عبد الباقي يوسف
لا تقتصر عاطفة الحب على الإنسان فحسب، بل تمتد لتشمل حياة الحيوان والنبات والجماد. كل ما في الطبيعة يستمد ديمومته وتواصله مع مقومات الحياة من خلال هذا السر الذي يجعل من الحياة أمراً ممكناً.
إذا نظرنا إلى العصافير، سنرى علامات الحب بينها، وكذلك إلى الحمام، وما إلى ذلك من أصناف الحيوان، ثم نرى ذلك في علاقة النبات، وكذلك في عالم الجماد.
في تراث الشعوب هناك حكايات ذهبية ترمز إلى قضايا ما، وهناك حكاية حب من التراث الكوردي، تُروى باختصار عن علاقة حب رومانسية بين نبتة جبلية تُدعى (الهلّكَوكِ)، وبين الثلج، وهنا سأضع الحكاية في قالب قصصي وأرويها:
إذن، هي نبتة رقيقة رومانسية جميلة اسمها الهلّكَوك،ِ تنبت في الأماكن القاسية من جبال كوردستان، عندما يهطل الثلج، ويتكاثف في الطبيعة الجبلية.
تظهر تلك النبتة الممّيزة بجمالها ورقتها ورهافتها إلى الطبيعة من قسوة الجبل، ومن صقيع الثلج. تنظر
حولها، فلا تلمح شيئاً سوى بياض الثلج الذي يكسو كل شيء من الطبيعة حولها، تولد بكل رهافتها ورقّتها في قلب هذه الطبيعة التي يكسوها بياض الثلج، ولا ترى حولها سوى البياض.
عندما يلمحها الثلج لأوّل نظرة، ينتابه شعور غريب بجاذبية نحوها، فلا يملك أن يتجاهل شعوره رغم كل ما يتمتع به من سطوة وجبروت على الطبيعة التي لا ينازعه في سيادته لها منازع.
يتأمل بديع ما أوتيتْ من جمال، ثم ما يلبث أن يتمتم لها، وهو يلامسها برقة وحنوّ: لم أكن أعلم أن لي قلباً إلاّ عندما وقع نظري عليكِ.
تشعر الهلّكَوكِ بكثير من الخجل على إطرائه، وتقول بصوت خافت يسمعه الثلج بالكاد: كم أنتِ محظوظة، وأنتِ تلفتين نظر سيّد الطبيعة في هذا الفصل يا هلّكَوكِ.
يهمس: الآن فقط، اكتشفتُ قيمة ومعنى لوجودي يا جميلتي.
تجيب بحياء جم: لقد غمرتني بلطفك يا سيّد الطبيعة. ثم تضيف: كأنك لسان حالي، تنطق بما يعتريني من مشاعر نحوك.
يمتدّ بينهما الغزل ثلاثة أيام وثلاث ليال، عندئذ يقول لها الثلج: ألتمس منك يا نبتة الجبل المباركة أن تقبليني زوجاً لك.
تقول: يا لتواضعك، ويا لرقتك يا سيدي، لي الرفعة أن أتشرَّف بهذا القران منك، لكن؟!
تَصمتُ النبتة ُتاركةً دموعَها تنهمر، فما يلبث الثلج أن يمسح لها الدموع الرقراقة وهو يقول: ما أبكاكِ يا سيدة فؤادي؟
تقول: ما أزال صغيرة العهد على الزواج، وإني لأرجو يا سيدي أن تمهلني بعض الوقت حتى يكبر حجمي قليلاً، ويشتدّ عودي، ما أزال في أيام ولادتي الأولى، وأنت في ذروة لياقتك وقوتك.
يكمل الثلج مسحه لدموعها، وهو يداعبها ويقول: أعتذر كل الاعتذار، لأن جمالك لم يدع لي لحظة كي أنتبه إلى هذا، لك ما تشائين، سوف أنتظر حتى تخبريني بأنك صرتي مهيأة للزواج.
بقي الثلج في حالة انتظار حتى جاء الربيع، وبدأت الشمس تذيبه من أعالي الجبال، ثم أخذ بياضه يخفت ويذوب من غصون الأشجار، ومن الطبيعة. عند ذاك، أحسَّت حبيبته أنها صارت مهيأة للزواج، فلم تتردد من مناداته قائلة: الآن يا سيدي يمكننا أن نحقّق حلمنا، هلّم واتّخذني زوجة لك.
يصمت الثلج دون أن يردّ، وعندما تنظر إليه مليّاً، تراه شاحباً، وقد نال منه الوهن، فتصدر منه نبرات خافتة: لقد خارت قواي، ولم أعد قادراً على الزواج يا جميلتي.
تنتحب النبتة قائلة: لكن لا عليك، أعاهدك بأنني لن أكون زوجةً لغيرك، لن أدع أحداً غيرك يمسني يا سيدي.
يبتسم الثلج بسمة شاحبة، ثم ما يلبث أن يتوارى، ثم تذبل النبتة حزناً على حبيبها.
على هذا النحو يأتي شتاء جديد، وتنمو النبتة مجدداً، لتتكرر ذات الحكاية في جبال كوردستان التي تشهد كل سنة وقائع هذا الحب الذي لا يتكلل بالزواج، وكل سنة تترقب هذه الجبال أن تشهد قرانهما.
هذه الحكاية الجميلة تذكّرني بقران الإنسان الكوردي بوطنه كوردستان، فعندما يقوى ويشتدّ عوده، لا يقف العالم إلى جانب قضيته، وعندما يتعرّض لعمليات الإبادة والهجرة والنزوح، يأتي العالم ليقف إلى جانبه، في ديمومة مستمرة، من أجل قيام الدولة العتيدة التي تترقبها جبال كوردستان على رأس كلّ سنة كوردية جديدة، كما تترقب اقتران الهلّكَوكِ والثلج.[1]