#صباح كنجي#
الدخول إلى قضاء الشيخان..
اقتربنا من سيطرة الشيخان.. كانت المئات من السيارات المدنية متراصة ومتوقفة بسبب الازدحام تقل مسلحين يتوجهون للدخول إلى المدينة.. لم نكن نعرفهم ولا ندرك طبيعة مهمتهم.. طلبت من كامران الوقوف بعيداً عن رتل السيارات المسلحة والاستدارة نحو الشيخان تحسباً لأي موقف طارئ لا يحمد عقباه وسط هذا الحشد من المسلحين الذين لا نعرفهم..
بهدوء وحذر تسللتُ راجلاً بين حشد السيارات المتوقفة أتقدم بينها.. لم يسألني أحد من أكون؟.. ولكن كنا بحاجة لمعرفة من يكونون؟.. توقفت أمام سيارة فيها سائق ورجل نحيف في المقدمة مع ستة مسلحين في علبتها.. حال وصولي إلى جهة الرجل النحيف في مقدمة التويوتا.. وجهت نحوه فوهة البندقية قائلاً.. نحن شيوعيين.. من انتم؟.. وطلبت منهم عدم التحرك وإلا سأطلق النار مهدداً من في مقدمة العربة..
صاح... الللللللله.. وطلب من جماعته الهدوء.. قائلا نحن من رجال السلطة.. جحشك.. أتينا لننظم للانتفاضة وأعلن فرحته بوجود الشيوعيين.. قائلا.. في حياتي لم أواجه هكذا موقف صعب وتوجه بندقية لصدري.. من أنت يا رجل؟.. قلت له صباح كنجي مسئول الشيوعيين.. قال معرفاً بنفسه: أنا علي كوخي.. وأنا تحت تصرفكم.. سألته عن المدينة قال: بدأت فيها الانتفاضة لكن الوضع معقد.. اتفقنا أن نلتقي في المدينة عدت إلى اللاندكوز وطلبت من كامران الانخراط وسط الحشد الذي اخذ يفسح لنا الطريق ودخلنا الشيخان..
الشيخان.. القضاء بنواحيه وقراه من أهم توابع الموصل.. عليه أشتد الصراع وتعقد بين السلطة المركزية وقيادة الثورة الكردية وهو بالإضافة إلى موقعه الجغرافي المهم يعتبر مركز إمارة الإيزيدية ويحتوي على ثقل بشري يمتد إلى سنجار بحكم ارتباط الإيزيدية بمعبد لالش على بعد 15 كيلومتر فقط من مركز المدينة.. مع وجود عائلة المير/ الأمير في مركز قصبة باعذره 20كلم غرباً والسلطة بتمسكها بالشيخان تحاول فك ارتباط الإيزيدية بالكُرد وتعتبرهم عرباً وعند اختلاف ميزان القوى لصالح الكُرد تنشط في مجال تغذية الأفكار التي تنادي بالوجود المستقل للايزيديين وتشجع من يعتبر نفسه قومية مستقلة في اضعف الاحتمالات.. لهذا نشأت في فترات زمنية مختلفة اتجاهات فكرية تعتمد على أقلية غير مؤثرة تنادي بجعل الإيزيدية دينا وقومية معاً في آن واحد مع وجود حالات فردية تنادي بعروبة الأيزيديين بدأ بتشجيعها عبد الناصر من عام 1956 ولاقت تعاضد من القوميين العرب الشوفينيين الذين لا يستوعبون صلة الإيزيدية التاريخية بالكرد بحكم كثافة تواجدهم في الموصل وتوابعها ابتداء من مركز قضاء المحافظة الذي تشكل بعشيقة قوامه البشري وانتهاء بسنجار والشيخان و تلكيف التي يكثف وجود الأيزيديين فيها..
توجهنا لبيت البير حيدر مجيور- أبو خدر- الذي كان مختاراً للمدينة انتخبته وفرضته الجماهير مختاراً في زمن الاستبداد البعثي، وهو من الرعيل الأول للشيوعيين فيها.. فرح بوجودنا وأعلمني بأن قريبه نسيبه العقيد الطيار حسين مرعان سيلتحق وقد وصل الموصل بسلام.. قررنا بالتشاور مع عدد من الشيوعيين التوجه لدائرة الزراعة لجعلها مقراً لنا ..
في صباح اليوم التالي علمنا بوجود شقيقي كفاح كنجي في الشيخان أيضا بعد أن جاء لوحده من أربيل وقد علم كفاح بوجودنا أثناء وجوده في محل لتصليح التلفزيونات لصاحبه خيرو بتي - أبو حسن من بحزاني، حينما نوه له حسن انه شاهد سيارة تجوب شوارع الشيخان مكتوب عليها أنصار الحزب الشيوعي العراقي..
كان لقائي بشقيقي كفاح بعد فترة انقطاع مؤلمة بدأت قبل الأنفال حينما توجهت للداخل قبل أربعة سنوات مضت تاركاً أخوتي وأمي وبقية أفراد عائلتي الكبيرة في شعاب كارة بالقرب من مقر مراني.. ورغم خسارتنا الكبيرة لهم كانت الفرحة لا توصف بين شقيقين فقدا الأم وثلاثة أشقاء وأولاد عمهم في مرحلة الأنفال.. أخذت كفاح معي للمقر.. كانت البناية مفرغة من الأثاث.. في اليوم التالي بدأنا بالتحرك ووجهنا نداء للأهالي لإعادة ممتلكات الدائرة الزراعية استجاب الناس للنداء وأعادوا ما أخذوه بسرعة لم نكن نتصورها.. كانت المهام التي تواجهنا في الشيخان جسيمة ومعقدة تبدأ من الدفاع عن المدينة من احتمالات عودة الجيش لها، والتوسع نحو بقية المدن لتحريرها بما فيها قرى الشيخان و بعشيقة والموصل وكذلك تحديد الموقف من قرى المرتزقة العرب الذين جلبهم النظام في فترات سابقة، وأيضاً إدارة شؤون القضاء وتوفير مستلزمات المواطنين وتنظيم العلاقة بين الأحزاب والمواطنين والعشائر وحماية مئات الجنود غير المسلحين الين يتواترون على المدينة ويرغبون في الوصول إلى مناطق سكناهم في بغداد والمحافظات الجنوبية..
اعتبرنا المهمة الأولى لنا جمع اكبر عدد ممكن من وثائق الأمن والمخابرات ولعب دوراً مهماً في ذلك عدد من الشباب الشيوعيين وفي مقدمتهم النصير السابق شمو زيعو حبيب الذي نقل إلينا كميات كبيرة من وثائق الأمن في كواني وصناديق وبدأنا نقرأ نصوصها ليلا على ضوء اللوكس ونفردها ونعزل المهم منها.
كذلك بدأنا بتشكيل لجنة للجبهة الكردستانية ومن خلال علاقاتي تمكنت من تشكيل لجنة جبهة كان في قوامها البيشمركة حكمت من كوادر حدك وأمين بابا شيخ من تنظيمات أوك وممثل عن حزب الشعب لا اذكر اسمه للأسف وبدأنا بالتعامل مع الجنود العراقيين الذين القوا سلاحهم باسم الجبهة الكردستانية والمعارضة العراقية.. كانت مهمتنا تقديم النصح والمساعدات الإنسانية لهم وبدأنا نجمعهم في الجامع لنقدم لهم وجبات الأكل ونوفر لهم مكان للراحة والنوم..
كانوا يلحون علينا بتركهم ليذهبوا نحو الموصل ومنها لبقية المحافظات العراقية في الوسط والجنوب وكنا نحذرهم من فرق الإعدامات في الموصل.. واذكر أن جندياً سحبني بعد أن علم إني من الحزب الشيوعي ليكشف لي عن هويته قائلا: أنا ابن عم أبو روزا الناصرية..
لعبت لجنة الجبهة رغم تشابك الوضع في الشيخان دوراً مهماً في متابعة الشؤون اليومية والإدارية واتخذت عدة قرارات مهمة، وكان لها دوراً قيادياً لا يمكن إغفاله أو تجاوزه بالرغم من وجود قيادات أخرى لأطراف في الحركة الكردية من بينهم حسو ميرخان الذي وصل والتفت الجماهير حوله من خلال رؤساء العشائر وبلغ عدد المسلحين التابعين له أكثر من ستة آلاف مسلح مع وجود أعضاء من اللجنة المركزية لحدك كقادر قاجاغ والكادر القيادي تمر كوجر وغيرهم ممن عرفتهم في فترة البيشمركة.. كان حسو ميرخان يشكل تأثيراً معنوياً ويعتبر من قادة حدك والثورة الكردية وهو من الرعيل الأول من الذين رافقوا البارزاني في خطواته الأولى..
لكن حسو في هذه الانتفاضة حصر نفسه في حدود الجامع وكان يعتمد على الزوار الذين يدخلون عليه من ممثلي العشائر.. لذلك لم يكن له تأثير فعلي على حركة الناس وتوجهنا كقوى منظمة ضمن الجبهة الكردستانية أما بقية قيادات حدك فلم نحس بوجودهم اليومي إلا بعد أن تحرك الجيش للاحتلال الشيخان مجدداً وهذا ما سنبينه لاحقاً في الأسطر القادمة..
أخذنا نساهم بفعالية في إدارة شؤون الشيخان.. وتعزز موقعنا.. وأصبح مقر دائرة الزراعة من انشط المقرات.. يتابع ملفات الأمن والمخابرات، وينظم العلاقة مع الجماهير والأحزاب الكردية، ويضع الخطط لتحرير بقية المدن بما فيها مدينة الموصل.. والتحق بنا عدد من الشباب من عوائل معروفة لنا، وتمكنا من تنظم أوضاعنا وتقسم العمل بيننا وأصبح فرهاد شيخكي مسؤولا عن الإدارة وحماية المقر..
حصرنا جهودنا في الأسبوع الأول من تواجدنا في الشيخان بمسألتين.. الأولى توزيع المواد الغذائية على المواطنين من السايلو المعبأ بشتى أصناف البذور من حنطة وشعير وعدس وشتى أصناف البقوليات.. والتفكير بوضع خطة لتحرير بعشيقة والموصل.. كانت المناطق المحررة قد امتدت إلى الناوران وبدأنا استعداداتنا الفعلية للتحرك نحو بقية المناطق..
حددنا يوم 21 نوروز للانطلاق لتحرير بعشيقة و بحزاني ومنها نستعد للتحرك نحو الموصل، ولمعرفة موقف عائلة المير من تطورات الأحداث أرسلت سراً رجلاً من الإيزيدية يخالط عائلة المير وبات ليلته مع فاروق سعيد بك في الموصل وكلفته بجس نبض فاروق ومعرفة نواياه.. عاد مؤكداً أن فاروق والعائلة الأميرية قد حسموا أمرهم وسيلتحقون بالمنتفضين وهذا أمر يتناقشون به ويتهيئون له..
كانت خطتنا للتحرك نحو الموصل تعتمد على محورين تبدأ من الشيخان نحو بعشيقة و بحزاني ومن ثم النزول لقرى ومجمعات الشبك المتداخلة مع محور مدينة الموصل.. الثاني تقدم القوات المنتفضة من مناطق أربيل ومخمور عبر محور برطلة.. استعدينا للتحرك وفق الاتفاق ليلة20/21 نوروز وأرسلنا مجامع المسلحين من تشكيلات الجحوش الملتحقين بقوات المنتفضين عبر مسارات جبلية من مناطق مهت، وتحركت قوات العشائر أيضاً من ذات المسلك الجبلي، وتهيأنا نحن للانطلاق عبر محور النوران الذي كانت تستحكم به قوات الانتفاضة بإشراف من الحزب الديمقراطي الكردستاني..
بدأنا بالتحرك في حدود الساعة الثانية عصراً بسيارة تاكسي عادية يقودها النصير حسن هفندكي من العمادية ومعي ثلاثة أنصار آخرين هم نزار آميدي وفرهاد شيخكي وأبو أفكار.. كانت غايتنا الوصول إلى بحزاني وبعشيقة عبر الطريق القديم المار من مفرق النوران عبر الفاضلية والكانونية الذي لا يتجاوز العشرة كيلومترات، وكانت تنظيماتنا مهيأة للانطلاق ومستعدة للتحرك الفوري حسب الخطة مع لحظة دخولنا العلنية لإعلان الانتفاضة فيها، بالرغم من تهديد سلطات الموصل والجيش بهدم بعشيقة و بحزاني بالراجمات والصواريخ في حالة انتفاضها.. علماً أن مجموعة خاصة من تنظيماتنا في الموصل، قد نسقت مع قيادة الفرقة العسكرية المتواجدة فيها وأعلنوا استعدادهم لتسليم الفرقة للشيوعيين حال دخول المنتفضين إلى المدينة..
كانت هذه إجراءاتنا الأولية التي نستند إليها في التطبيق لتوسيع الانتفاضة وتحرير الموصل.. لهذا الغرض وبغية التنسيق مع قيادات المعارضة والأحزاب أرسلنا التفاصيل إلى قيادات الأحزاب المشتركة المتواجدة في ساحة العمل الحزب الشيوعي/الديمقراطي الكردستاني/ الاتحاد الوطني الكردستاني.
بدوري أرسلت رسالة إلى أبو فاروق في أربيل، بعد أن أعلمنا المجموعة القيادية في زاخو من كافة الأطراف بما فيهم الشيوعيون الذين أصروا على البقاء في زاخو، ونقل رسالة أبو فاروق النصير السابق شمو زيعو- حبيب قبل يومين من تحركنا.. كنت قد كتبت فيها: إننا سنتحرك إلى بعشيقة و بحزاني والموصل ليلة نوروز.. ونطلب دعمكم بالتحرك إلى مناطق برطلة عبر الطريق المحررة المفتوحة من أربيل، وأعلمته باستعداد المنظمات الكامل، وتنسيقنا مع قيادة الفرقة العسكرية، وأكدت فيها بأن عدد المسلحين المنتفضين الذين تحت أمرتنا الآن يتجاوز العشرة آلاف مسلح وجميعهم جاهزين للانطلاق والتحرك في هذا الموعد المتفق عليه.. لم استلم أي رد من أبو فاروق!!.. ونقل لي حبيب عند عودته تعليق أبو فاروق بعد أن قرأ الرسالة.. ليش ما باقي في قيادة الحزب غير صباح كنجي حتى يكتب لي رسالة؟!!!!...[1]