الانتباه للغة الأدبية الراقية المعطرة بأنفاس شاعر، والتي قلما تصادَف في كتب تنقل تفاصيل التاريخ والجغرافيا، ربما لأنه المدرك والمعاشر لتفاصيل كوباني والذي نَهَل من مائها وتعمد بتلك التفاصيل اليومية الجميلة حتى العشق، ومن ثم ينقلها عبر الصفحات لتجعلك تتجول في كوباني لا في صفحات الكتاب:
“كان صفير قطار الشرق السريع المبحوح يخترق هدوء ليل كوباني كئيباً موحشاً يثير فيَّ خيالات تَرحل في فضاءات الطفولة المطعونة بالخوف واليأس. كان الصفير يتداخل ونباح الكلاب الشاردة ونقيق الضفادع المنبثق من البحيرة المستلقية على حدود الخصب والحور والدلب وأصيافنا القائضة والبط المهاجر إليها من بعيد؛ من جغرافيات تقع في حدود النظر”.
ومن ثم يحملك من جديد إلى إطلالة أخرى:
“أكثر المشاهد سحراً في منطقة المحطة والتي ما زالت حاضرة في الذاكرة كان المخفر الفرنسي المتهدم بأساساته الأربعة المبنية من الحجر الأسود وخرائب الغرف الملحقة به مبنية من اللبن “كلبيج”، وكنا نسمي المخفر “قشلة” وهي تسمية تركية تعني الثكنة العسكرية، وباللصق منه جامع حج شامليان بأجوائه الظليلة وعرائش العنب وأشجار التوت وبئره الطافحة بالماء”.
كوباني الملاذ وتآخي الشعوب
في كوباني يكتب التاريخ ويتجدد في كل يوم، وفي كل تجدد حكاية ورواية جديدة، وكأنما للزمن فيها أفق لا يُحد، وكذلك تمتزج الثقافات والتطلعات وتتوحد المصائر فيها، ولأن كان مخاضها على وقع طبول الحرب، والعالم متيقظ حذر والحرب والجيوش والساسة على قدم وساق، فإنها كثيراً ما عضت على أوجاعها كي لا يسمع الطغاة صراخها، أليست هي التي آوت الأرمن والسريان الهاربين من بطش الطورانيين وسيوفهم المتعطشة للدماء:
“كيفورك أمين كبير شعراء الأرمن جاءها حاملاً مأساة الأرمن من كزموش وسيواس ووان وبدليس، جاء مُطارداً من حراب التركي المتعطشة للدماء”.
أولئك اللذين امتزجوا بمن حولهم وتكاتفوا وتكافلوا وأضحوا بيتاً واحداً وقلباً واحداً ينبض لحياة أفضل:
“في الممارسة الاجتماعية في الأصل والشكل والمظهر ونمط المعيشة كانوا كرداً، وكان هذا واضحاً في لغتهم الكردية وأزياءهم كانت كردية بكل تفاصيلها، وعاداتهم وتقاليدهم في الزواج والموت كانت كردية، فقط كانت ديانتهم مسيحية. حتى أن بعضهم عرف تعدد الزوجات، وأجازوا الزواج من ابنة العم والخال نقيض غيرهم من الأرمن”.
وفي صور أخرى كان الكوبانيون يعيشونها بكل تفاصيلها الجميلة، ينقلنا الكاتب لتلك التفاصيل الصغيرة بظاهرها، والكبيرة العظيمة بمضمونها، عن الألفة والأخوة الحقة:
“هنا أبو أحمد البيطار يجالس – نيرسو- الحداد، يتبادلان حديثاً عن الديانتين الاسلامية والمسيحية بعيداً عن التشنج والتكفير”.
“هنا في مدارس الأرمن كان المعلمون مزيجاً من الأرمن والكرد والعرب والسريان، فتتداخل الأناشيد واللغات في احتفالية لا أروع ولا أجمل!”.
“هنا كانت أمي تنضم للجلسات الحميمة على الأرصفة مع جاراتها “أراكسي وانجيل ومارو” وتكتسب منهن المهارة في صنع كعك العيد وحفظ المونة ومشاركتهن في قراءة الفنجان!”.
الزمن الجميل وحكايا الذاكرة الكوبانية
وكأنما السيرة الكوبانية قلادة غجرية، تتنوع أيامها، تتضمخ كل يوم بعطر جديد فريد، فيتحدث عن أحلام الطفولة، وينقلنا إلى المحطة والمخفر الفرنسي، ويقرع أبواب البيوت لنسمع معه ما كان يروى فيها كل مساء الأحاجي والأساطير، كما يصف الحياة الكوبانية بكل ألقها وتفاصيلها الحزينة، ويرسم لوحات جميلة متنوعة، يغمضُ عينيه ويفتحهما من جديد وكأنما يهمس… آه تذكرت؛ ويورد قصة أخرى “الشيخ شكرو، النيرفانا الأخيرة… تصوفه ومريديه وطريقته الصوفية، والسيوف ونصال السكاكين والدفوف بإيقاعاتها الروحية، ليجلب لذاكرته الشيخ نور بعباءته التي جمعها من مئات الرقع لتبدو مزركشة بأطياف وألون تمزج كل أطياف قوس قزح، وتسبيحاته وترانيمه الدينية ودندناته لروحة المتعبة.
كوباني التي تغيرت كما تغير الزمن وكل شيء من حولها، فالصوامع التي كانت بداية شموخها نحو السماء في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، كانت كالأعجوبة وهي تبدو لضخامتها كأنما تحرسها الجن، وحتى علاقة الناس مع حرس الحدود التركي تغيرت ولم تبق كما كانت، إذ كانت عقدة التركي هي “التمر وقمر الدين” وعقدتنا هي “التبغ” كما يقول الكاتب محمد علي حسين. و”أوسيب هرزو” المليس الوكيل المهرب، الصورة القاتمة للمتعامل المتآمر مع الدخيل والمستعمر، الذي أذاق من حوله الأمرين بجبروته وطغيانه يتغير ولكنه يعود ليظهر بأشكال وطرقاً اخرى.
مملكة الماء والغرانيق…توقظ العالم بمقاومتها
في كوباني التي ولدت على قرع طبول الحرب العالمية الأولى، وأراد لها أعداء الإنسانية الفناء بعد قرن من ميلادها، فحشدوا لها ما استطاعوا من العدة والعتاد والحقد، ليحتفلوا بعيد ميلادها المئة بقتلها، وهي التي عانت ما عانته من الدسائس والتناقضات التي ترويها في قصص بوحها لتروي حكايات القحط والجدب المسلط عليها من البشر والزمن والآلهة التي تنكرت لدعائها:
“سهل سروج القريب تشقق جلده من العطش، والفرات على مرمى حجر، إن أكثر من خمسين ألف هكتار من الأرض غدت عملياً خارج الانتاج والعطاء بسبب زحف الجفاف”.
في ميلادها المئة، أراد خفافيش الظلام وغربان الشر أن يأدوها، فكتبت كوباني ميلادها الثاني بالدم والحديد وعطرته برائحة بارود المقاومة، فإذا بها تكتب اسطورة العصر ومقاومة الحرية وتعزف ألحان الخلود، لتختصر تاريخاً وروايات وقصائد شعر لا تنتهي، لتغدوا قبلة عشاق الحرية والمتطلعين لغد أفضل والمحبين للسماء الصافية النقية إلا من هديل حمام السلام.
إن مخاض كوباني الثاني، كان عسيراً وطويلاً، وولد الآلاف من القصص والأبطال والبطلات، وأثمر عن ميلاد جديد لمدينة باتت الرمز والمثل، وكذلك ميلاد كتاب “كوباني.. مملكة الماء والغرانيق”، وكان لابنها البار وعاشقها أسلوبه الجميل في سرد لحقائق تاريخية بأسلوب أدبي مميز، ولغة وصفية شعرية وكأنما الكتاب قصيدة لا تنتهي.
الكتاب الذي جاء بالقطع الوسط، وفي ما يقارب المائة وستين صفحة، ومن إصدارات اتحاد المثقفين في كوباني، ضم العشرات من الصور التوثيقية النادرة التي التقطها الكاتب بعدسته وحصل على بعضها من مصادر خاصة، كتاب كثير الفائدة، لما يضمه من معلومة تاريخية اجتماعية وإطلاله على أوراق مدينة شغلت العالم، وبلغة رصينة وأسلوب منمق.
أما الكاتب “حسين محمد علي” فهو ابن كوباني الذي فتح عينيه على الحياة فيها عام 1950م. نال الشهادة الثانوية في حلب، وحصل على إجازة في الأدب العربي من جامعة حلب لعام 1975م. وعمل مدرساً للغة العربية ما يقارب الثلاثين عاماً، يكتب الشعر والقصة القصيرة والمقالة، وله الكثير من الأعمال المخطوطة، وما يزال من الشخصيات الفاعلة والبارزة في الوسط الثقافي في شمال وشرق سوريا، يعمل حالياً على إصدار كتاب بعنوان “عند سور آمد” وهو على شكل مذكرات النزوح الكبير أثناء هجوم داعش على كوباني.[1]