=KTML_Bold=الصوت الكردي والمصالحة الإقليمية الهشّة مع تركيا=KTML_End=
خلال العقدين الماضيين، أصبحت الانتخابات التركية حدثاً إقليمياً بامتياز بعد عقودٍ طويلة من الطابع المحلّي لتداول السلطة بين الأحزاب والتحالفات الحكومية. كان من النادر أن يشكل فوز حزب في الحكومة تغيراً جوهرياً في السياستين الداخلية والخارجية. يمكن القول إنه منذ عام 1946، تاريخ إقرار التعددية الحزبية، وحتى عام 2002، كان الحدث الانتخابي في كل اقتراعٍ شعبي شأناً محلياً تركياً، وبالكاد يترك أثراً مختلفاً على الجوار الإقليمي.
تغير الحال منذ تسلم حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002 وبشكلٍ تصاعدي. وتعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 14 مايو/أيار المقبل متداخلة بشكلٍ غير مسبوق مع صراعاتٍ وتوافقاتٍ داخلية وإقليمية ودولية. فهي حدث ذو ثلاثة أبعاد. ويعد البعد الإقليمي الأخطر فيه، ذلك أن تقارباً إقليمياً تأسس على ميراثٍ من العداوة بين تركيا والعديد من دول الجوار الإقليمي، في مقدمتها مصر ودول الخليج، وهناك محادثاتٌ جادة لتأسيس تقاربٍ صلب بين تركيا وسوريا برعاية روسيا ومباركةٍ من كافة دول الإقليم.
أجندة السياسات الإقليمية جاهزة للتطبيق وتنتظر فقط إعلان فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات. ستكون هناك مقايضات مهمة في هذه المصالحة الكبيرة. وفي الغالب سيقدّم أردوغان – في حال فوزه – مكاسب اقتصادية للأصدقاء الجدد من هذه الدول، وينال في المقابل مكاسب سياسية بالدرجة الأولى، من بينها إغلاق أي منفذ لهذه الدول على القضايا المحظورة في نظر أنقرة.
تقدم الحكومة التركية تصوراتٍ وردية بخصوص ثمار المصالحة الإقليمية، وهي ليست بخسة الثمن. فلدى أنقرة سوقٌ كبيرة للشركات الباحثة عن فرص نمو جديدة على تخوم أوروبا والقفقاس والشرق الأوسط. لكن تبقى هناك ثغرة في هذه المصالحة الإقليمية، أو بتعبيرٍ أدق، ثغرة في آليات استمرارية الشراكة المديدة في السياسة والاقتصاد، وهي ضآلة فرص أردوغان في الفوز بالانتخابات. ذلك أن الطرف الأكثر ترجيحاً لكفة الفائز هو الصوت الكردي في تركيا حتى الآن، وليس أصوات أي حزبٍ آخر. وبنيت التوافقات الإقليمية بعيداً عن أخذ هذا العامل في الحسبان. والمرجح أن واحدة من الثمار التي يتطلع إليها أردوغان شراء صمت هذه الدول الإقليمية في عملياتٍ هجومية مقبلة على القوى الكردية غير المستسلمة داخل تركيا وخارجها.
لقد بنت الدول الإقليمية، من مصر إلى الخليج، وما بينهما، تصوراتٍ على قراءةٍ غير كاملة للمشهد التركي. لقد انطلقت هذه الدول من قناعة أن دعم أردوغان بودائع مالية ضخمة أو تدفقاتٍ استثمارية نشطة ستساعده بقوة في الفوز، وبعضها يراهن على مثل هذا الفوز من دون ترك مساحةٍ للتراجع.
الواقع، أن أصوات كتلة حزب الشعوب الديمقراطي، وبديله الجديد حزب اليسار الأخضر ستكون حاسمة في تحديد الفائز في الانتخابات. وحتى الآن، تدل كافة المؤشرات إلى أن صوت الحزب الكردي وحلفائه ستذهب إلى ترجيح كفة كمال كليجدار أوغلو وإلحاق هزيمةٍ تاريخية بأردوغان وحزبه في الرئاسة والبرلمان. السؤال المشروع في هذه الخلاصة هو: قدّم أردوغان تنازلاتٍ كبيرة للاقتراب من الفوز والإفلات من الهزيمة، وتخلى تقريباً عن معظم سياساته الخارجية الإقليمية في سبيل هذه الغاية. ما الذي منعه من تغيير سياساته الداخلية تجاه الكرد وضمان الفوز بسبعة أعوامٍ أخرى وإدارة البلاد بالنظام الرئاسي شبه الفردي كما هو الآن؟ والسؤال الآخر: لماذا لم تدفع «دول المصالحة» أردوغان إلى إغلاق «الثغرة الكردية» في جدار حكمه عبر مبادرة علنية وشفافة تنهي حقبة الملاحقة السوداء لحزب الشعوب الديمقراطي والمئات من كوادره؟
يقامر أردوغان بمصيره، ومصير المقربين منه الذين قد تطالهم جميعاً ملاحقات قضائية، لكنه لم يتقدم ولو خطوة واحدة باتجاه ممثلي الكرد الأكثر شعبية. بل هناك العديد من خطط توسيع العدوان على مناطق كردية في سوريا والعراق تنتظر لحظة فوزه لإطلاقها. لذلك، يحشد حزب الشعوب الديمقراطي كل ثقله لهزيمة أردوغان، ليس من أجل إنجاح كليجدار أوغلو، بل من أجل إنقاذ أمة من حربٍ وحشية مستمرة من دون توقف منذ عام 2014. وإن استمر أردوغان في الحكم، من المرجح ان تستمر وتيرة الحرب على الحركة الكردية داخل تركيا وخارجها.
إذا كان الصوت الكردي بهذه الأهمية، لماذا لم يحاول أردوغان كسبه بمبادرة أولية، ولو من باب الاحتيال الانتخابي؟ فقط إجابة واحدة تنهي شهية الاستمرار في هذه الأسئلة، وهي أن برنامجه السياسي بالكامل قائم على هذا القتل الجماعي. وبالتالي، فإن الكرد وأصواتهم خارج حساباته كلياً. فالفوز سيكون مبرمجاً لإطلاق مرحلة جديدة من الحرب.
ولعل من المفارقة أنه من بين كافة القوى الإقليمية التي هرعت للتصالح مع تركيا وبناء سياساتٍ مستقبلية مرتبطة بفوز أردوغان، وحده النظام السوري أخذ في الحسبان ترجيح هزيمة الرئيس التركي. لذلك، يحاول الرئيس السوري بشار الأسد، قدر المستطاع، التحرر من الضغط الروسي والإقليمي من أجل تتويج التقارب مع تركيا بلقاءٍ يجمعه بأردوغان. وإذا فازت المعارضة، فإن ما كان سيحصل عليه الأسد من أردوغان في صفقاتٍ متبادلة، سيكون في المتناول من دون تنازلاتٍ من هذا النوع في حال فوز كليجدار أوغلو.
الخلاصة، أن هناك مصالحة إقليمية تتسارع مع تركيا وحسابات دولية تؤثر فيها روسيا إلى حدٍ كبير لصالح أردوغان ونأي غربي بالنفس عن التدخل في تأييد أي طرف. على الرغم من ذلك، فإن القوة الكامنة في حزب الشعوب الديمقراطي وتأثيره في مجرى الانتخابات، وفق مجمل التوقعات، تعادل وزن كل هذه المصالحات الإقليمية مع تركيا، وأكثر قوة منها.
لذلك، من يريد وصف موقف حزب الشعوب الديمقراطي بأنه تأييد لكمال كليجدار أوغلو، سيكون قد جانب الصواب. فالهدف يتجاوز شخص كليجدار أوغلو وحزبه وحلفائه. المسألة الأكثر أهمية هي أن بقاء حزب العدالة والتنمية في الحكم يعني أنه سيبني استمراريته على استئناف المجزرة الشاملة ضد الكرد، وما من طريقة لإيقاف هذه الحملة المدعومة بمصالحات إقليمية سوى إنزال أردوغان عن كرسي الرئاسة.[1]