كتابة: فرهاد شاكەلي
ترجمة: سالم الحاج
اتبعت الشعوب والأقوام المختلفة، في مراحل متباينة من تاريخها، طرائق وسبلاً شتى للتواصل، حرباً أو سلماً، من أجل التعاون، أو في سبيل إبادة طرف آخر؛ على طريق البناء والتنمية، أو من أجل التدمير والسلب والنهب.. اختلفت السبل والوسائل، وربما كان أكثرها شهرة واتباعاً: الحروب والمعارك، والتجارة، ثم التأثيرات الثقافية.
وفي الحقيقة، فإن الثقافة والتلاقح الثقافي والحضاري، تظهر في النهاية كنتيجة وثمرة لتلك العلاقات والوسائل، فحتى الحروب والمعارك، بكل ما يتبعها ويرافقها من تدمير وتخريب، كثيراً ما تؤدي – في المحصلة – إلى تزايد العلاقات الثقافية وتبادل الخبرات الثقافية والحضارية بين الشعوب المختلفة.
وهذا التاريخ أمام أنظارنا.. فقد وصل اليونانيون، بالآلاف المؤلفة من جیوشهم، إلى إيران، ومصر، وغيرها. وغزا الإيرانيون الهند – مثلاً – أكثر من مرة، وجيشوا الجيوش ضدها.. لكنهم أخذوا معهم الثقافة والحضارة، الفن والدين، الطعام واللباس، واللغة والعادات والتقاليد أيضاً. إن شعراء كبار مثل ميرزا عبد القادر بيدلي الدهلوي (1642- 1720)، ومحمد إقبال (1877- 1938)، هم ثمرة من ثمرات ذلك اللقاء والاتصال.
القبائل التركية، في حينه، اتجهت نحو الشرق الأوسط وآسيا الصغرى، بهدف الإغارة والسطو، لكنها أصبحت فيما بعد جزءاً من الكيان والتاريخ الحضاري للمنطقة.
واحتل العرب المسلمون الأندلس، لكنهم نقلوا معهم العلم والموسيقى والفن والفلسفة والرياضيات واللغة والأدب، ومنها تسرّبت إلى بقية أنحاء أوروبا. والذين يبحثون في الأدب الكلاسيكي لأوروبا، يعرفون أن (دانتي اليكيري) (1265- 1321) استفاد فكرة (الكوميديا الإلهية) من (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري (973- 1057).
احتل الإنكليز حوالي نصف المشرق، لكنهم نقلوا معهم أيضاً اللغة والفنون والأدب والنظام البرلماني، إلى كثير من هذه المناطق. وفرنسا التي احتلت نصف أفريقيا، ودمرت الكثير من معالمها، أخذت معها لغتها وأدبها.. وهكذا شهد العالم نبوغ شاعر كبير مثل ليوبولد سيدار سنغور (1906- 2001)، في (السنغال)، ليصبح واحداً من أكبر شعراء الفرنسية في العالم، ويصبح عضو الأكاديمية العلمية الفرنسية.
وهذا جزء من قصة - وأيضاً من منطق وسياق - العلاقات بين الشعوب والأوطان؛ من ظهور وتطور وثراء ثقافي، سواء في صورة صدام أو تعارف حضاري.
إن مصادر المعرفة بالنسبة لشخص يعيش في هذا العصر هي كثيرة ومتنوعة، ولكن مدى الاستفادة من هذه المصادر ليس بتلك البساطة. فأنت - كقارئ ومتعلم - لن تستطيع الوصول إليها إن لم تعبر على جسر من اللغة إلى تلك السواحل المترعة بالعلم، الثقافة، الخبرة، فن وحضارة اللغة، علم اللغة، ذلك الطريق الذي يوصلنا إلى إقليم القراءة، والجسر الذي يربطنا بمراكز الثقافة والإبداع.. فاللغة هي ذلك المفتاح الذي يفتح لنا مئات الأبواب المقفلة، ويفتح أمامنا مداخل المدن والأوطان.
الموقع الجغرافي للكورد، ووقوع موطنهم في قلب الشرق الأوسط، ربما أضر بهم من الناحية السياسية، ولكنه – دون أدنى شك – كانت له فائدة كبيرة لهم من النواحي الثقافية والحضارية، حيث أعطاهم غنى له قيمته وأهميته. تاريخ الكورد والشعوب الإيرانية الأخرى تاريخ مشترك يبدأ منذ ظهور الجماعات والطوائف والأقوام في منطقة زاكروس. وقد تأسست علاقة الكورد مع الحضارة العربية والإسلام منذ أواخر عهد الساسانيين، عندما وصل الجيش الإسلامي إلى كوردستان وإيران..
لقد كانت للمثقفين والعلماء والكتاب والمبدعين الكورد مشاركة واسعة وكبيرة في تاريخ الثقافة والحضارة الإسلامية والإيرانية، وبرز منهم عشرات الأسماء اللامعة والمعروفة في تاريخ هاتين الثقافتين غدت صروحاً للثقافة والعلوم فيها. وإذا كانت مشاركة الكورد خلال عصر تاريخي مديد، هي ليست بلسانه، ولا باسمه، ولكنه وبعد ظهور الإمارات الكوردية في بدايات القرن السادس عشر، في مناطق مختلفة من كوردستان، فإن الثقافة واللغة الكوردية قد تطورت، وأصبحت أساساً للسان أدبي وأسلوب شعري، ساهما في تكوين ذلك الكنز الثقافي الذي نطلق عليه اليوم اسم الشعر الكلاسيكي الكوردي.
عندما تقرأ كتاب (الشرفنامة) لشرف خان البدليسي، تعجب من هذا الرجل الذي يمتلك شعوراً قومياً عالياً، إلى درجة أنه كان يفكر بحدود كوردستان، ويحاول أن يجد تعريفاً للوجود الكوردي؛ من حيث اللغة، ومن الناحية السياسية. كان (شرفخان) يقرأ الماضي أيضاً بطريقة واعية، وكان يأتي بأسماء العلماء والمشاهير والصالحين الذين يظن أنهم من الكورد، ويثبت هويتهم الكوردية. وهكذا نجد أن هذا الشعور القومي يرتقي عند مبدع كوردي مثل أحمدي خاني إلى مستوى أعلى بكثير.
ربما لا نستطيع نحن أن نؤكد - على أسس علمية رصينة – على مدى الأبعاد التاريخية والفلسفية لحضارة كوردية، أو كوردستانية، متميزة. وهذا النقص هو ثمرة ذلك التقارب الجغرافي والسياسي والتاريخي مع الحضارة العربية والإيرانية والإسلامية. كمحصلة مباشرة لهذا التقارب ما نراه ينعكس في مجال المقارنة: أن حضارتنا، وثقافتنا، افتقدت الظهير السياسي القائم على القوة، قوة الدولة. وهذا الضعف أو النقص أصبح جزءاً نفسياً من شخصية الإنسان الكوردي، كثيراً ما يدفعه نحو الانهزام والحيرة والقلق، وأحياناً يجرّه إلى اتجاه آخر ومواقف متطرفة غير مبرمجة، ولا مسؤولة.
هذا القرب الجغرافي والتاريخي والسياسي له جانب آخر، كان يجب أن نستفيد منه بوعي لبناء ثقافتنا، بل ولبناء الشخصية الثقافية والحضارية للإنسان الكوردي.
ربما أمكن، على المستوى الفردي، قراءة هذه المعادلة بصورة أكثر بساطة وذكاء، وجعلها جزءاً من نضالنا السياسي والاجتماعي اليوم. ولكن الحقيقة المرّة هي أننا لم نستطع بأي شكل – كقوم، وكسياسة قومية عامة – الاستفادة من هذا الكنز الكامن بالقوة في وجودنا الجغرافي والتاريخي.
وحسب معرفتي، لم تستطع أي قوة سياسية، أو حزب، في كوردستان، أن تقترب - بصورة علمية وعملية - من هذه الحقيقة البسيطة، ولكن الحضارية المتجذرة، وتجعلها جزءاً من مشروع سياسي يعطي ثقلاً فكرياً لتوجهاتها وأهدافها.
أنا أتفهم أن يكون بعض هذا الحذر والاحتراس هو رد فعل للمواقف غير الصديقة لدولة إيران وبعض الدول العربية، وثمرة لها، ولكن كان على الحركة التحررية الكوردية - أعني القيادات السياسية لهذه الحركة - أن تضع وتؤسس، في إطار طرح فكري وثقافي، مبادئ فكر أشمل وأوسع، بحيث لا تضعها جزئيات السياسة اليومية للمنطقة تحت المساءلة.
هناك عدد قليل جداً من بين المثقفين الكورد، ممن فهموا أهمية القرب الجغرافي والتاريخي والسياسي للكورد مع الحضارة العربية والإسلام وإيران، بحيث أصبح ذلك الفهم جزءاً من البنية الفكرية والثقافية لهم.
إذا كانت القوى السياسية، سواء بحكم تأثيرات الواقع السياسي، أم بحكم قصر النظر السياسي، زاهدة في فائدة طويلة المدى، وتفضل عليها الفوائد اليومية العاجلة، فإنه كان ينبغي أن تكون هذه القراءة أيسر منالاً، في ميدان الفكر والثقافة، وأن يكون لها فيهما حضور أقوى، وأشمل.[1]