#صباح كنجي#
الدخول الى مدينة زاخو...
دخلنا زاخو في الساعة الثالثة عصراً من يوم13-03-1991.. كانت المدينة تزهو بالفرح.. استقبلنا خالد شيخو قائد إحدى تشكيلات الجحوش المتمردة على النظام والمشارك في انتفاضة زاخو وتوابعها..
بادرت للاستفسار منه عن مجريات الحدث.. أعطانا الرجل معلومات تفصيلية عن غنائم الثوار من الجيش العراقي المهزوم.. قدم أرقاماً دقيقة وهو يجيب على تساؤلاتي السريعة:
غنما أكثر من 200 قاذف أر بي جي سفن وخمسين مدفعاً وعشرات الدوشكات وووو... هذا في زاخو وحدها.. كان هذا أول تقرير ميداني سريع أعددته ليرسل إلى الإعلام في دمشق عبر تلفون القامشلي منقولا من قلب الانتفاضة في زاخو الثائرة، كتبته قبل أن نتناول أول وجبة طعام مع المنتفضين..
في الوقت الذي كانت المدينة تتعرض لنيران المدفعية التي تطلقها الربايا من قمة الجبل بين الحين والآخر.. بتنا ليلتنا في زاخو وأخذني كريم ابن شقيقة خالد شيخو للمبيت مع نصير آخر إلى داره.. قبل أن نغادر بيت خاله سألته:
هل تعرف بيت حسين بيتانو؟..
قال:
نعم..
قلت:
أريد أن ازور هذه العائلة.. ذهبنا إليهم.. كان في الدار أشقاء النصير خبات (صالح حسين بيتانو) بمن فيهم شقيقه الدكتور محمد الذي كان يُدرس في جامعة البصرة مع شقيقاته وأمه وأبيه، عرفنا منهم ومن الآخرين بعض التفاصيل عن معاناة الناس والجنود في أيام الغزو العراقي للكويت.. قال أكثر من شخص بألم.. أن الجنود أخذوا يتوسلون الأهالي في زاخو قبل أيام من أجل مبادلة عتاد بنادقهم بكرصة خبز أو استكان شاي..
لكن المفاجأة كانت في صباح هذا اليوم.. حينما هجم المنتفضون على معسكر الجيش ومقر الفرقة في سفح الجبل بين فيشخابور وزاخو فوجدوا فيه أطنان من الطحين والرز والعدس والمعلبات وأكداس من الشاي والسكر ووو الخ.. انصابوا بالدهشة والعجب وهم يحكون قصة الجنود الجوعى يتوسلون الناس في المدينة من أجل كرصة خبز.. دهشتي كانت الأكبر وأنا أتذكر تلك العينات من تغذية الجنود التي رفضَ الكلب تناولها..
ما زلت أتمنى أن يفسر لي من له القدرة على فك طلاسم تصرفات المستبدين لماذا كان صدام وزبانيته يجوعون جنودهم وشعبهم؟؟!!..
ما الحكمة من وراء ذلك؟!!.. وكيف يمكن تقبل هذا التصرف اللاانساني وتبريره؟.. في أي خانة يمكن تصنيفهم؟...هل هؤلاء من صنف البشر؟.. أي صنف للبشر إذن؟..
في اليوم التالي مع مجيء حيدر وأبو سربست وحكمت توماس وعدد آخر من الأنصار إلى دار خالد شيخو مع مجموعة من كوادر حدك.. تقرر أن يبقى أبو سربست في زاخو وعاد حيدر إلى سوريا ليتحدث إلى التلفزيون السوري عن مشاهداته في زاخو كقائد ميداني.. وطلب منا البقاء في زاخو لكنني أصريت على مغادرة زاخو للتوجه نحو مناطق الموصل..
في اليوم التالي قبل الظهر، حصلنا على سيارة تاكسي.. ذهبت مع سائقها لتعبئة البنزين من محطة زاخو المزدحمة.. حينما أخذت الخرطوم من السواق لتعبئة التاكسي الذي سيرافقنا تعرضت لرشة بنزين في وجهي تسببت في حروق في الوجه والعينين ولم يكن في حينها ماء لأغتسل.. مع هذا تحملت الموقف وتجاوزت الآلام الناجمة من الحرق.. توجها إلى زاخو كي نتحرك مع بقية الأنصار المكلفين برفقتي للمغادرة والتوجه نحو سهل الموصل والشيخان كنا خمسة انصار مع سائق لا نعرفه.. سعيد دوغاتي وعماد القوش وأبو أفكار وفرهاد شيخكي..
في الطريق إلى دهوك شاهدنا العشرات من المرتزقة العرب ممن جلبهم النظام من الجزيرة واسكنهم في سهل وقرى السليفانا يقودون قطعان مواشيهم يتوجهون جنوباً نحو الموصل من غرب دهوك ليغادروا المدن الكردية ويعودوا إلى أرجاء الجزيرة والبادية.. كانوا يسيرون منكسرين لكني لم أشاهد أحداً يعترضهم أو يقترب منهم، مما دفعني للتوقف أمام ما صادفني في زاخو قبل يوم، عندما جاء شخص يرتدي الملابس العربية بمعية مواطن كردي ليشتكي وهو يتفرس في وجهي.. عن ضياع شاتين له لا يعرف من سرقها!.. وقارنت بين ادعائه وما أشاهده من حركة نزوح لقوافل قطعان الماشية، فلا اصل إلا إلى استنتاج وحيد قد يكون ذلك العربي، أن لم يكن صادقاً في ادعائه بفقدان شاته، من عملاء الأمن.. فتقاسيم وجهه كانت تفضحه ومع هذا قلت له:..
يا عمي هاي انتفاضة وين ألكيلك الغنمات.. إن كنت تريد ثمنها سوف اطلب من خالد شيخو ان يقدم لك المبلغ الذي تحدده.. روح دير بالك على نفسك الدنيا وين وأنت وين؟..
واصلنا سيرنا نحو دهوك.. عند وصولنا قضاء سميل شاهدنا أعمدة الدخان تنطلق وتتصاعد من مبنى قال لنا السائق:
انه مبنى دائرة الأمن في سميل..
بعد دقائق تجاوزنا دهوك.. كان غبار المعارك يتصاعد وأجواء المدينة متوترة بسبب لجوء المسئولين البعثيين والضباط بمن فيهم ضباط الأمن إلى بيوت شخصيات عشائرية كردية تقود تشكيلات للجحوش متمردة على النظام، لكن قيم العشائر لا تبيح لها عدم استجارة هؤلاء القتلة.. ومضينا نحن في الطريق نحو الموصل وتوابعها..
حال خروجنا من المدخل الجبلي لدهوك، شاهدنا الطائرات السمتية تحلق في أجواء المنطقة وتقصف أطراف ناحية فائدة ومعسكر الجيش الذي كانت تدور حوله معارك طاحنة.. أراد السائق أن يتوقف ويعود بنا متذرعاً بالخوف من احتمال تعرضنا لصاروخ موجه من إحدى السمتيات.. طبت منه مواصلة السير.. قطعنا مسافة كيلومترين.. اقتربت منا طائرة هليكوبتر.. كانت تقصف أهدافاً في المسافة التي تبعدنا عن فائدة ومعسكرها المحاصر.. ذعر السائق.. توقف يخاطبني:
أنت مجنون.. أنا لست مجنون.. لو تقطع رأسي لن أتقدم خطوة أخرى.. باءت محاولاتي لحثه على مواصلة السير بالفشل.. قلت له:
حسنا توجه نحو اليسار.. اتجه للشرق نحو مجمع شاريا.. قال مستنكفاً وغاضباً: ما الفرق هي نفس الخطورة؟!!.. ألححت عليه وقلت له: بقاؤك ثابتاً هو أسهل هدف للطائرة ومن الأفضل أن تعرج لتدخل طريق شاريا الترابي.. وافق.. انعطف بنا نحو شاريا.. كانت الساعة بحدود الرابعة عصراً.. التجمع خالي من السكان.. الأهالي تركوا بيوتهم وممتلكاتهم وغادروا إلى موقع شاريا القديم.. التجأوا للكهوف وشعاب الجبل، ماعدا بعض الشباب المتطوع للبقاء فيها لحماية ممتلكاتهم من السرقة.. التقينا بالصديق حجي خمو ومن معه، قدم لنا وجبة طعام سريعة وبعض المعلومات المهمة، بعد ساعتين من نفس اليوم غادرنا شاريا مشياً على الأقدام نحو مدينة القوش..[1]