#صلاح بدرالدين#
التجربة الشخصية للشاعر الكردي السوري – قدري جان – تلخص لنا العلاقة التاريخية التفاعلية بين السياسي ، والثقافي ، والتنازع حول الأولويات في الأفكار ، والتوجهات الأممية ، والقومية ، والوطنية ، عندما بدل وجهة كعبته من موسكو الى بارزان .
في اول زيارة وفد حزبي رسمي من الحركة الكردية السورية الى المناطق المحررة بكردستان العراق بعد اندلاع ثورة أيلول عام 1961 ، استقبلنا الزعيم الراحل مصطفى بارزاني ( الشهيد محمد حسن وانا ) في مقره الشتوي – قصري – بمنطقة بالك ، والى جانبه الراحل ادريس بارزاني ، في بداية حزيران 1967 ، ومكثنا بضيافته بحسب البرنامج المقرر يومان ، وكانت لدينا ليلتان للمحادثات ، نستكملها بعد ذلك بالمكتب السياسي للحزب الشقيق ، وفي الليلة الأولى ومابعد طعام العشاء ، افتتح بارزاني اللقاء حول اربعة شخصيات كردية سورية وهم ( اوصمان صبري ، و د عصمت شريف وانلي ، وخالد بكداش ، وقدري جان ) ، وانطباعاته حول كل واحد منها بكل صراحة ووضوح والتي غلب عليها النقد والعتاب مع شيئ من الاستحسان ، ويجب الاعتراف اننا وفي تلك اللحظات النابضة بالمشاعر الجياشة من تاثيرات اول لقاء مع شخصية عظيمة مهيبة ، لم يكن هناك متسع حتى للتفكير بمغزى افتتاح بارزاني اللقاء حول تلك الشخصيات ، ولكننا فهمنا فيما بعد ان ماقاله كان بمثابة رسائل ، وتوضيحات ، لها مغزاها العميق حول القضية الكردية ، وتطور الفكر القومي ، ومضار الكوسموبوليتية ، واخلاقية العلاقات القومية واصولها ، وشروطها .
في تلك الجزئية من المحادثات فقط كان لدي تعقيب على التساؤلات الغاضبة المتعلقة بالمرحوم اوصمان صبري ، واعتقدت حينها انني قدمت الصورة الإيجابية الملطفة عنه ، وصححت جوانب من النظرة السلبية تجاهه ، فقد كان سكرتير حزبنا آنذاك ، ولم يكن من وظيفتنا التطرق الى مسائل الاخرين الذين لم نكن على بينة من امرهم اكثر من بارزاني ، وفي هذه العجالة ، وبمناسبة حلول الفعاليات السنوية الثقافية لذكرى الشاعر والاديب قدري جان ، اكتفي بتناول بعض جوانب سيرته استنادا الى ماآخبرنا عنه بارزاني في الجزء الافتتاحي من تلك الجلسة ، وقد اعود مستقبلا الى الاخرين بظروف مناسبة .
حدثنا الزعيم الراحل ان الشخصية الثقافية الكردية السوفيتية – قناتي كوردو – الذي كان على علاقة وثيقة به ، اقترح عليه الاستجابة لرغبة شاعر كردي سوري باللقاء به ، يزور موسكو ضمن وفد الى مؤتمر الشباب العالمي السادس في تموزعام 1957وهو الشاعر قدري جان ( 1911 – 1972 ) ، فاستقبلته ( والكلام لبارزاني ) في منزلي بحضور كوردو، وطلبت منه القاء قصائد من شعره ، فاسمعنا ابياتا كلها تمجيد بالاتحاد السوفييتي ، والمبادئ الأممية ، ومن دون اية إشارة للكرد ، وحقهم بتقرير المصير ، وبعد كل عدة ابيات تتكرر اللازمة ( كعبا مة موسكفايا ) أي كعبتنا موسكو ، فخاطبته قد تكون شاعرا جيدا ولكن المضمون لايعجبني فلماذا لاتكون ( كعبتنا ) مهاباد ، او السليمانية ، او دياربكر ، او قامشلو ؟، وبعد نحو عامين زارني في بغداد حاملا معه رسالة تهنئة بعودتي ، وقصيدة جميلة عصماء، بمثابة نوع من الاعتذار ، وتاكيد على صحة ملاحظاتي له بموسكو ، ولاشك انني قدرت له ذلك .
القصيدة المشار اليها ( بارزاني هات أو عاد بارزاني عاد الأسد الى الوطن - أشرقت شمس كوردستان - ابشركم عاد البارزاني - لقد عاد الأسد الى عرينه ...) من اهم وأغنى ما صدر عن قدري جان ، تعبر عن تحول فكري وانحياز لافت الى النضال القومي والوطني الكردستاني لدى الشاعر ، فهو كان متعاطفا مع قضية شعبه قبل ذلك بلاشك ، كيف لا وقد ذاق الام ومعاناة التهجير القسري من نظام اتاتورك الشوفيني ،ولكن من منطلق مفهوم الحزب الشيوعي السوري الذي كان عضوا فيه واعتقل في سجن المزة 1959 – 1961 بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي ، ، وبمعنى أوضح مدى خدمة القضية القومية الكردية للقضية الأممية كما يراه ذلك الحزب ، ومصالح الكفاح ضد الامبريالية ، وصيانة ( أنظمة التطور الوطني !!) ومن بينها نظاما البعث في سوريا والعراق .
عاصر قدري جان شعراء كرد سوريين من جيله مثل جكر خوين ، واوصمان صبري ، واللغوي رشيد كورد وغيرهم ، وهم جميعا كانوا يعتنقون الفكر القومي بشدة وبتوجه يساري ديموقراطي ، وكان الاختلاف ظاهرا ، حيث التزام قدري جان الحزبي قد أخره قليلا للتعبير عن قناعاته الحقيقية التي فجرها في قصيدته ( بارزاني هات ) ، واصطدامه أحيانا وقبل ذلك مع اقرانه من الشعراء القوميين اليساريين ، فهناك قصيدة للشاعر الكبير – جكرخوين – يرد فيها على قدري جان بالتالي :
Hey qedrîcan efendî xortê delal u cindî
Reşbeleka te şandî minê xwendî birindî
Hersê pirsê tegotin weku tîra limindî
Ewjî fida çavête tu xortekî lewendî .....
كما يظهر من مضمون الابيات ( أيها الشاب الرائع قدري جان افندي ، قرأت رسالتك باهتمام ، بعض كلماتها كانت كالسهام ، ولكنني اعذرك لانك شاب وسيم ... ) وكما اعتقد فان الرسالة كانت تحتوي على نقد جارح لنهج جكرخوين المغالي بالمشاعر القومية حسب نظرة قدري جان في ذلك الوقت ، والتي كما ذكرنا نابعة من التزامه بموقف الحزب الشيوعي السوري ، ولكنه لم يظل كذلك بسبب تاثير أصدقائه البدرخانيين ، وكذلك المرحوم قدري جميل باشا ، كما كان لقاؤه بالبارزاني بموسكو لحظة فاصلة في مساره الفكري كما أتصور .
من جهة أخرى لا اتفق تماما مع الذين يعتبرون الشاعر قدري جان من الشعراء الحداثويين الكرد ، أولا بسبب العدد المحدود من قصائده المنشورة وابرزها القصيدتان المعروفتان حول جمهورية مهاباد ، وعودة البارزاني ، وحتى الأولى كانت سياسية ففيها تهجم وإدانة لنظام ايران ، والسياستان الامريكية والإنكليزية وهذا جائز ، ولكن من دون ابداء اية ملاحظة نقدية على الموقف السوفييتي الصامت ، والشاهد على الجريمة .
هناك نوع من التقليد من طرف بعض كتابنا بشأن ( الحداثة والحداثوية ) فهي بلاشك ظاهرة كونية ، ولكنها تحدث عادة في مجتمعات شعوب أنجزت مرحلة التحرر الوطني ، ونالت الاستقلال ، ولامست عجلة التطور الاقتصادي ، والعلمي ، والتكنولوجي ، وانخرطت في العولمة ، وكما أرى فان مقياس الحداثوية بالخصوصية الكردية هو مدى الالتزام بقضية الشعب الكردي ، وحقه بتقرير المصير ، وهنا لااشير الى تحديث اللغة ، والقافية ، والاوزان بل اقصد المضمون والجوهر ، ومدى الترابط مع التاريخ ، والظروف السياسية الموضوعية السائدة ، فالشاعر جكرخوين مثلا هو الاب الروحي للمضمون الحداثوي بالشعر الكردي المتناغم واقعيا مع تطور الحركة الكردية ، والصراعات الاجتماعية الى جانب اعتباره من الشعراء الكلاسيكيين في القوافي والاوزان ، فهل علينا حجب الحداثة عن اعمال الشاعر الأهم في العصر الكردي الحديث ؟ .
التقيت بالراحل مرة واحدة بدمشق صيف عام 1966 في احد المقاهي ( اعتقد مقهى الفردوس ) خلال شرحي لماحصل للوفد الوطني الكردي من الجزيرة للراحل قدري جميل باشا وشخصيات أخرى من حوله ، ذلك الوفد الذي تشكل بناء على مبادرة – حزبنا سابقا – للقاء مع رئيس الحكومة يوسف زعين وتقديم مطالب كرد الجزيرة تتعلق باالاراضي ، والمحرومين من حق المواطنة ، والذي لم يتمكن من لقائه .
وهنا أؤكد انه من حق رواد الفكر القومي ، والثقافة الكردية ، ومن بينهم قدري جان علينا جميعا ، العودة الى تاريخهم النضالي ، ونشر نتاجاتهم ، وابداعاتهم ، والاستفادة منها ، والاحتفاء بهم بشكل لائق ، ومعرفة ظروفهم الحياتية ، وماعانوه من مصاعب ، وماواجهوا من تحديات ، وكذلك الإشارة بامانة الى تحولاتهم الفكرية ، والثقافية التي ستشكل دروسا مفيدة لجيلنا الراهن .[1]