#صباح كنجي#
قرار العفو و التسليم ..
كنا نقتربُ من مراني ثانية مساء السادس من أيلول وهو اليوم الذي صدر فيه ما يسمى بالعفو. في حينها كنا مقطوعي الصلة بالعالم. لا تربطنا إلا أجهزة الراديو التي نتسقط منها الأخبار .. عند سماع نبأ العفو فرح الكثير من المواطنين واعتبروه فرصة للخلاص من طوق الموت .. هكذا نظرنا نحن أيضا للقرار واعتبرناه فرصة للتنفس و التفكير .. كان عدد المحاصرين في شعاب كاره وحدها أكثر من 15 ألف مواطن.. وبالرغم من عدم ثقة الناس والسياسيين بالسلطة ووعودها إلا أن البعض من المواطنين بدأ بالنزول من عدة محاور في نهلة و كاني ماسي و آفوكي و كاره من جهة العمادية و سرسنك وكانت السيارات العسكرية تنقلهم فوراً إلى مواقع خلفية لتجمعهم في مراكز تابعة لمعسكرات الجيش في أتروش و باكرمان و عقره و سرسنك ومن هناك ينقلون إلى قلعة نزاركي في دهوك ومجمع بحركي في أطراف أربيل .
في الأيام اللاحقة أزداد عدد الذين سلموا أنفسهم .. كانت الذروة في السابع والثامن من أيلول حيث شاهدنا سلسلة طويلة من البشر تتوجه إلى آفوكي ومدخل كاني ماسي.. الطائرات العمودية تحلق فوق رؤوسهم على ارتفاع منخفض وتوجه الجموع للسير نحو مراكز الانتظار حيث تنقلهم فوراً الآليات العسكرية إلى أماكن مجهولة.
أما نحن فكنا نتابع تطورات الحدث الجديد ومقتنعين بعدم إمكانية شمول العفو لأي پيشمركة أو نصير .. العوائل تنتظر ما سيحل بها وكيف يجري التعامل مع إعلان العفو من قبل الشيوعيين .. كنا نعيش محنتين..
هل نسحب عوائلنا ونختفي معها؟..
أم نبقى مع الأنصار ونقودهم للخلاص من طوق الموت ؟ ..
اخذ الصراع يحتدم في النفس .. توقعنا بعد نزول الفلاحين أن يجري تطويقنا واستخدام السلاح الكيماوي ضدنا .. كنا محصورين في نطاق منطقة جبل كاره ومقر مراني .. كان من المستحيل سحب ونقل العوائل إلى أية منطقة أخرى بعيدة في ظل الحصار التام المحكم حولنا.. حيث كان الوصول إلى الدشت مع هذا العدد من الأطفال والنساء والشيوخ مستحيلا ويتطلب معجزة، والبقاء في كاره يجعلنا هدفاً سهلا لقوات النظام وسلاحه الكيماوي، أما العبور إلى الحدود التركية أو الإيرانية فقد فات الأوان بالتفكير به واستبعدناه نهائياً، بعد أن وصل الجيش العراقي إلى ابعد نقطة وأخذ يلاحق المتوجهين للحدود حتى داخل الأراضي التركية أحياناً.. كما نقلت الأخبار حينها.
في اليوم الثاني من العفو عقدنا اجتماعا خاصاً لتدارس وضع العوائل والأنصار حضره عدد كبير من أصحاب العوائل ونوقش الموضوع بشكل مطول لساعات. لم نتوصل إلى حل ولا إلى قرار .. كل ما فكرنا به كان يؤدي إلى فكرة واحدة هي الاستفادة من الوقت بتسليم العوائل .. بادر لطرح الموضوع أبو سالار استند في رأيه على ما كان يجري حوله حيث قال :
أولا.. إن جميع الناس من الأهالي سلموا ولم يبقى سوى الأنصار و العوائل، في هذه الحالة سيكون بمقدور السلطة معرفة مناطق تواجدنا واحتمال حصرنا وإبادتنا .. سيكون هذا كارثة في حالة استخدام الكيماوي و الطيران ..
الثانية.. تتعلق بالانتشار الواسع للقوات العسكرية ووضع الكمائن و المرابض في جميع المعابر والطرق .. من المستحيل اختراق الكمائن ونقاط المراقبة مع وجود الاطفال الصغار والعجزة من الشيوخ ناهيك عن المرضى والمعوقين .
ثالثا.. مع احتمال البقاء في شعاب كاره سنواجه شبح الموت من الجوع والعطش مع نفاذ المؤن والأرزاق التي استهلكها المحاصرون من الأهالي .. كانت هذه هي النقاط الرئيسية التي أجمعت المناقشات عليها، والنقطة الرئيسية منها كانت تتعلق بمدى القدرة على سحب العوائل ونقلهم وسط هذه التحشدات العسكرية المنتشرة في كل مكان .
الحل الوحيد الممكن كان في حالة واحدة هو أن يتخلى كل من.. أبو عمشة وأبو سربست وكفاح وأنا والآخرين عن رفاقهم وبقية الأنصار .. كان هذا التصرف يتطلب أن نتجرد من قيمنا وأخلاقنا، ونفضل أنفسنا عن الآخرين .. لهذا بقينا نكبت جراحنا ووافقنا بألم على المقترحات بخصوص تسليم العوائل.
إلا أن الكثير من الأنصار والرفاق اعترضوا واذكر منهم أبو عمشة وعلي حاول و مام عبدال وأبو خدر و النصير أبو ظاهر بالرغم من عدم وجود عائلة له. لذلك ترك الخيار لأصحاب العوائل ليقرروا بأنفسهم إيجاد الحل المناسب بين البقاء أو التسليم، مع تأكيد أبو سالار للجميع بعدم وجود إمكانية لدى الحزب لإنقاذ العوائل في هذه الظروف الصعبة، وبسبب عدم وجود حل ومخرج آخر اضطر المعترضون إلى التسليم بالأمر الواقع ورضخوا لفكرة التسليم.
عند انتشار الخبر بين العوائل مساءً حدثت حالة من الهلع والفوضى صاحبها بكاء النساء واعتراضهن على فكرة التسليم .. أستطيع أن أتحدث عن زوجتي وموقفها بالتفصيل .. عندما طرحت الفكرة على زوجتي شيرين أخذت تبكي وتتوسل لتبقى وتموت .. فقط أن لا تسلم .. قالت: نستطيع أن نبقى وحدنا ونأكل الأعشاب .. أذهب وأنقذ نفسك .. اتركنا وحدنا .. كانت تتذكر أيام اعتقالها الأول عام 1983 حينما حجزت مع العوائل وأبعدوها عن أطفالها زكي 3 سنوات ولينا سبع سنوات و تانية 6 سنوات لمدة ثلاثة أشهر .. كان صالح نرمو مترجماً لها في مديرية أمن الموصل .. وكان قرارهم بالإفراج عنها أن تتعاون معهم لاستدراجي واعتقالي، وفي حالة رفضها تقتل مع أطفالها ..
في حينها سحبتها مع الاطفال إلى المناطق المحررة في كردستان .. سكنا قرية آطوش مع عدد آخر من عوائل الپيشمركة .. كانت خائفة و متوجسة.. رفضت أية فكرة للتسليم .. ذكرتني بما يمكن أن ينفذه الأمن بها و بالأولاد .. قلت لها: هذا قرار يشمل الجميع .. هناك حالة عفو عام .. في الحقيقة كنا نستبعد أية فكرة أو احتمال للقضاء النهائي على الاطفال والنساء .. لا بل كنا لا نتصور أن يجري فصلهم عن بقية العوائل المحاصرة .. أقصى ما فكرنا به.. بعد العفو أن يجري اعتقالهم لأيام ويجبرون على السكن في مجمعات قسرية .. هذه كانت تصوراتنا عن الموضوع في تلك المحنة .. كذلك علمت برفض أم عمشة للفكرة ومن المحتمل أن زوجات بقية الرفاق كان لهن نفس الموقف.
في الثامن من أيلول صباحاً.. بعد الفطور مباشرة انطلقت العوائل من مراني باتجاه صوصيا المطلة على مدخل كاني ماسي .. رافق العوائل لتوديعهم عدد من الأنصار.. بينهم أبو عمشة وجلال وشاكر وأبو سربست وزيا وكفاح كنجي .. شخصياً لم أتحمل الموقف وذهب شقيقي أمين مع المودعين.
الوداع والفراق كانا من أصعب واقسى اللحظات التي عشناها .. الحزن والبكاء رافق كل خطوة للأطفال والنساء و المودعين .. طائرات الهليكوبتر كانت تحوم محلقة حولهم .. اضطر المودعون من الأنصار للتوقف والاختفاء بين الصخور و الأشجار .. هكذا ودعنا فلذات أكبادنا في ذلك اليوم القاسي والمؤلم .. بقي جلال وشاكر يراقبانهم لحين وصولهم إلى كلي كاني ماسي ونقلهم بالسيارات العسكرية إلى قلعة أتروش، ومنها إلى قلعة نزاركي في دهوك .. كان مجموع النساء والأطفال والشيوخ يقدر ب 200 فرداً تقريباُ .. مع مجموعة من الأنصار والشباب ونذكر منهم تحسين عيسى، حسين علي لبي، منيف غانم، حسين خلف كانون، ومعهم ثلاثة من أشقاء صباح وكفاح كنجي ..
وهناك قائمة موثقة بأسماء الذين سلموا أنفسهم أو اجبروا على التسليم من عوائل مراني للأنصار الشيوعيين.. الذين غيبوا لاحقاً في المقابر الجماعية ..في مرحلة الأنفال .. منشورة في العديد من المواقع الإلكترونية والأدبيات والنشرات التي تتحدث عن الأنفال .
ورافق عملية تسليم العوائل استعداد عدد من الأنصار السابقين.. الذين كانوا في بيوت العوائل قبل الأنفال.. مع عدد آخر من الأنصار.. الذين قرروا بأنفسهم التسليم .. بينهم بيبو قوجي - خورشيد أبو حازم من خورزان، نائف ردو من ملا جبرا، وعارف الياس كرتان من باعذرة و المهندس صبري محمود خدر بيرستكي ..الذي كان قد جاء قبل أيام من اجل السفر لاستكمال الدراسة في الخارج، وأمين درمان شقيقي.. الذي كان قد ذهب لتوديعهم، لكنه لم يستطيع مفارقة الاطفال وزوجة شقيقه توفيق فقرر أن يبقى معهم، و شمدين سعيد دوغاتي .. وخدر السنجاري وسعيد السنجاري من سيبا شيخ خدر الذين رافقوا عوائلهم .. وأبو خدر ملچبري ومام سليم دوغاتي .. شقيق أبو ماجد.. وكان رجلا مسناً في السبعين من عمره .. و من بين الذين سلموا أنفسهن عجائز كبيرات في السن مثل.. والدة أبو عمشة التي كانت على مشارف العقد الثامن ووالدة صباح كنجي ووالدة علي حاول التي اقتربت من الثمانين وكذلك والدة علي خليل التي كانت هي الأخرى عجوز كبيرة السن.
في دهوك أثناء تجميع العوائل في قلعة نزاركي ..التي كان يحرس فيها الجحوش من سرايا فاروق بك و خديدا بابيري .. التابعة لمديرية امن نينوى.. ولنا بينهم رفاق وأصدقاء غير مكشوفين، أعلمونا أنهم حاولوا مساعدة العوائل أثناء تكليفهم بالحراسة.. حيث شاهدوهم.. وحاولوا تقديم الممكن لهم بشكل سري وابلغوا بقية ذويهم بوجود المحتجزين في القلعة.
لا بل أن بعضهم غامر لإنقاذ عدد من المحتجزين ودفعوهم وأخرجوهم من القلعة، لكنهم لم يستفيدوا من الفرصة للخلاص.. إذ كانوا يعتقدون أنهم سيعيشون أحرار بعد انتهاء التحقيق معهم .. بقوا في القلعة لمدة عشرة أيام تقريباً .. بعدها نقلوا بسيارات زيل عسكرية وضعت عليها خيم إلى مجمع بحركي في أربيل.. ومن ثم إلى قلعة طوبزاوه في كركوك.
في دهوك علمنا من مصدر موثوق .. أن مديرية امن دهوك.. كانت تشرف على حراسة القلعة، وان مجموعة من المتعاونين مع الأمن من الإيزيدية قد ذهبوا إلى القلعة لتشخيص العوائل الشيوعية .. منهم فاروق بك وسفر إسماعيل كجل مع آخرين..
وبعدها تم نقلهم إلى طوبزاوه.. ونعتقد إن لزيارة هؤلاء للقلعة علاقة باختفائهم بعد نقلهم من دهوك.
أما الأنصار الذين بقوا في شعاب كاره في أطراف مراني.. الذين تجاوز عددهم على الثمانين نصيراً ونصيرة فقد واجهوا مصيراً صعباً للغاية، بعد أن بقوا وحدهم في شعاب الجبال المحاصرة يواجهون مهمة إنقاذ أنفسهم وفتح طريق للنجاة، لذلك بدأ التفكير بالانقسام إلى مجاميع صغيرة وتشكلت أول مجموعة من 16 نصير توجهت بتاريخ 8 أيلول إلى مناطق الدوسكي للعبور إلى تركيا.. ومنها إلى سوريا، من خلال معابر مفرزة الطريق وكان يقودها . الدليل الند مع أبو ندى وأبو سلوان ومخلص الصغير، والمجموعة الثانية من عدة انصار توجهت لمناطق عقرة.. وكان قد سبقها مجموعة توجهت إلى عقره سبق الإشارة إليها.
عادت المجموعة الاولى إلى المقر بسبب عدم إمكانية عبور الشارع بالقرب من سواره توكه.. الذي كانت قطعات الجيش تعسكر فيه بالإضافة إلى الكمائن والربايا .. و عند دراستنا لأسباب عودتهم، توصلنا إلى أن العدد كان كبيراً مع وجود حالة تردد من قبل البعض.. لذلك أعدنا تشكيل المجموعة بعد يومين بعدد اقل تمكنت بالفعل من عبور الشارع، وكتب النصير أبو ندى تفاصيل سير هذه المجموعة في الحلقات التي نشرها.. وما حل بهم حيث سلم نصيرين أنفسهم. أبو عهد وسمير حناوي الذين اعدموا لاحقاً، وانفصل عنهم أربعة آخرين، وعاد الأربعة المتبقين بعد ستة أيام وهم.. أبو سلوان، أبو ندى، ضياء، الند.
أما المجموعة الأخرى التي تقرر أن تتوجه للعمق في دشت الموصل من أجل فتح طريق إلى سوريا وفق الإمكانيات المتاحة لتنظيم الداخل فقد كان في قوامها عدد من كوادر الحزب المجربين ممن عملوا في التنظيم المحلي، لكن إلحاح النصيرين جمال آطوش وشاكر دوغاتي ومعهم الأنصار زيا و كامران من القوش للذهاب إلى المنطقة واستقصاء الأخبار عن العوائل جعلني أوافق على نزولهم مساء يوم 8 أيلول.
في اليوم التالي تحركت المجموعة التي كانت مكلفة بفتح الطريق إلى سوريا.. بقيادة أبو أمل ومعه كل من أبو امجد وأبو داود وناظم وأبو أيار وأم امجد وأبو لينا الطويل من الديوانية وآخرين وقد حدثت صعوبات ومشاكل لم تكن بالحسبان اعترضت المجموعات المتوجهة إلى الدشت .. حيث واجهت الكمائن والربايا العسكرية الجديدة وبقيت حتى الفجر تحاول تجاوز قمة كفركي لكنها أخفقت وعادت إلى الجهة الثانية المواجهة لجبل كاره ونزلت لتختفي بين الصخور والأشجار الكثيفة للوادي المنحدر للأسفل واختار أبو داود وأبو أمل قمة صخرية لجئوا لها بصعوبة ..
كانت المفاجأة مع ساعات الصباح حينما اكتشفوا وجود مجموعة أخرى بالقرب منهم .. تبين أنهم جمال آطوش ومن معه، وكادوا أن يطلقوا النار على بعضهم من شدة الإرباك و نادوا بهم نحن رفاقكم، لكن شاكر و كاميران اختفوا وتقدم جلال وزيا نحوهم.. أعلموهم بأنهم من يومين يسعون لتجاوز كمائن الجيش لكنهم فشلوا وبقوا متخفين بين الصخور .
لحين تقدم مجموعة جنود كانت تنحدر المتسلق الجبلي منتصف النهار نحوهم وحدث إطلاق نار أدى إلى تشتت الأنصار كانت نتيجته خسارة واستشهاد النصير الفنان فؤاد يلدا أبو أيار ، بعد أن أصيب بجرح أطلق النار على نفسه و تقدمت مجموعة من الجنود نحوه وسمع بقية الأنصار جندي يصيح: سيدي هذا واحد ميت .. وأمره الضابط اتركه وطلب منه العودة.
بعد لحظات توقف جندي آخر في مواجهة نصيرين متخفين خلف صخرة حسبما أكده ناظم في محطاته حول الأنفال والحصار التي نشرها.. وتبين أن النصيرة رجاء وقد واجهت فوهة بندقية الجندي المصوبة نحوها بصبر وشجاعة وبقيت مستقرة في مكانها إلى حين قال الجندي: لكم الخيار أن تسلموا أو لا وتركهم مغادراً لينسحب نحو منحدر الطريق الجبلي ..
عاد أبو أمل وأبو داود لوحدهم في اليوم التالي إلى كاره، بعد أن تشتت المجموعة، ولم يعرف شيئاً عن جمال آطوش وفقد نهائياً من ذلك اليوم، أما أبو لينا الطويل فقد ترك سلاحه أثناء الحراسة واختفى هو الآخر وقد نوه النصير الروائي سلام إبراهيم .. أبو الطيب.. في كتاباته عنه ..انه قد اعدم لاحقاً..
غادرت مجموعة صغيرة من ثلاثة أشخاص بقيادة علي حاول مع الدكتور حجي وكفاح كنجي وفيروز بتاريخ11-09-1988 .. لم يكن يعلموا شيئاً عما حدث لأنهم تحركوا قبل وصول أبو أمل و أبو داود إلينا، وتمكنوا من تجاوز الكمائن وعبروا بسلام .. بعد ثلاثة أيام تمكنت المجموعة المشتتة مع ناظم من العبور إلى الدشت أيضا.
المجموعة اللاحقة من ثمانية أنصار ونصيرات تحركت بتاريخ 12 أيلول مكونة من توفيق وأبو سالار وأبو جواد وكنار والدكتور باسل وآخرين.. لم نتمكن من العبور من قمة هسنكا بسبب الكمائن.. بقينا متخفين بين الصخور والشقوق في قمة الجبل.. ولم يكن بيننا وبين ربايا الجيش سوى مسافة 500 متر.. وبقينا طيلة النهار دون حركة.. مع لحظات الغروب تحركنا ننطلق نحو الأسفل متسللين من وادي غير سالك يتوسط قريتي هسنكا وبيبوزي متوجين نحو معابر قرية دزي في الجهة التالية من نهر الكومل، التي كانت محاطة بالربايا في حينها، حيث تحولت إلى ثكنة عسكرية وتسللنا اثنين .. اثنين من كلي رمان نحو بالطه وجبل خورزان.. الذي كان خالياً من الجيش في الجهة المواجهة لمقر بير موس.
في جبل خورزان التقينا مع المجاميع السابقة لنا.. أصبح العدد أكثر من عشرين نصيراً .. كانت قرى الدشت مهدمة .. ولا توجد إلا مراكز المدن بين ناحية القوش وقضاء الشيخان وبينها التجمعات السكانية للإيزيديين وقسم من قرى الآشوريين والعرب الذين جلبوا في فترات سابقة للسكن فيها بعد أن هجر أصحابها .
أما مجموعة أبو سربست فقد انطلقت بعدنا نحو الدشت.. وكانت مكونة من أبو داود وأبو أمل وإبراهيم وغيرهم .. وقد عبروا بسلام ووصلوا إلينا .. علما أن النصير أبو فارس وأبو سلام مع ابنه كانوا قد انطلقوا وحدهم بعد أن ابلغوا أبو سربست رغبتهم بالتسليم بذريعة السعي لتقصي أخبار العوائل التي سلمت.. وكانوا يعتقدون أن صالح نرمو سيساعدهم.. خاصة انه سبق قبل سنوات قد ساهم في إعادة بعض العوائل المرحلة من بعشيقة و بحزاني من مناطق الأنصار إلى ذويهم.. لكن السلطة أعادتهم مرة ثانية إلى الجبال.. وكان أبو فارس يعتقد أن صالح نرمو سيتمكن من مساعدته.. لكنه غيب مع أبو سلام وابنه في الأنفال ولم يعرف شيئاً عن مصيرهم لليوم.
أما المجموعة التي كانت مكلفة بالعمل التنظيمي في مناطق تلكيف والشيخان فقد تواجد منهم في الدشت أبو ليلى الدوغاتي وأبو فلاح حسن نمر من سريچكا وكان معهم حميد صور وسامي شمدين دوغاتي.. فقد بقوا لفترة صامدين في أوكار الكند لحين قرارهم بالتسليم إلى سلطات امن القوش عن طريق أقاربهم وبقي حميد صور يواجه مصيره لوحده.. بعد أن وصل جبل خورزان و لم يكن يدري إلى أين يتوجه، وبالصدفة التقى أثناء صعوده.. مع مجموعة كانت متوجهة لجلب الماء ليلا من كلوك.
أما شفان.. الذي كان قد رافق صباح كنجي في مهمة إلى الداخل قبل الأنفال.. وغادر مراني بتاريخ 29- 7- 1988 فقد سلم نفسه في الشيخان.. بعد أن علم بوجود عائلته في دهوك في شهر تشرين.. وترك صباح يواجه مصيره وحده.
بقيت مجموعة كبيرة في كاره بحدود 35 نصيراً.. بينهم أبو ناتشا .. الذي شخص كمسئول مع أبو ندا وأبو عمشة وأبو سلوان وملازم كرم .. بحوزتهم كمية من الأرزاق تكفيهم لمواصلة البقاء فترة طويلة .. كانوا ينتظرون منا موقفاً حسب الاتفاق في حالة وجود إمكانية للعبور إلى سوريا .. وفي نفس الوقت كلفوا بالبحث والتنسيق مع السرية الخامسة في العمادية لإيجاد طريق أو معبر نحو الحدود التركية أو الإيرانية.. وكان بحوزتهم أجهزة لاسلكي للاتصال عند الضرورة فقط .
فتوزعوا لعدة مجاميع صغيرة بين الكهوف والوديان في أطراف مراني التي لم يدخلها الجيش .. كانت تنسق وتحرس وتعد الطعام لعدة أيام ولم يتعرضوا إلا لرمي الطيران لمرة واحدة بسبب تعليق إحدى البطانيات أمام الشمس.. ولم نتصل بهم بالجهاز بتوجيه من أبو سالار.. بحجة احتمال كشفنا في الدشت.. وكنا قد تجمعنا في جبل خورزان المواجه لبيرموس .. شاهدنا تحرك مفرزة من الجيش تتوجه إلى بير موس مع سفح الجبل من جهة كلي كورتك.. وأطلقوا النار في بير موس قبل أن يعودوا أدراجهم .
في حينها قررنا أن نتوزع إلى مجاميع صغيرة لتسهيل الحركة والاختفاء بين جبل القوش وامتداده في كلي باعذرة مع تشديد التوجيهات والالتزام بعدم الحركة في النهار وعدم إشعال النيران نهاراً.. هكذا انقسمنا إلى المجموعات التالية ..
مجموعة رفاق القوش من عشرة أنصار منهم ماجد/ مخلص ككا/ شوكت/ حميد/ كامران/ يبقون في أطراف القوش وكفري وزير وقد اعتمدنا عليهم بتوفير الأرزاق لبقية المجاميع .. كانوا يدخلون في الليل ويستمدون الدعم من تنظيماتنا و عوائلهم.. الذين حافظوا على شجاعتهم ومعنوياتهم العالية.. وبقوا يحمون الرفاق ويقدمون لهم ما يحتاجونه في كل يوم تقريباً .. ولتسهيل دخولهم للمدينة طلبوا تزويدهم بالمسدسات بدلا من البنادق.. كان بحوزتنا عدد من المسدسات تمنطق بها المسئولين بينهم أبو جواد أبو سالار وأنا مع كلاشنكوف أيضا وكذلك أبو سربست وأبو امجد وحاولنا تلبية احتياجاتهم ومنحتهم مسدسي.. لكن أبو جواد رفض بحجة ليس معه إلا المسدس، فسألته ماذا تفعل بالمسدس؟ سنعطيك كلاشنكوف بدلا منه مؤقتاً.. قال: لا استطيع أن احمل بندقية وأصر على الاحتفاظ بالمسدس، فألححت عليه معاتباً ماذا ستفعل بالمسدس إذا كنت لا تستطيع حمل بندقية؟! .. قال : أدافع به عن نفسي وعند الضرورة انتحرُ به .. بسخرية قلت له .. هذه بسيطة .. ابقى معي .. بالقرب مني .. و في حالة مواجهتنا للموت.. اطلب مني أن أطلق عليك رصاصة، سوف أوجه بندقيتي نحوك لأنهيك.. جفل.. اخذ يعاتبني .. هل ستقتل رفيقك؟ .. بعد نقاش طويل أخذت منه المسدس وأعطيته لرفاق القوش.
ومجموعة أخرى بقيادة أبو أمل توجهت لتختفي في أطراف جبل باعذرة بالقرب من كهوف مام ازدينا التي كانوا قد وضعوا فيها كمية من الأرزاق سابقاً للحالات الطارئة.
بالصدفة في نهار احد الأيام.. تقدمت قوة من الجحوش.. تابعة لسرية محمود سيدو من قمة جبل باعذرة.. لتنحدر للأسفل.. كادت أن تكشف الأنصار.. لولا اختفائهم وبقائهم داخل الكهف لحين ابتعادهم وعودتهم إلى باعذرة من مدخل الكلي ..
ومجموعة مع توفيق مكونة من أبو سالار وأبو داود و سربست وسالم بزن توجهت لتختفي في كلي وعر بين الصخور.. كان من الصعب اكتشافه والدخول إليه إلا ممن يعرفه بشكل جيد ويتطلب منا نزع الجعب كي نتمكن من الدخول إليه.
أما مجموعة أبو سربست .. فقد توجهت لتختفي في الجهة المواجهة لبير موس.. وشكلنا مجموعة من ناظم وأبو داود مع توفيق للنزول إلى الكند للاتصال بخليل السنجاري أبو خدر.. اعترض أبو سالار على ذهابي مع المجموعة.. وطلب مني البقاء معه، كان قلقاً وقال: لا استطيع أن أتحرك أو أخطو خطوة بدون توفيق.. لكن أبو داود أصرّ على وجودي معهم.. وأمام هذا الإصرار.. رضخ أبو سالار.. لكنه طلب عودتنا سريعاً.
صباح كنجي
فصل عن الأنفال.. سينشر على حلقات.. مقتطف من تدوين سيرة ذاتية ل توفيق الختاري.. أعدها الكاتب في سياق سلسلة لقاءات قبل 5 سنوات بعنوان.. ( توفيق الختاري في يومياته ومذكراته بين الكند والجبل ) ..[1]