#صباح كنجي#
مواجهة مع الجيش في طريق بحزاني ..
بعد توقف لساعة في سيطرة الشيخان للاستفسار عن الموقف في النوران قبل أن ننطلق إليها.. أكدت القوة المشرفة على السيطرة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني: أن الوضع كما هو وإن قوات البيشمركة والمنتفضين مسيطرة وتشرف على مرتفعات النوران..
علما أن المسافة بين الشيخان والناوران لا تتجاوز ال 25 كيلومتراً والخطورة الوحيدة تأتي من بقاء قرى المرتزقة العرب الذين جلبهم النظام واسكنهم في مجموعة قرى بعد تهجير سكانها الأصليين في فترات متعاقبة..
مع هذا لم يشكل هؤلاء في هذا الوضع الثوري أهمية من الناحية العسكرية بالعكس كانوا يبحثون عن الآمان والسلام بعد أن تحررت المنطقة وتحسبوا من احتمالات الانتقام منهم.. لكن أحدا لم يعترضهم.. بالنسبة لنا كنا على صلة بهم من سنوات وبينهم متعاونين مع الحزب الشيوعي..
تحركنا مغادرين سيطرة الشيخان عند الثالثة عصراً.. بهدوء وتأني نراقب الأجواء والمحيط.. قبل الوصول إلى مرتفعات الناوران من المنخفض السهلي المرتبط بذيل جبل مقلوب، الذي ينتهي عند الحدود الشرقية للشارع المطل على الناوران، ويتحول إلى هضبة ومجموعة تلال تمتد غرباً، وعلى بعد 70 متراً فقط... قلت لحسن هفيدنكي..
قف.. قف.. أمامنا دبابات وجنود..
كانت الساعة تقترب من الرابعة عصراً بدقائق معدودة.. نزلت فوراً لأراقب بالمنظار رتل الدبابات المنتشرة مع مئات الجنود في خط أفقي مستقيم على جانبي الشارع.. في لحظات انطلقت نحونا قذيفة اربي جي سفن لتنفلق وتفجر دولاب السيارة الأمامي.. أعقبها دوي المزيد من قاذفات المدفعية وأطلاقات كثيفة مشفوعة بنداء للاستسلام.. طلبت من حسن الاستدارة والانطلاق فوراً للابتعاد عن النيران رغم عطب الدولاب وبقي معه فرهاد، حاول أبو أفكار التشبث بباب السيارة التي كان قد نزل منها لكن استدارة حسن السريعة جعلته يبقى معي وكذلك نوزاد آميدي..
لم يتوقف الرمي وتحركت دبابتان نحونا وبرشقه سريعة نحوهم كي يدركوا أننا مسلحين.. لن نستسلم.. طلبتُ من الاثنين التوجه نحو أخدود يؤدي لوادي صغير بين التلال على بعد أمتار ويتصل عبر مجرى مياه متعرجة تمتدُ بعيداً لا يمكن تجاوزها بالآليات العسكرية.. بهذا نؤمن عدم وصول الدبابات لنا..
أخذنا نسير مبتعدين بينما زخات الرصاص و قنابر المدفعية تتواصل وتتلاحق من فوقنا .. طلبت من أبو أفكار ونوزاد السير في عمق الأخدود دون الاضطرار لكشف موقعنا وطمأنتهم أن السير في هذه الممرات سينقذنا بحكم معرفتي بطبيعة المنطقة.. فقط انتبهوا لاحتمال أن يتصدى لنا المرتزقة العرب الذين سنكون مضطرين للمرور من أمامهم على بعد مائة متر من إحدى قراهم.. قد يستغلون الفرصة ويهاجمونا..
انتبهت لأول مرة لوضع أبو أفكار.. بعد أن حاول رفع رأسه وكشف موقعنا لتتوجه نحونا المزيد من النيران.. بعد أن عنفته.. سألته: ولك وين سلاحك؟!.. وين الكلاشنكوف؟!.. وين المسدس؟!.. وين قابورياتك؟!!.. بصوت ذليل قال: وقعت مني!!!..
لم أكن أدري أنه يفكر بالاستسلام من لحظة وقوعنا في الكمين.. لهذا تخلى عن بندقيته وسلاحه معداً نفسه للاستسلام.. بين الحين والآخر كان يحاول رفع رأسه فانهره.. بعد تجاوزنا لقريتين للمرتزقة بقي أمامنا مسافة 50 متر مكشوفة، هي سفح تل صغير، لا بد من تجاوزه بسرعة ولا يشكل الجنود خطورة علينا بحكم ابتعادنا عنهم... فقط كانت الدبابات والمدفعية بإمكانها أن تصيبنا.. عند اجتيازنا للخط.. قلت لهم:.. الآن بالإمكان أن تواصلوا السير بهدوء لقد تجاوزنا الخطر .. لم يبقى أمامنا سوى قرية واحدة للمرتزقة في شيفشيرين لا تشكل أي عائق لأنها قريبة من سيطرة الشيخان..
بدأت أفكر بحالة أبو أفكار وكيف ندخله المدينة من دون سلاح؟.. كان المساء قد حل حينما وصلنا سيطرة الشيخان.. هناك عرفنا أن حسن وفرهاد قد وصلوا بأمان.. لكنهم كانوا قد يئسوا من احتمالات بقائنا على قيد الحياة.. حسن هفندكي قال لهم: صباح ومن معه اشتبكوا مع الجيش مستخدماً تعبيراً كردياً لا يمكن ترجمته بدقة إلى العربية قائلا:.. طل طلاني ادكرن كل جيشي.. بمعنى أننا اشتبكنا بالبطون نتعارك ملتحمين.. النجاة والخلاص فيها مستحيلة!..
انتظرنا في السيطرة لأجل إحضار قطعة سلاح لأبي أفكار من المقر كي نتدارك الفضيحة، ولحين جلب القطعة شاهدت رتلا من السيارات توقفت في السيطرة آتية من طريق مهت تقل مكرم الطالباني متوجهة إلى دهوك لبدء جولة مفاوضات مع قيادات المعارضة.. حينها كان جلال الطالباني في زاخو مع مجموعة قيادات لأحزاب أخرى..
وصلنا المقر بسلام خسارتنا كانت فقدان أبو أفكار لسلاحه الذي غادرنا بخجل في اليوم التالي مع مجموعة أنصار عقره.. هذا ما حدث معنا.. أما بقية التفاصيل.. فكان الجيش العراقي قد تحرك ليسترجع محور الناوران في الساعة الثانية عصراً، وانسحبت قوات حدك من مواقعها في النوران دون أن تطلق النار متوجهة إلى مجمع مهت وتعلم الشيخان بهذه التطورات..
وفيما يخص المجموعة التي توجهت من الجبل نحو بعشيقة و بحزاني، فقد دخلت المدينتين، وكان البعثيون في بعشيقة قد افرغوا مقر منظمة حزب البعث ونصبوا كمائن في أطرافها بتوجيه من المجرم حمزة وحال دخول القوات المنتفضة من العشائر الكردية تم إطلاق النار عليهم فاستشهد اثنان منهم وانسحبوا..
بينما بقيت المجاميع الداخلة إلى بحزاني على السطوح والمرتفعات ورغم إلحاح تنظيماتنا عليهم بضرورة الانسحاب لأن بعشيقة لم تسقط وفشل هجوم المنتفضين في دخول مقر حزب البعث، لكنهم لم يصدقوا وبقوا إلى الصباح في بحزاني، وبعد إلحاح تم توجيههم إلى ممر جبلي في وادي السنجق لينقذوا أنفسهم بلا خسائر بمرافقة عدد من الشيوعيين المنظمين..
بقينا في الشيخان ننظم شؤون القضاء وتوابعه.. التحق بنا عدد من الشباب وجرى تسليحهم.. حصرنا اهتمامنا بمعاناة الجماهير، قررنا توزيع المواد الغذائية عليهم من السايلو الذي زرته برفقة المهندس الياس، وابلغنا أصحاب المحلات التجارية ووكلاء المواد الغذائية للتهيؤ لاستلام حصصهم للتوزيع يوم 28 آذار الساعة الثامنة صباحاً.. كان كل شيء جاهزاً وحاول ممثلو حدك أن يحصروا التوزيع بأهالي الشيخان فقط.. لكن إصراري وبدعم الآخرين حال دون ذلك وكانت الفكرة أن يشمل التوزيع جميع المجمعات والقرى.. في صبيحة اليوم الموعود نهضت باكراً في السادسة صباحاً.. كان من المقرر أن نتوجه للسايلو للإشراف على التوزيع قبل الثامنة صباحاً.. لكن الحرس واعتقد كان فرهاد قال: هناك تحرك للجيش في أطراف شيفشرين.. وبعد دقائق سمعنا دوي قذيفة مدفع.. راقبنا الرتل العسكري الذي كان يتقدم نحو السيطرة عند الساعة السابعة والنصف صباحاً لينقسم إلى محورين.. وقررنا التهيؤ لصد الهجوم ومنع قوات السلطة من دخول المدينة..
كنا بحدود 12 مسلحاً فقط من الشيوعيين مع أعداد هائلة من المسلحين المنتفضين يتجاوز عددهم الستة آلاف مسلح.. ومعنا سلاح ساند.. تم الاتفاق بشكل سريع على خطة الدفاع عن المدينة وتوجه العقيد الطيار حسين مرعان نحو رباعية مقاومة الطيران في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة بالقرب من مزار شيخالي شمسا، قرر حدك دفع مجامع للمقاومة بقرار من قادر قاجاغ.. أما تمر كوجر فقد توجه قبل يوم إلى قصبة باعذرة مع مجموعة من البيشمركة وبقي ليلتها هناك..
وضعنا الأوراق والوثائق في حقائب بغية نقلها، وهذا خطأ منا لم نتحسب إليه قبلها، وأبقينا مجموعة في المقر للحراسة بإمرة فرهاد شيخكي، وتوجهت مع كفاح وعدد آخر من الأنصار مصطحبين معنا مدفع 81 ملم أخذناه من حدك وقاذف اربي جي سفن أخذناه من حزب الشعب، وبعد دقائق انظم إلينا عبد الستار المزوري الذي كان حينها في قوام حزب الشعب، وفرج وهو قريب لنا من كوادر الديمقراطي الكردستاني، ومع أول قذيفة مدفع أطلقها كفاح أصابت نقطة تجمع الدبابات.. توقف رتل السيارات الذي كان يسير لحتفه بين الجيش المرافق لتمر كوجر وعاد من حيث أتى باحثاً عن طريق آخر للنجاة..
كانت القذيفة التي انطلقت دخانية.. طلبنا قذائف أخرى من حدك.. جاءوا بصناديق مغلفة وعند استخدامها تبين أنها تنويرية.. هكذا بدأ كفاح يطلق القذائف الدخان والتنوير ويصيب الأهداف لكنها قذائف غير مؤثرة.. طلبنا جلب قذائف جديدة.. أتونا بقذائف لمدفع ستين ملم وبين مناورتنا ودفاعنا تدخل الطيران وبدأت الهليكوبترات تقصف المدينة مما اضطر السكان لمغادرتها والتوجه نحو معبد لالش عبر ممرات مفتوحة.. وفي حدود الساعة الحادية عشر صباحاً تمكن الجيش من تطويق المدينة من محورين.. كنا ما زلنا في مواقعنا نقاوم.. حينما اقتربت منا الطائرات.. لم ندرك ما حل في الخطوط الخلفية.. بعد أن تحولنا إلى مجموعة مستهدفة.. قررنا التوجه نحو المقر مبتعدين عن خطر التطويق.. كان الجيش يركز هجماته الصاروخية وبالقرب المستشفى الوحيد في الشيخان .. حامت فوقنا هيلكوبتر.. أمرت البطل عبد الستار المزوري توجيه قذيفة نحوها فابتعدت.. هالنا ما نرى من فراغ المدينة وخلوها من البشر والمقاتلين!!.. الشوارع فارغة!!.. المقرات متروكة!!.. والقصف مستمر ويشتد.. عند وصولنا لبيت عمتي قلت لها سنغادر المدينة.. أخذت حقيبتي وبقيت حقيبة أبو أفكار عندهم.. في المقر قررنا مغادرة المدينة بعد أن احكم الطوق علينا من جهتين.. أخذنا بعض ملفات الأمن وقذفت بالحقائب إلى بيت مهجور خالي من السكان.. قبل أن نتحرك نحو البيوت في أعلى المدينة انطلقت نحونا أطلاقات من عدة أماكن.. تبين فيما بعد أن كوادر حزب البعث وعدداً من عناصر الأمن كانوا مختبئين في المدينة ولم يتمكنوا من مغادرتها يوم الانتفاضة.. شكل هذا خطورة حقيقية لم نتحسب له.. بعد مناورات وحركات سريعة وصلنا الجدار الشمالي لآخر بيت في المدينة على الطريق المؤدي للالش .. بعده ليس إلا شارعاً مكشوفاً للطائرات التي كانت تحوم ويمتد طويلا بي التلال والشعاب المؤدية إلى لالش.. كنا نشاهد المئات من النساء والأطفال والشيوخ يتوجهون في حالة فوضى ومهددين بملاحقة الطيران ومدفعية الجيش و دوشكاته..
عند الجدار الأخير وقبل أن نغادر نظرت لساعتي كان الوقت يشير إلى الثانية عشرة بدقائق لا تحسب.. وأثناء التصاقنا بالجدار.. شاهدنا فتاة برفقة أمها تبكي.. قالت موجهة كلامها لنا:.. لستم رجال.. تحملون السلاح وتتباهون به.. لكنكم لستم رجال.. كانت تنتقدنا بغضب مكررة وصفها.. تقدمت نحوها وقلت لها:.. لسنا رجال تفضلي هذه بندقيتي.. ماذا ستفعلين أكثر من الذي فعلناهُ؟.. منذ خمسة ساعات نقاتل وحدنا.. نحن شيوعيون وفي لحظة انسحابنا الآن لم نشاهد بشراً في المدينة.. نحن إن لم نكن رجال تفضلي هذه بندقيتي.. سأكون ممتنا لك إن كنت ترغبين في مواجهة.. رفعت يدي للسماء.. نحو الهليكوبتر التي كانت تواصل قصفها.. وان كنت بحاجة للمساعدة سنساعدك.. قالت: أنا بنت سيو أو سيسي لا اذكر.. وقعت قذيفة على دارنا وجرحت أخي الذي بقي في الدار.. أذهبوا انتم الوحيدون من قاومتم شاهدناكم من الصباح تتوجهون لمواقع القتال.. عبرت عن أسفها.. قلت لها: إن كنت ترغبين في جلب شقيقك ويمكن الوصول إليه سنحاول معك.. قالت:.. أشكرك.. فقط أرجو أن تنقذوا أنفسكم.. أتمنى لكم السلامة..
طلبت من الأنصار التحرك السريع نحو الوادي الموازي للشارع لمسافة كي لا نكون هدفاً سهلاً للدبابات المواجهة لنا التي اتخذت موقعها في شرق المدينة والمستحكمة بطريق لالش.. وبعد مسافة عدنا إلى الشارع الذي أصبح يفصلنا عن الشيخان بالتواء صخري محمي.. بعد مسافة قصيرة من سيرنا في الشارع وصلنا جرار زراعي محركه يدور دون سائق.. يبدو انه غادرَه في لحظة صعبة وقرر الانفصال وتركه. مما دفع فرهاد لقيادته و به قطعنا مسافة أخرى.. لكنه توقف عن الصعود بسبب عدم وجود الديزل فيه.. لأن صاحبه استبدل الديزل بالكاز الأبيض الأقل طاقة فتركناه وواصلنا طريقنا سيراً على الأقدام إلى لالش .. هكذا غادرنا الشيخان المحررة بتاريخ 28 آذار بعد أن مكثنا فيها 13 يوماً..[1]