طيلة قرنين من الزمن، منذ #معركة جالديران# عام 1514، كان طرفا حروب الشرق هم العثمانيون والصفويون. تبادلا شن حملات عسكرية مدمرة ضد بعضهما البعض، وصمدا من الانهيار، لكن في مرحلة ما، باتت غالبية سكان الدولة الصفوية من المذهب السني وبات التشيّع الصفوي نقطة ضعف للصيغة الامبراطورية التاريخية التي سادت الهضبة الإيرانية عشرات القرون، بسبب حاجزين بشريين، الأول فصّله بإسهاب أوليا جلبي في كتابه سياحتنامة، وهو الحاجز البشري الكردي، غربي فارس، والثاني الحاجز الأفغاني، شرقي فارس.
كافحت الصفوية، على مدى قرنين، لإضفاء طابع مستقر على توسعها في هذين الاتجاهين، بسبب التنافر المذهبي، وهو التنافر الذي حاول نادر شاه أن يحله بتوليفة مذهبية في النجف بدءاً من 1735 لحماية تصدّع جيشه بين السنة والشيعة، وباءت محاولته بالفشل لعدم جرأة السلطان محمود الأول (1730 – 1754) على مخالفة الطبقة السنّية المتشددة المتمركزة في المؤسستين الدينية والعسكرية- الانكشارية، آخذاً العبرة من الحدث الجلل مع سلفه السلطان أحمد الثالث الذي دفع عرشه ثمناً ل”خطأ” أصغر بكثير ولا يد له فيها، وهو انهيار الاحتلال الأفغاني لإيران، فثارت عليه طبقة الانكشارية بتحريض من علماء الدين.
ما عجز عنه العثمانيون طيلة قرنين حققته قبائل لا تملك قصوراً حاكمة ولا بيروقراطية إدارية. في العام 1722 قرر محمود الغلزائي البشتوني الذي سمى نفسه “شاه قندهار” أن الوقت قد حان لتحقيق حلم والده “مير ويس” في احتلال أصفهان.
كرزونينسكي.. شاهد العيان
هناك العديد من المصادر الأساسية لهذا الحدث، أقدمها وأكثرها معاصرة للفترة، كتاب ألّفه قس بولندي يدعى “جوداث كروزينسكي”، الذي عاش في أصفهان 20 عاماً كمبشر مسيحي، وغادرها عام 1725، أي بعد احتلال الأفغان لها بثلاث سنوات. طُبِع الكتاب أولاً باللغة العثمانية عام 1729، بطلب من الصدر الأعظم داماد إبراهيم باشا، في القسطنطينية، حيث كان كروزينسكي متواجداً فيها قبل توجهه إلى أوروبا. لاحقاً ترجم القس الإيطالي J.C. Clodius الكتاب إلى اللاتينية، وصدرت النسخة الانجليزية عام 1840 مترجماً مع هوامش إضافية. وتاريخ هذه النسخة يتزامن مع دخول الطباعة في الدولة العثمانية، في عهد السلطان أحمد الثالث (حكم من 1703 إلى 1730). ومن المفيد التذكير بنظرة موجزة للأوضاع في عاصمة السلطان، بغرض المقارنة مع المرحلة المظلمة في التاريخ الإيراني طيلة القرن الثامن عشر. فقد عاشت السلطنة العثمانية فترة من الرخاء والارتخاء، وأطلق على هذه المرحلة ب”عصر التوليب”، لكن هذا التوصيف جاء لاحقاً، ولم يرد أي شيء له علاقة بتصنيف هذه المرحلة ضمن الازدهار والرخاء في كتاب “تاريخ الدولة العلية العثمانية” للمؤرخ العثماني محمد فريد بك سنة 1893. على أنّ مظاهر الرخاء كانت بادية، نسبياً، مقارنة مع المجاعات المتقطعة الثقيلة في معظم الفترة العثمانية، وكان من مظاهر الهدوء في الدولة هيمنة “الإعمار المدني بدلاً من الإعمار الديني” على حد وصف المؤرخ يلماز أوزتونا.
معظم الروايات اللاحقة عن هذه الحقبة الأفغانية في إيران، بما في ذلك ما دوّنه جمال الدين الأفغاني في “تتمة البيان في تاريخ الأفغان”، منقول عن كروزينسكي. على أن النسخة الأصلية تتضمن تفاصيل، وعرضاً لنصوص رسائل كاملة تخص هذه الأحداث، من بينها الرواية المدسوسة التي تسببت في الإطاحة برئيس الوزراء الصفوي، لطف علي خان، الذي اتهم بإرساله رسائل إلى الزعماء الأكراد للإطاحة بالشاه حسين الصفوي. وتسببت هذه الرسالة المفبركة، وفق كروزينسكي، باختلال الحكم، وتمكين الفاسدين من السيطرة على قرارات الشاه خلال الغزو الأفغاني.
في وقائع جلسة المحاكمة العلنية التي ذكرها كروزينسكي، جاء اتهام رئيس الوزراء بالتنسيق مع الزعماء الكرد، في المرتبة الثانية من التهم، الأولى كانت دعاء منسوب لرئيس الوزراء على قبر والد الشاه حسين، توعد فيه بالانتقام لوالده الذي قتله الشاه السابق، وأن يكون الثمن حياة ولده الشاه الحالي. في رده على الاتهامات، ساق اعتماد الدولة (رئيس الوزراء) حججاً قوية في المحاكمة، وتحدث عن أن استدعاءه ثلاثة آلاف مقاتل كردي للهجوم على قصر الشاه، تهمة مزورة، حيث أن الكرد يبعدون عن طهران مسافة 15 يوماً إذا سلكوا أسرع الطرق من بلادهم على حدود الدولة العثمانية.
محورية هذه الرسالة المزعومة خلال المحاكمة، تدل على ارتياب معلن بين الطبقة الحاكمة في أصفهان والزعماء الكرد، رغم أن الحديث عن ثلاثة آلاف مسلح كردي، على حدود الدولة العثمانية، ليست كافية لتحديد القبائل الكردية الواقعة تحت سيطرة الدولة الصفوية، لأن الحدود بين البلدين، رغم أنها مرسومة منذ عام 1639، أشبه ما تكون بحدود وهمية بالنسبة للتنقلات الكردية على جانبي الحدود.
نبوءة زوال العرش
بين هذه الاضطرابات، حسم شاه قندهار أمره، وتغلب على تردد قومه في القيام بهذه المغامرة، حيث كانت شعوب إيران تنتفض بين حين وآخر، لكن لم يسبق لأحد أن بلغ به الطموح كي يسلك خطة محمود الغلزائي (الغلجي) البشتوني، مستفيداً من الاضطرابات البنيوية والاجتماعية التي كانت تضرب أرجاء الدولة الصفوية. حين وصل إلى أبوب أصفهان، بعد معارك طاحنة على طريق حملته، سلّمه الشاه حسين عرشه طواعية لتجنيب المدينة الدمار، وبدا، وفق رواية جمال الدين الأفغاني، مؤمناً أن الله انتزع منه الملك ومنحه لمحمود خان، ووضع بنفسه ريشة التاج الصفوي على رأس محمود. ليس هناك وضوح تاريخي حول ما إذا كانت لحظة وضع الشاه ريشة التاج على رأس الأفغاني هي اللحظة الصانعة لفكرة وراثة الأفغان عرش بلاد إيران، من دون نقل العاصمة إلى قندهار وبلاد البشتون.
قبل أن يحطم الأفغان السلالة الصفوية الحاكمة منذ أكثر من قرنين، وإضافة إلى تفكك الجيش واضطراب الحكم بسبب اعتقال ومحاكمة رئيس الوزراء، ذو الأصل الداغستاني، لطف علي خان، فإن شيئاً لم يوهن عزيمة العوام أكثر من النبوءة التي انتشرت مثل النار في روح هذه الأمة، خاصة سكان الهضبة الإيرانية التاريخية. فقد حدث زلزال دمر عدداً من المدن بشكل شبه كلّي، عام 1721، ودفن في تبريز وحدها 80 ألف شخص. وفي أصفهان تكاثفت الغيوم في الصيف حتى حجبت الشمس، فكانت – على حد ما نقل جمال الدين الأفغاني – لا تُرى إلا كنقطة من نحاس أحمر. وأساس الرواية نقلها كروزينسكي، الذي كان شاهداً على هذا الحدث في أصفهان. فوقع في أوهام العامة أن هذه آثار الغضب الإلهي، ومقدمات نزول البلاء السماوي، وأخذوا يتحيلون لدفع القضاء بطرد الفاجرات وإزالة كثير من المنكرات، وكان المشايخ يطوفون في الأزقة ويدعون الناس للاستغفار، والمنجمون قد حكموا حكمًا باتٍّا أنَّ هذه علامة لخراب أصفهان؛ فوقعت العقول في وحشة، والنفوس في حيرة، وضعفت القلوب، وتدانت لهم حتى كانت هذه الأمة الكبيرة واقفة على قدم الاستعداد للموت، وانقطعت آمالها من الحياة والنجاة.
حين تقدم محمود خان بجيش الأفغان ذو التنظيم الفوضوي بمعايير الجيوش الامبراطورية، كان سكان الهضبة الإيرانية، الذي يشكلون منذ ثلاثة آلاف عام، القلب الاجتماعي للامبراطوريات المتعاقبة، قد استسلموا للقدر الذي يؤمنون به، وهو حتمية زوال المُلك الصفوي. وليس واضحاً بالتحديد ما إذا كان لهذه النبوءات دور في انقلاب الزرادشتيين في مدينة كرمان على الجيش الإيراني وانضمامهم إلى الأفغان. وبدأ أن عددهم لم يكن قليلاً في ذلك الحين لأنهم قادوا لاحقاً حملة فاشلة على شيراز لصالح الأفغان. غير أأن الوقائع المعاصرة للحدث تشير إلى اضطهاد ديني صفوي وقع على الزرادشتيين المولعين أساساً بالنبوءات الكبرى.
مقاومة لورستان
في معارك الاحتلال، ليس هناك أي ذكر لحضور كردي في جيش الشاه، رغم قرب المسافة، نسبياً بين أصفهان وكردستان، وقدرتهم على حشد المقاتلين، وهذا ينطبق فقط على الكرد السنة، حلفاء الأفغان، كما سيتبين. ورغم أنّ قسماً واسعاً من بلاد الكرد كانت تحت سيادة إيران نظرياً، غير أن تخلخل الحكم في أصفهان حتى قبل الغزو الأفغاني، قد دفع بكردستان فارس صوب العثمانيين مرة أخرى، ولم يكونوا وقت الاحتلال الأفغاني من رعية البلاد الإيرانية. أما الجناح الآخر من الكرد، اللور، وبقية الكرد من أتباع الطوائف المتصلة بالتشيع، فقد اتحدوا تحت قيادة علي مردان خان، القائد اللوري القوي، الذي استطاع تحصين لورستان بأكلمها من الأفغان، فلم يطأها جيش البشتون خلال حكمه بلاد إيران، وحاول مردان خان استعادة الحكم في أصفهان وطرد الأفغان لكنه أخفق في محاولتين واكتفى بحماية لورستان. وربما غياب الثقة بالكرد السنّة هو ما دعا الشاه حسين، خلال الحصار الأفغاني للعاصمة، إلى استدعاء الأرمن للدفاع عن المدينة.
مجاعة أصفهان
على أنه بعد عام من وراثته الحكم الإيراني، وحمله لقب “شاه إيران” وسط أتباعه، وجد محمود خان نفسه أمام معضلة نسفت المحاولة الأفغانية برمّتها لاحقاً. فقد تعرض جيش الأفغان في قزوين لهزيمة نكراء، وعاد من تبقى منهم إلى أصفهان في حالة يرثى لها، وفق الرواة. فانقلب محمود خان على سيرته مع أهل المدينة، حيث كان قد عاملهم بلطف، وحاول إزالة آثار المجاعة والفقر والخراب في عامه الأول، إلا أن هزيمة قزوين أفقدته صوابه، فقتل كل الموظفين والعسكريين الذين كانوا في خدمة الشاه الصفوي، وذبح كل من تبقى من السلالة الصفوية، ما عدا 25 شخصاً، وطرد جميع الرجال من المدينة، فباتت أصفهان خاوية على عروشها، بلا سكان، فصارت خرابًا يبابًا. ولما رأى أن سلطنته ستزول بزوال البنيان والعمران، قام بأول هندسة سكانية في أصفهان.
دوّن المبشر البولندي كروزنسكي مشاهد من هذه الجماعة، وساعد بنفسه امرأة كانت تحاول جاهدة ذبح قطة وسلخها، ثم رأى خمسة جماجم بشرية للبيع، ثم باتت أحشاء الموتى تباع أيضاً، وبأسعار عالية. كان مشهد المجاعة التي تسبب بها الحصار الأفغاني لأصفهان تتجاوز ما تخيله السكان حين آمنوا بنبوءة خراب المدينة وزوال الحكم الصفوي.
من هم سكان درجيزين؟
حاول محمود خان، شاه قندهار وإيران، تصحيح هذا الخلل الديمغرافي في أصفان بترغيب السكان الفارين في العودة، والعناية بمن تبقى، لكن بعد انتفاضة قزوين، التي قادها عوام الشعب وذبحوا آلاف الجنود الأفغان، أجهز على من تبقى من سكان أصفهان. وإمعاناً في الانتقام، شرع محمود خان، التقسيم الطبقي العبودي، بعد ذهوله من تدمير جيشه في قزوين على أيدي الجيلانيين والمازندران. فأحيا التقليد الساساني القديم وقسم الأعراق في إيران إلى طبقات، ذكرها كروزنسكي، لكن هناك اختلاف في الترتيب الثاني والثالث بين نسختين من المذكرات، واعتمدنا هنا على النسخة الأكثر رواجاً، فكان التقسيم بالترتيب: الأفغان، الدرجيزيون (الدرغيزيون)، الأرمن، الطبقة التجارية الهندية، الزرادشتيون، اليهود، وأخيراً الفرس الذين عوملوا معاملة العبيد والخدم لدى الجماعات الست السابقة.
هناك التباس حول هوية الشعب الذي أطلق عليه كروزنسكي “الدرجيزيين” (DERGESINS)، ورغم أنه أوضح اسم المنطقة التي جاؤوا منها، بين بابل وهمذان، لكن أحداً من المؤرخين لم يذكر هذا التكوين الاجتماعي في تاريخ إيران وجوارها، سوى أنهم سنة وأصلهم من غرب فارس (ليس هناك غير كردستان) والأقرب أنه يقصد إحدى القبائل الكردية السنّية، وكل أثر عن هذا الاسم في التاريخ منقول عن مذكرات كروزنسكي حصرياً. على أنّ هوية هذا الشعب تتضح لدى جمال الدين الأفغاني، الذي نقل معظم ما دونه في كتابه “تتمة البيان في تاريخ الأفغان” عن مذكرات كروزنسكي، لكنه تجاهل ما ذكره كروزنسكي عن “شعب درجيزين” وتوطينهم في أصفهان لتعويض النقص السكاني، ويمكن القول إن جمال الدين قام بتصحيح مهم لخطأ وقع فيه كروزنيسكي، بدون ان يفصح عن ذلك، وجاء التصحيح بالصيغة التالية:
“ولما رأى (محمود خان) أن سلطنته لا يصح قصرها على البنيان جلب إليها بعضًا من الأكراد السنيين كانوا مقيمين في درجزين. ولما اجتمع الأكراد وجاءه إمدادٌ من جهة قندهار وجه بعض العساكر لفتح جلبايكان وخنسار وقاشان..”.
يتضح من هذا التصحيح أن درجزين اسم لبلدة أو منطقة، وتقع اليوم في محافظة سمنان شرقي طهران، وهم أكراد منفيون أساساً، نقلهم الشاه عباس الكبير (توفي عام 1629) من ميزوبوتاميا، إلى تلك الأنحاء لأغراض عمرانية ودفاعية، كما نقل عدداً أكبر من الأكراد السنّة إلى خراسان، ومازالوا إلى اليوم أحد المكونات الاجتماعية المهمة في المحافظة.
انهيار العمران
لكن هل يمكن حكم مملكة بلا سكان؟ حتى لو كان محمود خان هو المنتصر، وقد كان، فإنه يحتاج إلى العمران. ولجأ إلى الاستعانة بعشرة آلاف أكراد درجزين، ليس كمقاتلين، إنما سكان لمدينة أصفهان. كان يريد عمران المدينة بهم، لكن الخواء والفراغ السكاني كان أكبر بكثير من أن يسده عشرة آلاف نفس كردية. فقبل الغزو الأفغاني كان عدد سكان العاصمة 500 ألف نسمة، وخلال الحصار انخفض إلى 100 ألف، وبعد مذبحة أصفهان لم يتبق سوى بضعة آلاف وسط الخرائب والحرائق والجثث.
السيطرة الأفغانية لم تكن ذات طابع امبراطوري، إنما هجمة قبلية كبيرة. فمساحة السيطرة الفعلية كانت لا تتضمن ربع المساحة في عهد الصفويين، وبقية المناطق كانت تدار من زعماء ومتمردين، ومن هذا التمرد المضاد للأفغان خرج نادر شاه أفشار، الذي أطاح بالأفغان وما تبقى من الصفوية، وحكم البلاد بتعسف شديد دون أن يؤسس سلالة حاكمة، ثم خلفه كريم خان زند، الكردي الذي كان منفياً مع قبيلته في خراسان، وأسس هو الآخر حكماً اقتصر عليه وحده دون سلالة حاكمة حتى مجيء القاجاريين.
علماء و وزراء اسطنبول
بعد أن استفحل محمود خان في دمويته، وبطشه، فقد توازنه النفسي، وقيل إن طريقة قتله لاعتماد الدولة، فتح علي خان، أكثر ما أثر فيه، فقد قطعه بسيفه إلى أربعة أجزاء داخل قصره، ثم وزع القطع الأربعة لتعليقها على البوابات الأربع لأصفهان. وكانت حملته الفاشلة على كهكيلوية، معقل القبيلة البختيارية الرعوية، السبب المباشر لقرار قادة جيشه استدعاء ابن عمه “أشرف خان” ليكون ولي العهد، ثم سرعان ما عزلوه عن الحكم إثر استفحال مرضه الغريب، حيث قام بنهش لحم يده بأسنانه. فقطعوا رأسه وأرسلوه إلى ابن عمه، أشرف خان.
كانت فترة أشرف، بدءاً من عام 1725، مرحلة سفارات دولية مع الجوار. فقد حاول نيل الاعتراف العثماني بشرعيته في حكم بلاد إيران، وطلب أن تعامله السلطنة معاملة الشاه. لكن كان للعثمانية مخططات أخرى، فقد اتفقت مع روسيا على تقسيم الممالك الإيرانية التي لم تدخل في حوزة الأفغانيين، ثم طرد الأفغان من البلاد التي حازوها، وتسليمها لابن الشاه الصفوي “طهماسب” إن وافق على هذه المعاهدة، ولأن العقلية الإدارية لأشرف لم تكن تتجاوز زعيم القبيلة، فقد أطلق تعليقه الشهير، والمثير للسخرية في عالم الامبراطوريات، مخاطباً علماء العثمانية: “لا يليق بالسلطان أن يعاهد ملكًا نصرانيٍّا على اقتلاع ملك مسلم سنِّي”، ولعب على وتر المذهبية، فوافقه علماء اسطنبول وخالفه الوزراء، فقررت الدولة العثمانية إعلان الحرب وانتزاع أصفهان نفسها من الأفغان. لم يكن لأشرف حلفاء في الدولة العثمانية سوى العلماء الذين كانوا في حالة ضعف ذلك الحين. ويرد مايكل أكسورثي في “سيف فارس” أن السلطنة خشيت من شعبية الأفغان في الدولة العثمانية بوصفهم “أبطالاً من السنّة انتصروا على الشيعة”، كما أن انتقال الروايات عن تقشف الأفغان وتواضعهم، بالنسبة لعوام المسلمين، كان مقلقاً.
من يكسب الكرد؟
لجأ أشرف إلى محاولة تقسيم الجيش العثماني على الجبهة، عبر الدعاية، وكانت غايته استمالة الأكراد الذي كانوا يشكلون غالبية الجيش العثماني في تلك الجبهة، ونجح في ذلك. فلم يسعف والي بغداد، أحمد آغا، المكلف بملاحقة الأفغان، جيشه ذو ال70 ألف جندي مقابل 12 ألف أفغاني. ففي المحاولة الأولى، أبيدت قطعة عسكرية عثمانية من 6 آلاف جندي بعد نقل تحركاتهم لمعسكر أشرف. كما استمال أشرف زعماءً أكراد في الجيش العثماني، ولاحقاً رفض معظم الجيش التحرك للقتال في المعركة الحاسمة، وفرّ عدد كبير من الأكراد وانضموا إلى جانب الأفغان، أما من بقي من الأكراد في الجانب العثماني، فقد نهبوا المعسكر وأثاروا حالة من الاضطراب. كانت النتيجة فشلاً كارثياً للحملة العثمانية، والسبب الرئيس انحياز الأكراد للأفغان. وقعت هذه المعركة في خريف 1726. بهذا الانتصار، نال أشرف خان، أخيراً، الاعتراف العثماني بشرعيته “شاه بلاد فارس”، لكن بعد فوات الأوان. فقد اتسعت المقاومة الشعبية “الاستشهادية”- على حد تعبير أسكورثي – ضد حكم أشرف خلال السنوات الثلاث التالية، ولم تعد سمعتهم الإيجابية الكاسحة في العالم العثماني تجدي نفعاً أمام الثورات الشعبية غير المنظمة في مراكز الهضبة الفارسية، مقر العروش والجيوش عبر التاريخ.
مركزية الهضبة الإيرانية
تاريخياً، هناك سنّة متكررة، فالقائد الذي يطلق مشروعه التوسعي من الهضبة الإيرانية، وهي منطقة جغرافية تقع وسط إيران، يحظى بفرصة لتأسيس سلالة حاكمة. وحين كان الصفويون في عاصمة على طرف فارس (تبريز) اجتاحهم العثمانيون وباتت تبريز مدينة على خط زلزالي سياسياً، ولم تستقر الأمور للسلالة الصفوية إلا بعد نقل العاصمة إلى أصفهان. وحين كانت القبائل الآسيوية تجتاح إيران سالكة طريق الحرير كانت السلالات التي تكون سريعة الاندماج في ثقافة الهضبة الإيرانية، تحكم فترات طويلة، مثل السلاجقة الأتراك، وقبلهم الأخمينيون والساسانيون، أما الشعوب التي لم تندمج مع هذه الثقافة وهضبتها فإنها لم تحكم أكثر من جيل أو جيلين على الأكثر، وهذه فرضية دافع عنها المفكر الكردي مسعود محمد، ونجله محمد مسعود من بعده، كما في حالة الأفغان التي سبق ذكرها، وكذلك نادر شاه (1736 – 1747) الذي غلب عليه إرثه الثقافي المغولي، وكريم خان زند (1750- 1794) الكردي الذي فشل في الانتقال من الحالة القبلية إلى الأسرة الحاكمة، لكن الحال اختلف مع سلالة تركية أخرى أبدت اندماجاً لا يقل عن الصفويين، وهي السلالة القاجارية التي حكمت إيران بين (1779 – 1925) ومنذ ذلك الوقت بقيت طهران عاصمة ثابتة لإيران إلى اليوم. ما هو السر في هذه الهضبة وثقافتها؟ الواقع أن هذا سؤال إشكالي، والإجابة عنه محفوفة بمخاطر الاجتهاد الخاطئ. إنّ جغرافية إيران، والهضبة على وجه الخصوص، تشبه إلى حد كبير مضيقاً برياً واسعاً، بين الشرق والغرب، وهي محاطة بالصحاري والبحر والجبال، وهذا منح سكان الهضبة ميزة “مدنية” مقارنة بشعوب مجاورة تقيم في مدن صغيرة غير مركزية، ووعرة المسالك، ولم تراكم أي تجارب امبراطورية حديثة، وهذا كان حال حلفاء تدمير الصفويين: الأفغان والكرد.[1]