#صباح كنجي#
القوش ليست مدينة عادية، رغم صغرها لها حضور مهم وكبير في الشأن السياسي .. تسميتها مشتقة حسب المصادر التاريخية من لحظة بنائها كقلعة/ قشلة في زمن السبي البابلي لليهود الذين أسرهم نبو خذ نصر ونقلهم من فلسطين إلى العراق.. حينها جلب بعضاً من هؤلاء ليودعوا في القشلة التي أنشأت لهم كمركز اعتقال وحجز.. ومع الزمن تحولت إلى مدينة القوش المغلقة للكلدان المسيحيين الذين كان لهم دوراً مهماً في رفد المراكز المسيحية في العالم بالعديد من المطارنة من أبناء المدينة الذين شغلوا عضوية مجلس الكرادلة العالمي..
في التاريخ المعاصر ابتداء من الأربعينيات في العهد الملكي ومع بزوغ شمس ثورة جمهورية تموز العراقية تحولت المدينة مع عدد من مدن وقرى أطراف الموصل ك بحزاني ودوغات و تللسقف إلى قلاع ثورية للشيوعيين.. هكذا أصبحت القوش وعاصمتها محلة سينا مدينة شيوعية بامتياز قدمت العشرات من الشهداء والضحايا في سوح الكفاح، وهي بالإضافة إلى ذلك مدينة القائد الأسطوري المعروف.. توما توماس.. أبو جوزيف.
الوصول إليها ودخولها لن يكون حدثاً عادياً.. بالرغم من نقص المعلومات وانعدامها وعدم معرفتنا بأوضاعها الداخلية، قررنا التوجه إليها فوراً. المسافة من شاريا إلى القوش عبر المسلك الجبلي لا تستغرق أكثر من ثلاثة ساعات فقط.. خططنا لدخولها ليلا لاستجلاء الموقف.. هكذا غادرنا شاريا عصر يوم 13 آذار لنتسلق مسالك الجبل ونهبط نحو المدينة من الغرب لندخلها في العاشرة ليلا..
طلبتُ من عماد أن يقودنا لدار الرفيق أبو يوسف والد الشهيد جنان.. في الحال انتشر الخبر ووصل عدد من الشباب.. طلبت منهم تهيئة اكبر عدد من المسلحين للتحرك فجراً، أو مع الصباح لاستكمال تحرير المدينة، التي كان قد غادرها البعض من المسئولين الذين سحبوا معهم أفراد الشرطة والأمن لحمايتهم تحوطاً لاحتمالات توسع رقعة الخارطة الثورية وشمول القوش بالانتفاضة..
دخولنا في تلك الليلة حسم الموقف.. الشباب لا يحتاجون للتحريض.. فقط لمن يبدأ ويتحرك ليقودهم ويوجههم.. في ساعات الفجر جاءتنا أنباء عن مغادرة المتخفين من البعثيين للمدينة حينما علموا بدخول الشيوعيين.. وفي الصباح كنا على موعد مع جماهير القوش في ساحة المدينة المواجه للإعدادية الصناعية التي تقاطر إليها الجمع الغفير.. وجدتُ نفسي أحاور شهدائها.. انتصبت أمامي هاماتهم عالية.. كان أول خطاب جماهيري في معمعة الانتفاضة بدأته في لحظة خشوع عاطفية لأطياف الشهداء الذين اعرفهم فرداً.. فرداً.. مستهلا ب..
يا جماهير القوش البطلة.. مدينة الشهداء الأمجاد.. أخذتُ اعدد الأسماء التي حضرتني في تلك اللحظات العاطفية.. جنان.. أبو إيفان.. حكمت.. منير.. سلمان.. طلال.. كامران.. ثائرة.. سنحاريب.. عامل.. خيري.. سعد.. العشرات من الأسماء .. مؤكدا إننا لم نأتي لننتقم.. بل جئنا لندافع عن المدينة وأبنائها محذرا ً من وجود رأس الأفعى في بغداد، ومنوهاً لعدد من الأسماء الانتهازية فيها، ممن خدموا النظام ألبعثي، وكانوا عونا للاستبداد ما زالوا في المدينة وقد يلعبون دور الطابور الخامس للسلطة، محذراً إياهم من إننا نعرفهم بالأسماء ابتداء من جميل تيزي ورهطه الذين على شاكلته وندرك ما فعلوه..
ولكي لا نضيع الوقت طلبنا من المنتفضين التوجه للإعدادية لجعلها مقراً للانتفاضة، وشكلنا لجنة للمنتفضين من 15 شاباً لإدارة شؤون البلدة والإشراف على الأمن وتنظيم الحراسات.. هكذا بدأنا بالتحرك دون أن نضيع الوقت.. عقدنا عدة لقاءات مع وجوه اجتماعية بمن فيهم القس.. علمنا بمشكلة ملحة بسبب عطل في مضخات الماء، كلفنا احد الموظفين للذهاب إلى الموصل وجلب المعدات التي لها علاقة بتشغيل المضخات وعاد بعد ساعات ليبدأ في معالجة مشكلة انقطاع الماء.. وأجرينا عدة زيارات لعوائل وكوادر وأنصار معروفين.. زرت عائلة الدكتور يوسف والد النصير حازم والتقيت بالمناضل القديم سالم سطيفان- أبو داوود الذي كان قد بقي ولم يغادر المدينة منذ عام 1978 وعدد من الأصدقاء الأنصار.. كذلك التقيت بطيب محمود آغا الذي كان قد جاء كممثل للحزب الديمقراطي الكردستاني وبقي مع مسلحيه في مركز الشرطة في طرف المدينة وأبدى استعداده الكامل للتعاون والتنسيق، بدوري أوصيت المنتفضين والشيوعيين بالاهتمام به بحكم العلاقات السابقة وتعاون أهله وأقربائه مع الشيوعيين في فترات تاريخية معروفة.. مع استتباب الوضع نسبياً في المدينة قررنا التوجه إلى الشيخان.. الطريق إليها تمر بالقرب من مجمع الشرفية المسمى قرية صدام النموذجية الذي كان سكانه المسلحين موالين للنظام الدكتاتوري..
في القوش تلقينا هدية لا تعوض.. قدمها لنا نسيم شقيق الشهيد كامران الذي قادني نحو كراج مخفي، فيه سيارة عسكرية مغطاة بجادر نزعت دواليبها الأربعة قائلاً :..
هذه هديتكم.. سيارة لا ندكروز عسكرية موديل 1990 جديدة.. اخذ يركب دواليبها الأربعة تباعاً.. بقيت مشكلة الحصول على البنزين.. تحركنا نحو مخزن لقناني الغاز.. اخذ يستخلص من عدد منها ما يمكن أن يكون بديلا للبنزين.. وقرر مرافقتنا كسائق ونصير جديد باسم كاميران حاملاً اسم شقيقه الشهيد في جولتنا لبقية المدن المنتفضة.. قلت له:
الليلة سنتحرك إلى الشيخان..
هكذا انطلقنا مع حلول الظلام كي نتجاوز مجمع الشرفية دون صِدام.. كنا قد وضعنا في المقدمة علماً أحمر مع رقعة كتب عليها أنصار الحزب الشيوعي العراقي.. الطريق إلى الشيخان ليست بعيدة ولا تتعدى العشرين كيلومترا.. لكن الحذر مطلوب في مثل هكذا أوضاع معقدة..
تجاوزنا منتصف الطريق.. لم يبقى أمامنا سوى عدة كيلومترات للوصول إلى موقع سيطرة الشيخان الرسمية في المفرق.. حينما شاهدنا ضوءً يتقدم من جهة السيطرة نحونا.. طلبت من كامران أن يعطيه إشارة توقف مع إطفاء الأضوية كي لا يشخصنا السائق ومن معه.. توقف جرار زراعي بالقرب منا.. سألتهم بالكردية عن الوضع في الشيخان وما حل بها.. فاجئني سائق الجرار رغم الظلام ومغادرتي المنطقة من عام1988 بمعرفتي من خلال الصوت.. متسائلا قبل الإجابة:
صباح أنت؟.. قلت مندهشاً:
كيف عرفتني من هذا البعد وفي هذا الظلام؟..
قال:
من الصوت.. مؤكداً ضرورة الانتباه.. الوضع في الشيخان غير محسوم بشكل نهائي.. وقال لأطمأن:
أنا درمان أبن المختار.. من مل جبرا.[1]